صوتك يزعجني
هأنذي جالسة صامتة ، كجندي خسر آخر رهان لديه ، هل تعرف من الجندي؟ إنه الذي تدفعه الأشياء بلا رحمة ، ليقتل كل الذين تدفعهم كل الأشياء الى الميدان. ثم يقرب وجوههم من صدره هكذا ويصلي - يا أخي - على أرواحهم . لكنه يبتسم أحيانا ذلك الجندي عندما يخسر آخر رهان لديه. و لا يبكي مرتميا في حضن امرأته. هل تعرف لماذا لا يبكي مرتميا في حضن امرأته؟ لأنها عادة ما تكون واقفة خلف الباب تتسمع خطواته، تفتح الباب قبل أن يطرقه، وتجري عليه، تدفعه خارجا بثقل بكائها على غيابه. هل تعرف معنى أن يحضر فتحدثه عن غيابه؟
في الليل سنطل معا من شرفة قطار كجنديين قتل أحدهما الآخر. أقول لك نجوم الأرض أكثر من نجوم السماء مشيرة الى أعمدة النور ومصابيح المنازل ، لأن الأرض لا تحب كتمان سر سكانها، أقول لك رأيت بجعة بيضاء تطير مزهوة بجناحيها، لكنك لا تراما وأنا لا أؤمن بالهلاوس .
هل رأيت الدم من قبل ؟ لونه أحمر، دماء الخراف لزجة. لابد أن الدم البشري لا يختلف كثيرا. ترى، لو وضعنا مكان وجوهنا ألوان دمائنا، فهل كنت تعرفني؟ جرب النزول إلى الميدان من الصباح إلى المساء حيث يتدفق مصابو الحرب بأعضائهم المبتورة المتهدلة كالماء. أحياناً يسمونهم الشحاذين وأحياناً يسمونهم المجانين. أنا أيضاً لي أسماء عديدة أنادي بها نفسي سراً كتعويذة تعيدني إلى محارتي حيث أتضخك كلؤلؤة ابتلعت أنواعاً شتى من الجراثيم. هل تعرف أنهم هكذا يصنعون اللؤلؤ؟ لكنهم لا يقولون ذلك عندما يعرضونه في الفترينات.
أنزل إلى الميدان ودماء الحيض تسيل بين فخذي. لا أحب أن يزعجك هذا. فدماء الحيض تشبه تماماُ ألوان الدماء الأخرى. لكنها سرية كعوداتي. لهذا أتركها على الأرض كدليل أني مشيت، وكأثر يدلني عليّ لو أردت التراجع.
الحذاء الذي أرتديه حذاء أختي. فلا تنخدع لو تخطيت به الإشارات الحمراء. اخترته وحده من صندوق الأمتعة القديمة النازل من خيط عذرية ما قبل زواجها. لا بد أن هذا الحذاء قد دار في رقصات حلزونية ضاربا الأرض بانفعال حلاوة روح المذعنين للأشكال الاجتماعية.
أختي تلد طفلا في فبراير، وتمنعني من حمله على قدمي الآثمتين بينما تردد بصوت هامس أسماء ابتدعتها للنهر أو الإثابة كتمرين على مسؤوليات الأمومة. لكنها لن تشتهي الورود الحمراء كالدم ، الحمراء الطليقة كالصراخ الحر، والتي تلفظها بطني الخاوي. ألهذا فعلا ينجب الأبناء أحفادا؟ ليجد آباء الأبناء من يحبهم؟ ليجد الأبناء ما يهبونه لآبائهم لغفران أيام العقوق الأولى؟
ألم أحك لك حكاية الغزالة يا صغيري؟ كان ياما كان في سالف العصر والأوان -لأن التاريخ صار من الماضي- كانت هناك صحراء تكدست خبأت الرمل فيها لدرجة الاختناق ، وكانت غزالة تائهة تبحث عن قطيعها. قالت للرمل صادقني فأجابها بشرط -في ذلك العصر كان هناك شيء يدعى صداقة، وكانت مشروطة- بشرط أن تثيري حباتي كلما جريت فتنفس هكذا قبل الغزالة شرط الإثارة، ومرت أوقات سعيدة حتى أدركت الغزالة القطيع فالتفتت للوراء، كانت القصة تمرح خلف ظهرها.
لكن الغزالة سرعان ما اكتشفت وضعها كعدد لا يختلف عن غيره فثارت كالرمال راغبة في التنفس ، عندئذ هلل الصيادون لشرود غزالة ، وانطلقت نافورة من الدم تزين لهم الميدان . قالت الغزالة لجنين كان في بطنها: "ما الذي يفيدني لو رجعت لي ؟ الناس ترجع الى ربها على كل حال .. سأفرك لك بعضا من البتلات الحمراء. تمنى أمنية الرمش على الخد باليمين . هل ترى هذه الشجرة ؟ فروعها دموية كالشمس . سر كهذا لا يجب أن يتقاسمه أكثر من اثنين ، احدهما الشجرة . تقطر من عيني لؤلؤة كلما رأتها فهل تأخذها ثمنا لحفظ السر؟"
بالأمس حلمت أني دمية على هيئة خروف أحاول تعديل أزرار آلة بحجم جدار في هيستيريا لأستعيد صورتي، بينما هناك من يحاول أن يركبني متأهبا للحظة الذبح. أفسدت الحلم حبال من دمي. هل سقطت عليك بعض القطرات؟ صرخت ليوقظني أحد لكن أحدا لم يوقظني . بنصف صداع ونصف ذاكرة تساءلت أين ذهب الباقون . لم يكن الوقت فجرا ، ولم تكن رؤيا مجرد أضغاث أحلام _ أي الأحلام التي تزج بها الشياطين للناس فتعذبهم بها _ ماذا فعلت للشياطين ليسوقوا أشيائي ، ويعرضوها على أنوف الكلاب كلما حاولت الفرار؟ هل تعرف المهانة ؟ أن تضطر لشراء كرامتك بالتقسيط الممل لأنك لا تملك شراءها دفعة واحدة وتكون غير مقتنع أساسا أنها الى هذه الدرجة معروضة في الفترينات.
هل تعرف أمي ؟ إنها هناك تغزل بالتريكو بلوفرا لي مثلما كانت تفعل نساء الثورة الفرنسية ، كل غرزة باسم شهيد تريد أن تنتقم له أو عدو تريد أن تنتقم منه. لا أعرف إلا أن البلوفر يشغل باسمي. أقول لأمي : "أتركي البلوفر وتحدثي معي " فترفض لأنها تريد أن تصنع لي بلوفرا ، أقول لها :"أتركي البلوفر وكلي معي" فترفض لأنها تريد البلوفر أقول لها : "أتركي البلوفر وتعالي نخرج للنزهة " فترفض . تريد البلوفر لي ولا تريدني لنفسها. هل تعرف كيف يتدفق شعور في الهواء أنني أحدثها بينما تطبخ أحدثها بينما تنشر الغسيل ، أحدثها بينما يزداد تركيزها مع فيلم الظهيرة الأجنبي، وعندما يملؤني الصمت ، تقول للضيوف "طبعها صموت منذ الصغر".
هذه وربة باب عن أمي . لا يمكنني أن أفتح الباب أمحو، ربما تكون نائمة أو نازعة منديل رأسها أو عارية تقيس كرمشات البطن بعد خمس وعشرين سنة من يوم الولادة . مسكونة بهاجس التخلص من التاريخ ، تشد الكورسيه وتلعب التمارين الرياضية . أمي ضئيلة جدا كثقب أسود في الفضاء. كبيرة جدا كثقب أسود في قلب إله . وهذا أمر خطير. لأنه لو صار قلب إله مهددا، سينتشر في الدنيا فزع شرس من الموت ، بينما ستزداد الهوة بين قلوب البشر اتساعا هوة سيسقط فيها الملايين على جذور رقابهم، ويسيل الدم النابت من الجذور متتبعا أقدام المذعورين حتى يلتف حولها كثعبان سام . يتخشب المذعورون كمن أعدموا بالكهرباء . ولن يكون هناك يشد "الكوبس " ليعيدنا الى ألعاب الطفولة . أمي طبعا لا تعرف كل هذا لأنها منهمكة في شغل البلوفر.
ذات ليلة لم يوقظني فيها أحد ظهر لي عزرائيل على هيئة نحلة تريد أن تلسعني كنت كلما أقترب من جزء من جسمي أنحرف به بيدا. هكذا هوت أبدو للرائي من الخارج مجرد فتاة ترقص في السرير. بينما عزرائيل يصوب نحوي أحد خدامه. تنين بجلد سميك مرصع بقشر السمك يجثم على صدري فأغوص في النوم أكثر. هكذا يصبح النهار معجزة وأولد امرأة أخرى. وأقول لنفسي : مازلت،برغم كل شيء تستطيعين التنفس. أدخن سيجارة لأتحقق من زفيري. ثم سرعان ما أجهض الصور التي يشكلها الدخان في أركان البيت قبل أن تباغتني أمي بعودتها من العمل. وأجتهد في الاختباء وسط اللعب. الدمية تفتح عينيها وتفلقهما لو أدرت أسطوانتها ستضحك ولو قلبتها ستبكي الدمية.
تستطيع أن تمشي وأن تقول بابا وعاما لكنني أتميز عن الدمية بأطراف لا تنخلع مهما رميتني لأصطدم بالجدران . ثم إني مع كل هذا أستطيع التنفس . لم يأت أحد ليأخذني من مخزن اللعب . لكنني لم أعد أخشي على جسدي من ترابه المتراكم. أخشي فقط أن أعطس فينكشف أمري كواحدة من الأربعين حرامي الذين صنعتهم من فضلات قماش فساتين أمي ليؤنسوا حكاياتي فلا أعود أخاف من الدمى التي تظهر لي في النوم ، والتي عندما أفتح عيني في الصباح . بنصف صداع ونصف ذاكرة ، تتبعني الى اليقظة وتستمر في مطاردتي فأصرخ ليوقظني أحد. تقول أمي إنها مجرد ملابس مبعثرة في الظلام بين الشماعة وأرضية الحجرة . وأنا يزداد يقيني أن العفاريت لا تظهر إلا لي، فأصنع عفاريت قماش على شاكلتها،لتحاربها من أجلي . لكنني سرعان ما أدركت ميزة أن يظهر لي عفريت وينتخبني وحدي لرؤيته من دون الآخرين.
حكى لي العفريت أن أهل هذا البيت يهدرون كرامة سبت الغسيل إذ يلقون اليه بالملابس بعد أن نالوا غرضهم منها. وحكت لي الملابس أنها لا تجد من تتقاسم معا أحزانها التي بدأت رائحتها تفوح بأهات مكتومة إلا هذا السبت الرقيق. حاولت أن أصلح بينهما لولا أن الأحذية منعتني. بخبراتها المكتسبة من امتياز النزول الى الشارع علمتني أنه لا فائدة من محاولة تغيير العالم. حكت لي أنها ذات مرة أعلنت التمرد على أهل البيت الذين لا يسكتون عن وضع أقدامهم في أفواهها فقادت مسيرة صامتة مغلقة أفواهها الى الأبد. عندئذ لم يكن من أهل هذا البيت إلا أن القوها في المخزن حيث فئران كثيرة وتراب يأكل جلدها. هكذا اكتشفت الأحذية أن لأهل هذا البيت طرقا رادعة للعقاب فاضطرت للخضوع الى رغباتهم المهينة مستسلمة لقانون تبادل المنفعة، إذ حظيت بعد ذلك بحمامات دورية من الورنيش تعيد إليها فضارتها.
هأنذي أحكي لك عن أشياء ربما لا ترغب في سماعها، لأنها لو بدت لك ستجعلك رقيقا الى حد الكسر، ولو اعتنقتها ستصبح غير مقبول من قانون الجماعة . لكنني مع ذلك أستحلفك أن تسمع حكاية الحجرة ولو مرة واحدة في حياتك، قبل أن تغادرها. كل ليلة كانت الجدران تبكي . لم يكن يحيطها بيت ولا يعلوها سقف أو يقبل شفتها باب، وكانت ترى في السماء سحابا تبني النجوم لنفسها عليه بيوتا، والمسكينة الجدران بدأت تنشع ماء من كثرة البكاء وكادت تنهار.
ذات ليلة سقط سقف سهوا من يد النجمة ، وأخذ يصرخ بحركات انتحارية أن يتلقفه أحد. لما سمعته الجدران راحت وجاءت محاولة أن تثبت في موقع نزوله. حتى تلقفته على قوائمها. أخذ السقف نفسا عميقا وسألها ما الذي تبغيه لرد الجميل. قالت الحجرة عين لك علي فتخبرني بصورتي، وعين على السماء تخبرني بها وأتني بنافذة وباب لأكتمل "سمعا وطاعة" أشار السقف لنافذة وباب فهبطا الى الحجرة.
في الصباح نادى السقف الحجرة أن أنظري طلعت الشمس. ما شكلها؟ كرة من النار تطلق سهام أشعتها على عيني ونادت النافذة الحجرة أن أنظري يخرج الناس الى العمل ما شكلهم يتدافعون بعيدا كأنهم يريدون الفرار من أمام عيني ونادى الباب الحجرة الاّ تنظري فأنت لا ترغبين في النظر. قالت الحجرة صحيح . ليت عيوني هي عينك التي لا تطل على شيء فتغلقها من أجلي .
في المساء نادى السقف الحجرة أن طلع القمر وأطفاله النجوم. ما شكلهم؟ يتقافزون مجتازين حواجز السحاب كأنهم يريدون الهبوط نحوي ونادت النافذة أن أنظري عاد الناس لأحلامهم . ما شكلهم يتقلبون كأحلام في دماغ العمارة وقال الباب للحجرة يا حجرتي لا تنظري فأنت تتغذين على حرمانك بالنظر صحيح ليت عيوني هي عينك التي لا تطل على شيء وتغلقها من أجلي.
لم يمنع اكتمال الحجرة بكاءها أتفهمني ؟ ثم إنك هذه الأيام لن تجد بابا كهذا يجتمع بالسقف والنافذة من وراء الحجرة ليساورهما في سبيل إسعادها. قال السقف سأرسم من دموعها نجوما وقمرا على وجهتي المطلة عليها لتفرح . وقالت النافذة سأحرك ظلال البشر على وجهتي المطلة عليها لتفرح .وقالت النافذة سأحرك ظلال البشر على وجهتي المطلة عليها لتفرح أما الباب فقرر أن يصف لها من الآن فصاعدا أحلامها في الليل ثم إن الحكاية لم تنته عند هذا الحد.
بَنت عائلة بيتا ألحقت به الحجرة، ففتح الباب عينه التي لا تطل على شيء حتى ألهته أحداث العائلة عن متابعة الحجرة ، عندئذ قررت الحجرة أن تصيب حواسها بالعقم فتضامنت معها كل الجمادات وظلت صما، بكما، كفيفة ثابتة في موضعها تكره الإفصاح عن سرها للبشر الفاعلين للأحداث وتنتظر حتى يحل السكون لتمارس حياتها. تماما كالذين يكتبون في الليل ، عليك أن تصير جمادا لكي تعايشهم . أن تتخلى عن حواسك كلها لتنفتح عليك أسرار حياة أخرى.. هو شيء يشبه أن تتنازل عن وجودك للنوم.
أنت ميت الآن . لنقل أنت نائم فالأحلام التي تأسرك لن يتركك السرير معها للأبد، ثم إنك مازلت تصدر ذلك الصوت الذي يخرج من أنوف النائمين ليبرهنوا به أنهم عائدون بعد قليل .تحت هذا الأنف سأطبع علامة تستطيع ملامستها علامة تشبه جملة "حضرت ولم أجدك . أنتظرك على المقهى المقابل للنوم ". وهناك سأتذكر بيني وبين نفسي كم البلوزة السوداء الذي التمع احتراقا أثناء الكي بوميض فضي. عرفت ساعتها أن للروح وجودا ملموسا. وبالإمارة لونها فضي كم البلوزة مات احتراقا ليخبرني بهذا السر.
للجدران ميزة الا يردك أحد وأنت نائم إلا بإرادتك . أن تقول له مثلا "انظر لي وأنا نائم . كيف أبدو؟ هل افتح عيني بلا وعي مني؟ هل أغط في النوم ؟ هل أتقلب كثيرا؟ هل أخرج ريحا؟ هل أبدو ملاكا لطيفا؟ هكذا تجد من تحدد بصره بوجودك. فيجيبك بأنك وأنت نائم ، يبدو أنك تملك سريرا.