بعض السجال مع أبي نضال
(في تأبين الناقد صبحي الشحروري)
1
في أوائل السبعينيات تعرفت إلى الكاتب صبحي شحروري، فكنت أتردد على مكتبته التي يملكها هو وأبو فراس، فأشتري كتبًا قد أحضرها صبحي بذوقه وانتقائه.
كنا ونحن نرتشف القهوة نتجاذب أطراف الأدب، وكنت ألحظ أن نقده حاد وجاد، وأنني لم أسلم من نقده لبعض قصائدي التي كنت أعتز بها كقصيدتي - قصيدة القناع "أنا ومحنة الغافقي".
قلت: لا بد من كيل الصاع صاعين!
وكان أن قررت أن أكتب عن قصة له أتناولها عن سابق قصد بالسلبيات، وأبين مآخذ عليها، وأنها بعيدة عن مقومات القصة الفنية.
وكان أن اخترت قصة "الحملة" فإذا بي أقرأها مرة بعد الأخرى، وفي كل قراءة أكتشف أبعادًا جدية جديدة، وبالتالي فهي ترمز إلى تخوف الناس من هجمة الاحتلال، وإلى وجوب الموقف الجمعي.
أحجمت بالطبع عن نقد المناكفة وأن أكون مغرضًا، فالقصة مميزة وفنية في تلاحم شكلها ومضمونها، وهي تضاف إلى "سلة تين" و "المعطف القديم" و "الزامور" و "الشيخ والقطار" وغيرها مما نشر في مجلة "الأفق الجديد"، حيث عرف عن صاحبنا أنه من جيلها، وكنت قرأت له كذلك قصصًا مما تيسر لي من مطالعة "الآداب" البيروتية.
وظل أثر قصصه في ذهني بما فيها من لغة رصينة محكمة النسج، وبما فيها من عمق في نفَسها وفي رسالتها. ... وهكذا قابلت صدق كتابته بصدق موقفي
2
تأثر نقد صبحي بالنقد الماركسي وفق اتجاهاته الغربية الحديثة، وما لبث أن توقف على البنيوية، وما بعدها، فالتفكيكية، فالمدرسة الألمانية الحديثة بدءًا من مارتن هايدجر وصولاً إلى أدرنو. كما أولى الكاتب اهتمامه في بلاغة الخطاب، وقد ارتآها في صور ثلاث:
بلاغة البرهان، وهي بلاغة منطقية غير تجريبية، ترفض ما لا يتفق معها، وتعتبره من أوليات القيمة، فاهتمامها أولا وقبلًا بالوظيفة في النص.
* البلاغة البنيوية العامة، وطابعها تاريخي، وهي ترتبط بالتجربة الشكلية، وطابعها علمي لا أيدلوجي. فقد سادت مع سيطرة اللغة على العلوم الإنسانية، وترى أهمية كبرى للتعبير الدلالي الفعلي.
بلاغة التحليل التداولي للخطاب، وهو منهج وظيفي مجاوز للبنيوية، ويعتمد على السيميولوجيا، فالبلاغة فيها تمارس الاتصال بين المتكلم والسامع، وأهم ما فيها نظرية التفاعل ونظرية التناص.
كان صبحي قارئًا متعمقًا، لا يكتفي بكتب العربية، بل كان يقرأ الإنجليزية ويترجم عنها، إضافة لما يتابعه من كتابات المغاربة مثل عبد الفتاح كيليطو ومحمد بنيس ومحمد مفتاح وغيرهم، وهؤلاء أخذوا عن الفرنسية الكثير والمجدي.
أعترف لكم أنني لم أستوعب كثيرًا من تنظيراته، وأرى فيها إقصاء عن الذوق وعن المرسلة، وعن مجمل النص.
ومع ذلك كنت معجبًا مما يطلقه من رأي، وأعجب باسترساله، وباستطراداته عن الشكلانية الروسية وتودوروف خاصة. فالنص في رأيه ليس بنية معزولة عن الواقع والتاريخ، فيجب أن ننظر إليه في ذاته، فهو ليس ملحقًا بصاحبه، بل هو إفراز مجتمعي، وهناك ضرورة قصوى للتحليل والتأويل، قبل أية إشارة لطبيعة العمل الفني.
قلت له: اسمح لي أن أقول ما خلصت إليه في النقد، وأنت الذي تحفز على الكتابة.
لي منهج وسطي في قراءة النص، فقد عمدت فيه إلى اعتماد الذوق، وإلى وجوب الدقة في الاستشهاد، إلى الدمج بين المعرفة ورسالة النص، فأنا لا أريد النص واضحًا بتمامه، فذلك يجعله سطحيًا مباشرًا، كما لا أريده أن يكون مبهمًا يؤدي إلى الانغلاق.
وهكذا قابلت صدق توجهه ومعرفته بصدق قراءتي للنص.
3
اكتشفت في جلسة من جلساتنا الأسبوعية أن صديقي شاعر أي شاعر.
كان يقرأ على مسامعي فأعجب، وكان له موقف أنه لا يريد أن يُعرف بأنه شاعر، فهو سردي في القصة وفي النقد. وما زلت أحفظ من غزله الجريء، فقد رأيت فيه طاقة شعرية تداعب المخيلة، وتجاذب الحس ومداعبة الحب.
أما في قراءاته فقد أحب السياب وعبد الصبور والشعر الصوفي عامة، حيث رأى فيه الشعر الصافي، ومن الشعر الإنجليزي كان يردد على مسامعي من شعر إليوت، ويذكر مآخذه على بعض الترجمات غير الدقيقة. .. وهكذا قابلت الشعر الصادق على لسانه بإفادتي منه مباشرة أو غير مباشرة، ولا أستطيع الجزم تمامًا إن كانت دراستي للقب الثاني عن لغة الشعر عند بدر شاكر السياب كانت بذورها الأولى في مكتبته ومن غرس يديه.
فإن كان ذلك كذلك فليس بِدعًا، فقد كان ذا صوت متفرد ومتجدد.