شيخ و أمنية
شيخ وخط الشيب رأسه، واشتعل حافظة وذكريات، هضيم تكاد تجاعيد وجهه تقول إنه تجاوز الثمانين. لحية قصيرة يتأنق في شكلها، وكأنها مرسومة على وجهه، يختبئ بعباءته المقصبة ويتكئ على وسادته كلما وهنت قواه.
على رف من خزانته تتكدس عشرات الكراسات، هي بمجموعها مختارات الحاج أو مؤلفاته، فإذا تطرقنا إلى موضوع فإنه سرعان ما يشير إلى كراسة معينة، يفتحها وكأنه يعرف تمامًا أين وجهته.
نأتي إليه ساعات المساء فنراه مستغرقًا في القراءة في كتب لونها أصفر، وطباعتها رديئة، يتصفحها من غير نظارة على عينه. يقرأ وهو يبتسم أحيانًا، يرفع تجاعيد جبينه آنا آخر، يهز رأسه يمينًا ويسارًا، أو طورًا من أعلى إلى أسفل.
إذا أمّ غريب منزله يصاب بالذهول، فكأن أمامه شريط تسجيل يتحرك،
وأما نحن فقد كنا نتلهف عن حكاياته، حتى لو أعادها أكثر من مرة، فهو يقدمها بصورة مغايرة ، وعلى طبق جديد.
يعشق السفر، كان في صباه يعلّم الكتاتيب في مضارب البدو، ويتاجر كالعطارين الذين يتنقلون على بهائمهم من قرية إلى أخرى، ولكن الربح الحقيقي عنده إذا تعرف على شخص يحب الأشعار والأسمار والكتب-
"كنز الكتب أفضل من كنز الذهب"- كان يقول ويشير إلى كتاب " المستطرف"! " انظروا لقد سجلت اسم ابني على الكتاب قبل أن يولد، بل قبل أن أعرف أمه".
حج إلى بيت الله الحرام. فأضاف إلى كراساته كراسة جديدة- :
" الحج سفر، صدقني "حجّة وفرجة".
صحبته في أكثر من سفرة، وعندما كنت اقلّه بسيارتي كان يسعد كطفل صغير وجد لعبته.
– -" في نيتي أن أزور القدس الشريف، فهل لديك متسع من الوقت لمرافقتي؟".
– " أتشرف بصحبتك، فأنا أبحث عن مصدر مخطوط في المكتبة الإسلامية".
وسارت السيارة صوب القدس.
تدخل في نفسية الشيخ:
شيئان لا أستطيع التحديق طويلا بهما: الشمس والموت. لن اكون نهبًا للفناء، خير الطرق للتنعم بما بقي لي من الحياة أن أتجاهل الموت. سأموت وحدي، وسيبقى العالم مستمرًا من بعدي، هذا الشارع ستمر من فوقه سيارات كثيرة. الناس الذين سيشاركون في جنازتي سينفضّون بعد ساعة، وينسونني في غمرة حياتهم، ساعي البريد سيتوقف عن زيارتي. جسدي سيأكله الدود.
لو يأتي الإنسان في جولة قصيرة بعد موته بعشرين سنة ويكون ضيفًا على أبنائه وأحفاده…لو
لماذا يحافظ الإنسان فقط من بين مخلوقات الله على موتاه ويعمل على صيانتهم؟ ربما لأن البشر يتهربون من الفناء والعدم.
ما لي وللموت؟ من يمتلك الحياة لا يمكن أن يخاف الموت.
عندما وصلنا القدس تبدّت عليه أمارات الإعياء، وسار ببطء وتثاقل، حتى وصل رحاب المسجد الأقصى فدبت فيه حيوية غريبة، نشط، وألقى نظراته في الرحاب. كان في عينه بريق أو دموع، وكانت حمرة الأجفان تنم عن ألم شديد.
قبة … مدافن… تكايا …، خطوط…، كل شيء هنا عريق. ربما صلى هنا صلاح الدين. وربما هناك خطب عمر. وها أنت يا جدي تصلي. عريق عريـــــــــــق!
مرّ بالقرب من بوابة الحرم جندي من( الفلاشا)، يحمل عصًا مدببة قد تكون أكبر من حجمه. تأوه الشيخ آهة طويلة، وهو يزفرها نحو الأعلى، حرك يديه بانفعال وكأن حكة أصابتهما، ارتجفت أسنانه، وما لبث أن أركن جسمه على عمود في صحن الحرم.
– "أتعرف، ممّ أخشى؟"
قلت وكأنني أتابع رحلة الموت:
– " أنت تخشى الموت فهذا طبيعي في جيلك".
– " نعم. أخشى الموت،..ولكن…"
– " ولكن ماذا؟"
– " قبل أن تكون صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي " وقطع جملته
وقال: "أريد أن أموت في وقت مناسب! أتسمع؟"
ونقل نظراته بيني وبين الصخرة وبين جهة السماء:
" أريد أن أموت في وقت مناسب".