الأربعاء ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بواب الذاكرة الفظ

زينب عساف تتآلف شعرياً مع الكائنات

شوقي بزيغ - عن الحياة اللندنية

بهدوء واثق تتقدم الشاعرة اللبنانية الشابة زينب عساف الى الشعر. لكنه ليس الهدوء الذي يشبه الاستكانة أو التسليم بواقع الحياة وواقع اللغة، بل الهدوء الماكر الذي يعرف بحكمته المبكرة كيف يقول أبلغ الأشياء وأعمقها من دون أن يقع في الضجيج أو التهويل أو المبالغة الفجة. تتحرك تجربة عساف بهذا المعنى في أفق مغاير لمعظم ما نقرأه عند مثيلاتها، أو سابقاتها، من الكاتبات العربيات حيث يتم الرد على ذكورية الرجل الطاغية بكتابة «نسوية» مسكونة بالتمرد والعنف المضاد وإشهار الجسد الأنثوي سلاحاً في المعركة. لكن تلك الكتابة بإلحاحها على الحرية الجنسية وما يستتبعها من توظيف شهواني تقع من دون أن تعلم في شرك الذكورة التي تواجهها وتستدرج نفسها الى الساحة التي تزعم أنها ترفضها في الأصل.

في مجموعتها الجديدة «بواب الذاكرة الفظ» ( دار النهضة العربية 2007) لا تبدو زينب عساف مهمومة بهذا النوع من المواجهات ولا تتوقف عند موضوعة الجنس أو الرغبة بصفتها السؤال المركزي الذي تدور حوله حياتها كأنثى ولكنها تذهب بالكتابة الى بعدها الإنساني الصرف الذي يتعدى الثنائيات الضدية والحروب الجنسانية المتعسفة من دون أن تغفل حقيقة كونها امرأة لا رجلاً ومن دون أن يفقد شعرها لمسة الأنوثة الناضحة بالحنان والدفء. فالأنوثة هنا ليست اعتداداً نرجسياً بالنفس ولا مواجهة عدائية مع الآخر ولا دعوة لاستثارة الغرائز بقدر ما هي سبر لأغوار النفس وإدراك لجوهر الوظيفة والدور الموزعين بين حنان الأمومة وضراوة العشق. وفي جميع الحالات ثمة نزوع دائم الى الإقامة في كنف البيت العائلي أو الزوجي من دون أن يعني ذلك عزوفاً عن المجازفة أو تضحية بالحرية.

يبدو شعر زينب عساف في كتابها الأخير تعبيراً عن الحياة المجردة من كل زيف أو افتعال ومحاولة للكشف عن نوازع النفس الباحثة عن طمأنينتها لا عبر المواربة والتضليل والافتتان باللغة بل عبر الالتصاق بالحقيقة مهما بدت قاسية أو معذبة. وقصيدتها لا تتوانى عن الإشارة الى الأشياء والوقائع بوضوح بالغ من دون أن تخسر بعدها الإيحائي: «أنا الفراغ الذي احتله جسد يوماً/ لو رأيت نسختي الأولى لما احتجت الى الموت/ مذ قطعت أوردة النوم صرت غيمة لا تمطر إلا على غسيل يجف.../ ظننت للمرة الألف أنني سأستيقظ فجأة من حياتي/ لكنني أدركت في الثالثة عشرة أنني الى الأبد سأحزن/ أردت أماً لا يؤلم بكاؤها وأبناءً لا يبكون أبداً/ فقط قالوا لي: لستِ رجلاً ولم يخبروني أكثر...». هكذا تضع عساف إصبعها على الجرح من غير أن تتقمص طبائع الجلاد الأصلي الذي يحيلها بالولادة الى ضحية، ومن دون أن يمنعها الإحساس بالظلم من الإغراق في الحنو والعمل على بلسمة جراح السلالة وكفكفة دموعها.

ليس ضرورياً على الإطلاق أن تضع زينب عساف لإحدى قصائدها اللافتة عنوان «لا رغبة لي في تدمير العالم». فقصائدها منذ الغلاف الأول وحتى الأخير تنضح بالحب والعطاء والإشفاق على الأحياء من هول ما يكابدونه. ومع انها تدرك بعمق أن ثمة خطأ أصلياً نحمله كالوشم مع الولادة ثم يستمر عبر وطأة السلالة وقوة التقاليد، إلا أن مواجهته لا تتم بأن ننبت جذورنا الأم بل بأن نحدب على الحياة ونصوّب اتجاهها بالحب والشعر والإلفة مع الكائنات. وعلى رغم أن صور الطفولة لدى الشاعرة لا تبدو زاهية ووردية كما لدى شاعرات وشعراء آخرين بل تحمل في ثناياها الكثير مما يوحي به عنوان «بواب الذاكرة الفظ»، إلا أن ذلك لا ينعكس نقمة على أحد بل مجرد شعور بالمرارة يتقدم بين السطور ثم لا يلبث أن يخلي مكانه للتسامح والغفران: «ما ذنبهما إن كانا والدي ولم أكن ابنة أحد؟/ أحلم بسكين أقطع به الصلات كلها/ لكن حبال السرة نباتاتي الموحشة».

في شعر زينب عساف مع ذلك منازلة دائمة بين ثنائيات الخير والشر، التمرد والإذعان، الخيبة والأمل، الانتحار والحب، الانتماء والمنفى، الحياة والموت. وتبدو هذه المنازلة جلية تماماً عبر الانتصار للأمومة والخصب وحفظ الحياة في الكثير من القصائد حيث تتبدى الرغبة في تليين أرصفة العالم وتحويلها الى أسرّة وفي تدوير هذه الكرة كبطون الحوامل، في حين أن الشاعرة تذهب في أماكن أخرى الى التماهي مع رغبة أبي العلاء المعري في منع المأساة التي عاشها من أن تتكرر: «أتخدعينني أيتها الحياة/ تريدين أن أنجب لك إبناً نتعانق أنا وهو خوفاً منكِ؟/ أيتها الصدفة المقدسة/ يا أمنا غير المحبة/ قد أنجح في منعك من تكراري». وإذ تتماهى الشاعرة في بعض لحظات الضعف والوحشة والتخلي مع «نظرة النساء المنتحرات اللواتي أضرمن النار في جلابيبهن»، تتخلى في لحظات مغايرة عن الألم الذي يعتصرها، ويفتح الحب أمامها كوة واسعة من الضوء والغبطة والأمل بالنجاة. لكنه ليس الحب الشهواني المثخن باللغة الشبقية والغرائز المشبوبة، بل الحب الذي يتغذى من حاجة الروح الى توأمها ومن التوق الى الاتحاد بالآخر أو الى مضاعفة النفس في مواجهة العزلة والخوف والتوحد: «أنت معي في تدفق الدم القليل/ في وجوه الغرباء واللكنات الغريبة/ أنت معي دونما حاجة الى أوراقهم/ نظرتي مزدوجة/ خطوتي مزدوجة». ومع ذلك، فإن قصائد الحب عند عساف لا تخلو في بعض الأحيان من صور وإشارات ذات إيحاء عاطفي من مثل: «ستقف وسط الشارع وتصرخ «أحبك»/ فتنفتح فيَّ كشمسيةٍ وردة النشوة الضخمة».

لا بد من التنويه أيضاً بأن حضور الأنا عند زينب عساف لا ينفصل بأي حال عن الآخر، الفرد أو الجماعة، بل يتصل به ويتقاطع معه في معظم القصائد والمقطوعات. وهذا الآخر يحضر على شكل حبيب بعينه كما على شكل أم وأب وجدة وجد وأشقاء وأبناء. لا بل إن هذا الحضور الكثيف للسلالة يتخطى إطار القرابة العائلية ليدخل في سياق البيئة المحلية أو النسيج الاجتماعي والمذهبي في بعض الأحيان حيث المرأة التي تحشو بطنها بالأطفال والأخرى التي «ماتت قبل ظهور المهدي وأوصت ابنتها أن تواصل الانتظار». وتشكل قصيدة «القمر أول النفق» الطويلة انعطافة حقيقية في إطار ما يعرف بقصيدة الحرب حيث تتجاوز التهويل اللفظي واللغة النارية التحريضية لتلتقط الإشارات الاجتماعية والإنسانية والوجودية المنبثقة عن دمار الضاحية الجنوبية لبيروت وصمودها في حرب تموز (يوليو) الأخيرة.

تنبع جمالية شعر زينب عساف أخيراً، إضافة الى الصدق المفرط والالتصاق بالحياة، من كونه ليس شعر مثاقفة أو تجريد ذهني أو مهارة لفظية بل هو شعر مشهدي يحتفي بالحواس ويكتظ بالمرئيات. كما ان مرجعية هذا الشعر هي الحياة نفسها لا الأفكار والمعادلات اللفظية والعقلية. لذلك ليس غريباً أن تنهي الشاعرة كتابها بهذه الجملة: «فقط أن تغمض عينيك كشرطي سير لا مبال/ وتسمح للحياة بالمرور».

شوقي بزيغ - عن الحياة اللندنية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى