رواية لاجئة ـ الحلقة 10 من 18
عندما عادت ريم إلى المنزل كان بانتظارها خبر آخر و موقف آخر تحكيه الأم بصوت متهدج و عيون دامعة و قلب جريح كانت تقول :
– نظر لي و في عيونه نظرة احتقار غريبة و قال ما الذي جعلك تتزوجين من فلسطيني ؟ ألقى أوراقي في وجهي و صاح ، تريدين تخفيضا في المصاريف و زوجك يعمل بالسعودية ، لماذا هل هي دولة أبيه ، إذا أردت أن تعلمي أولادك فليكن من جيب أبيهم ، الدولة ليست مكانا للاجئين ••
و أجهشت الأم بالبكاء و هي تقول :
– حسبي الله و نعم الوكيل ، حسبي الله و نعم الوكيل ••
أدارت ريم وجهها كيلا ترى أمها همها و أكملت الأم :
– قلت له يا بني لا يصح أن تقول هذا الكلام ، لو كان معنا ما تقدمنا إليكم و لا عرضنا أنفسنا لعباراتكم الجارحة ، لكنه لم يبال بما أقول ، كان نافوخي يضج من حرارة الشمس و طول الانتظار ، و كانت أعصابي محترقة ، قلت له إن لدينا ولدا يدرس في مدرسة خاصة و يكلفنا نصف راتب الزوج في غربته شهريا ، قلت له إننا نعيش في بيت مفتوح يصرف على طعام و كساء و دواء و مراجع و كتب دراسية و ملازم ومواصلات •• صحت فيه بأنني مصرية و من حقي أن يتعلم أولادي في بلدي و أن يحصلوا على تخفيض مناسب في مصاريف الدراسة و العلاج لكنه أشاح بيده و قال بلا مبالاة ، إذا كنت مطلقة أو أرملة ينظر في طلبك ، أما و أنت زوجة لفلسطيني ( خليه ينفعك ) ••
واصلت الأم البكاء فانكبت ريم على أمها تحتضنها و تقبل و جنتيها و يديها و تقول :
– لا تبك يا أمي •• أرجوك لا تبك •• أرجوك سامحيني أنا من عـــرضتكم لكـــل هذا الـــذل و العناء ، أنا من دفعت بكــم إلى طــــريق المعاناة بحـــلمي الأخرق •• أنا من كــتبت عليكم و على نفسي هذا الخزي •• لكنني لم أكن أعرف ، لم أكن ، أعرف ، أقسم لك ، أقسم لك ••
ارتاعت الأم الباكية لهذه الحالة الغريبة من العذاب التي تمر بها ريم ، فأسرعت تكفكف دموعها و تنتبه إلى ابنتها تسألها عما جرى •• أخذت ريم تقص ما حدث تفصيليا و ما شعرت به و أخيرا قالت ما قررته و هي تشهق بالعذاب :
– لذا لن أذهب إلى الجامعة ثانية ، و لنطوي هذا الحلم السخيف و نطوي معه عذاباتنا ••
صاحت الأم :
– لا •• لا تتفوهي بهذه العبارات مجددا •• إن شاء الله ستكملين دراستك و لو كان الثمن حياتنا •• إنه حقك و حق أخواتك ، إنه الشيء الوحيد الذي ستواجهون به دنيا ترفضكم •• لقد فهمت إصرار أبيكــم وأصــر بدوري حتى لو أدى الأمر إلى أن أنفصل صوريا عن أبيكم ••
فصاحت ريم :
– لا •• لا تقولي هذه الكلمة ، لا تضعي هذا الفرض و لو مجازا في حياتنا ، لن أسمح أبدا بأن يكون ثمن تعليمي هو شرخ في صلب علاقتك بأبي ، لا يمكن أن يكون هذا هو الثمن ، لا يمكن •• لا يا أمي لا تقوليها مجددا ، لا •• أرجوك يا أمي •• لا ••
فقالت الأم و هي تبتسم لابنتها وسط دموعها :
– أنتم يا ابنتي أغلى الغوالي ، و إن كان هذا هو الثمن الذي ينبغي دفعه فلا بأس •• إنه انفصال صوري ، ورقة طلاق أحصل عليها و أقدمها مع الأوراق إلى إدارة الوافدين تتيح لك التعليم دون مشاكل •• نعود بعدها فنتزوج مجددا ••
ضحكت ريم بسخرية مريرة و قالت :
– حتى متى يا أمي ، حتى متى ؟ أمامي أربعة أعوام ، قبل أن أنهيهها سيكون أخي قد دخل بدوره الجامعة •• و بعده سمر ، هل ستظلان منفصلان إلى أبد العمر من أجل تحقيق هذا الحلم •• هل ستقبلين أن تصلك ورقة طلاق من أبي بعد هذا العمر •• في فترة أنتما أحوج ما تكونان لبعضكما البعض تنفصلان ••هل هذا ما تقدمانه من أجلنا •• هل هذا ما سيسعدنا و يحقق أهدافنا •• إنني أموت يا أمي لو حدث هذا ، أموت لو أوصلتكما يوما للطلاق كي أعيش ، تعسا لها من حياة لو كان الثمن سعادتكما يا أمي •• لا لا تقوليها أرجوك ••
انفلتت ريم إلى غرفتها و جففت الأم دموعها و قالت تحدث نفسها مستنكرة :
– طلاق ؟ أعوذ بالله !!
***
مضى اليوم التالي ثقيلا على الأم إذ أمضته في اقناع ريم بالاستذكار استعدادا لامتحان يوم الثلاثاء القادم ، ريم كانت مصرة على الرفض ، تتمثل أمامها صورة عذابات البارحة فيزيد إصرارها ، و تلح الأم فلا يزيدها الحاحها إلا إصرارا على الرفض ، كانت حجتها أن ترك الدراسة في أولها أفضل من تركها بعد مــرور سنة و نجاح و تعلق بها •• قالت لأمها و هي تقبل يدها :
– يا حبيبتي •• دعيــنا نناقــــش الأمر بالعقل •• لو ذهــــبت إلى هـــذا الامتحان و أكمــلته و نجحت و انتقلت للفصل الدراسي الثاني و امتحنت و نجحت •• هل تعتقدين أنه سيكون من السهل علي ترك الكلية ، هل تدركين مقدار تعاستي حينذاك ••
ثم تتنهد و تقول :
– يا أمي لقد أوصاني الدكتور طارق بأن أقيس قدراتي و ما أملك و ما يمكن أن آخذ و ما يجب أن أترك بشكل واقعي •• قال لي تعاملي مع جنسيتك كأنها عاهة و رفضت الفكرة ، لكن يبدو أنه على حق •• يا أمي ببساطة لن أذهب إلى الكلية يوم الثلاثاء ، فلا مكان لي فيها ••
و لما أسقط في يد الأم ، و احتارت في أمر ابنتها و الوسيلة التي يمكنها أن تقنعها بها لم تجد إلا حلا واحدا دفعها إليه حرصها عليها و على مستقبلها ، إذ أرسلت خلسة في طلب الأستاذ سعيد و قد تذكرت عندما اخبرتها أبنتها أنها بالفعل تعتبره شيئا عظيما في حياتها ، شخصا يمكنها الركون إليه و الثقة فيه ، بعـــد أبيها الذي تفـصـــلها عنه مسافات و زمن طويل ••
و جاء سعيد على عجل و قد أدهشته الدعوة بعد فترة الغياب التي حرص فيها على تنفيذ وعده تماما ، حتى أنه كان يحرص على سلوك طريق آخر إذا لمح في أول طريقه طيف ريم •• و تعمد هجران شرفته ، رغم ما كانت تحققه له من راحة نفسية ، و حتى منزله لم يعد يأتي إليه إلا في آخر الليل بعد أن يمضي يومه لدى الاصدقاء ، أدهشته الدعوة غير المتوقعة ، و أقلقه أنها من الأم و تساءل :
– ترى ماذا تريد ؟
في المنزل و تحديدا في غرفة الصالون رحبت الأم بالأستاذ سعيد و شرحت له الموقف كاملا ، في البداية كان غير مستوعب لدوره في الموضوع ، أو أنه كان غير مصدق لحقيقة أن تلجأ الأم إليه دون سواه و تختاره لهذه المهمة بالذات ، مهمة إقناع ريم ، شك أنه يحلم ، سألها غير مصدق :
– هل حقا أنا الشخص الوحيد الذي بإمكانه إقناع ريم ؟
أومأت الأم برأسها و قالت بسرعة :
– أنا بالطبع أقدر لك موقفك و استجابتك الشريفة لما طلبته منك ، و الطلب مازال قائما ، فيما يتعلق بقصص الحب التي لا تحتملها حياتنا ، أما فيما يتعلق بالمستقبل فإن أي تصرف يمكن أن يخدم ريم أفعله دون تردد •• و في نظري أنت الشخص الوحيد القادر على إقناعها فهي تثق بك ثقة كبيرة و تحترم رأيك و أنا أعرف أن مصلحتها تهمك بالدرجة الأولى أليس كذلك ؟
ارتسمت السعادة على وجه سعيد ، للمرة الأولى منذ بدأ في تنفيذ طلب الأم الحازم يدخل السرور إلى قلبه ، للمرة الأولى يشعر أنه عاد للحياة و بوسعه التنفس حتى لو كانت عودته رهن بمهمة محددة ينجزها ثم يعود للأيام الموحشة •• يكفي أنها مهمة متعلقة بريم ، هذا أقصى ما يتمنى •• استأذنته الأم و ذهبت لمناداة ريم التي لم تصدق أن سعيدا زارهم مجددا ، ركضت لترحب به و قالت بمجرد رؤيته :
– أستاذ سعيد •• مرحبا •• أين كنت ؟
أخذته نشوة الترحيب فوقف صامتا يراقب فرحتها برؤيته و يرصد فرحته برؤيتها ، غاص قلبه لمرآها ، كان يبدو عليها الارهاق و التعب ، لمح كما كان دائما يلمح أدق تفاصيل وجهها ، هالته الهالات السوداء حول عيونها الجميلة ، هاله تدلي كتفيها و كأنها كبرت مائة عام ، أشار إليها و قال بوجد حاول أن يزنه ما استطاع :
– ريم •• ما بك ؟
انسحبت ابتسامة الترحيب سريعا من فوق وجهها و أطرقت قائلة :
– انكسرت يا أستاذ سعيد ••
دق قلبه بعنف و هو يتابعها تجلس ، أوشك أن يفقد وقاره المصطنع و ينكب عليها ، يحتضنها و يهدهد قلبها صاحت روحه :" فداك نفسي يا حبيبة " •• لكنه عوضا عن ذلك جلس أمامها و قال و هو يشير لأمها :
– أخبرتني خالتي بما حدث •• أنا آسف •• آسف حقا لكل لحظة عذاب عشتها بسبب ذلك الموقف ••
رفعت إليه ريم عيونها و كانت تلمع بدموع تتجمع و قالت :
– لا يا أستاذ سعيد ، ليس عذابي للموقف في حد ذاته ، رغم أنه كان فظيعا ، و إنما عذابي لأنني أعطيت لحلمي مداه و صالحت دنيا ترفض مهادنتي ، و اعتقدت للحظة أن الحلم أوشك على التحقق ، عذابي لأب يعيش غربة مضاعفة بلا نتيجة و يقاسي الأمرين بلا هدف ••
قالت الأم و هي تشير بطرف عينها لسعيد :
– شاي أم قهوة يا أستاذ سعيد ••
تطلع إليها سعيد واجما ، لم يرد فقالت :
– سأذهب لصنع الشاي ••
خرجت الأم فقال سعيد :
– ريم ••
نظرت إليه فقرأت بقية العبارة ، أرخت عيونها فترجمها نصا حرفيا همس :
– كم أفتقدتك يا غالية ••
و ارتفع صوت الصمت بينهما ، لم تجرؤ ريم على النظر إليه ، و لم يقدر هو على إزاحة عيونه عنها ، تمنى لو يلمس شعرها و عادت إليه الذكرى فلمعت عينيه بالابتسام ، و عاد ينادي و لكن بصوت حاول أن يكون حياديا و قال :
– ريم •• رغم كل شيء لابد أن تتغلبي على انكسارك و تكملي امتحاناتك وفق الجدول المحدد ••
نظرت إليه و ابتسمت و قالت :
– هل طلبت أمي منك اقناعي ؟
فقال بلا تردد :
– و سأنجح في هذا الأمر إن شاء الله ••
فقالت ريم و هي تستعد لإثبات صحة وجهة نظرها :
– يا أستاذ سعيد •• ما معنى أن ••
قاطعها و قال :
– ريم أسمعيني ، أعرف كل ما تريدين قوله ، و أعرف ما تشعرين به ، و أعرف أنك أكثرنا اهتماما بمستقبلك ، و أكثرنا احباطا لقرارك •• كل هذا أعرفه و أكثر و لكن دعينا نفكر أيضا بالعقل ، إنه مجرد عام واحد مصاريفه مضاعفة و في الأعوام الباقية ستدفعون النصف ، إذن فالعقبة الوحيدة هي في هذا العام ، فإذا تغلبنا عليها ••
قاطعته ريم و هي تقول :
– كيف ؟ ، كيف نتغلب عليها يا أستاذ سعيد ، عندما سافر أبي اعتقدنا أن الالف جنية الذي سيحصل عليها شهريا تكفي لتغطـــية مصـــاريف الدراسة ، و لكن مع مرور الشهور و مع التقتير الشديد في النفقات و مع الالتزامات الكثيرة التي يفرضها منزل مفتوح هنا و منزل مفتوح هناك ، مع مصاريف الملازم الجامعية و الكتب و زيادة أقساط مدرسة قاسم ، و متطلبات الدراسة لي و له ، و الطعام و الكساء و الدواء و الإيجار ، اكتشفنا أن أبي كان قاسيا على نفسه عندما سافر و تركنا بنفس الحال التي كانت عندما كان معنا •• و للأسف فإن هذه القسوة غير المتعمدة طالتنا أيضا فنحن في نظر النــاس و الدولة و إدارة الوافدين أبناء رجل يعمل في السعودية •• هل أخبرتك أمي عما قالوه لها هناك ، هل أخبرتك عما عانته •• هل شعرت بما عانته هي و ما عانيته أنا ، هل تعتقد أنني غبية لكي أترك الباب مفتوحا لكـــل من يريد إذلالنـــا باسم التـــعليم و الـــعلم •• لا يا أستاذ سعيد وفر نصائحك ، فلن أستجيب لها •• لأنني لن أسمح لمخلوق أن يجرب فينا عقده من جديد ، أو يمارس علينا إذلالا من جديد ••
تنهد سعيد و قد شعر أنها معركة بالفعل و ليست سهلة كما تصور فقال :
– و المنظمة بماذا أجابت ؟
فقالت ريم و هي تضحك بمرارة :
– قالوا انتظروا الدور ، فالذين يرغبون في إتمام دراستهم كثر ، و المنظمة تعتمد على المعونات الخارجية التي قد تأتي و قد تتأخر وفقا لمزاج المانحين و تقديرهم لاحتياجاتنا •• أي ذل بعد ، أي ذل !!
تطلع إليها سعيد ، همست جوانحه :" أية معاناة تحملينها شفافة القلب و المشاعر ، لو كان بيدي لخبــأتك في أعماق قلبي و جعــلت بينك و بين متاعبك ألف سور •• و لكن كيف ؟••
دخلت الأم بالشاي و تطلعت إلى وجه سعيد فعرفت أنه أخفق فتنهدت ووضعت الشاي على الطاولة و قالت :
– إذن لا فائدة ••
جلست ريم بجوارها و قبلت يدها و قالت :
– أمي الحبيبة ، لو فكرت قليلا لوجدت أن ما قررته هو الصواب •• أرجوك يا أمي تقبلي ما أقول و لا تدعيني أشعر بالتعاسة مضاعفة ••
نهض سعيد فجأة و عيونه تلتمع كمن وجد الحل و ارتاح اليه و قال بحرارة لريم :
– ريم •• لن تخسري شيئا ، أكملي امتحـــاناتك ، فإذا فـــرجها الله ، أكملت معززة مكرمة و إلا فإنني سأكو،ن أول المباركين لقرارك المؤيدين له ••
هزت ريم رأسها رفضا فقال سعيد :
– أرجوك ، بين غمضة عين و انتباهتها يغير الله من حال إلى حال ••
فقالت :
– و لكن يا أستاذ سعيد من أين ؟
نهضت الأم و قد لمست ضعفا في صوت ريم ينبيء عن اقتناع وشيك و قالت :
– لا يجمل بنا أن نغفل رحمة الله ، تخيلي كم سيكون مؤسفا أن نجد الحل في وقت أضعت فيه أمتحاناتك و مجهود فصل دراسي كامل ••
التفتت الأم إلي سعيد و قالت :
– تصور يا أستاذ سعيد أنها اثبتت تفوقا و بروزا في كليتها على كافة أقرانها ، تصور أنها تريد أن يضيع كل هذا بسبب العناد ••
فقالت ريم :
– ليس عنادا يا أمي و لكن ••
فقال سعيد :
– و لكن يا ريم كانت إرادة الله أن تلتحقي بالجامعة ••
و أكملت الأم :
– فإنه لن يخذلك و إن شاء الله ستكملين تعليمك ••
و قال سعيد مكملا و في عيونه نظرة وعد جميلة :
– معززة مكرمة ، معـززة مكرمة يا ريم لا يجــرؤ أحد على إذلالك ثانية أوحتى مس طرفك ••
نظرت ريم إلى سعيد ، ثم إلى أمها التي أومأت لها و عيونها متلالئة بالدموع ، فقال سعيد بحزم كلمته الأخيرة :
– اذهبي و استعدي لامتحان يوم الثلاثاء و سأصحبك للجامعة بنفسي يومها ••
تطلعت إليه الأم لتذكره بوعده القديم فأكمل بسرعة :
– ذلك اليوم فقط ، لأنني لن أستطيع ترك عملي بعد ذلك ••
و نظر إلى الأم نظرة رجاء فابتسمت و قالت :
– حسنا •• حتى أطمئن إلى أن ريم دخلت الامتحان و أدته على أكمل وجه ••
و عادت الفرحة تزغرد في عيون سعيد و امتـــلأت عيونه بنظرة امتــنان للأم و قال لريم و هو يهم بالانصراف :
– إلى الملتقى صباح الثلاثاء ••
أومأت ريم برأسها موافقة وأشارت له مودعة و هو ينصرف ، فقالت الأم :
– ابن حلال الأستاذ سعيد ، اللهم أبقه لأولاده •••
نظرت إليها ريم بفهم و ابتسمت و عانقتها ••
***
قبل أن تشرق الشمس صباح يوم الثلاثاء كان سعيد مستعدا للخروج ، لولا أن الوقت مبكر ، أعد لنفسه كوبا من الشاي و جلس في الشرفة يشربه و هو يطالع النافذة الأثيرة ، لقد مرت عليه الساعات الماضية كالحلم ، استحضر خلالها صورة ريم و بقوة إلى ذاكرته ، وحادثها كثيرا ، ضحك لتعليقات توقعها ، و وجم لأحاسيس مرت بها ، و ابتسم لحركات قامت بها في خياله •• و فكر كثيرا ، فكر حتى أعجزه الفكر في حل لمشكلتها و في كل مرة كان يترسخ لديه الحل الذي لمع فجأة في رأسه و هو هناك •• و عندما دقت الساعة الثامنة فتحت ريم نافذتها و تطلعت تلقائيا إلى شرفته و كأنهما على ميعاد ، ابتسمت له فضحكت الدنيا لناظريه و نهض نشيطا و خرج متوجها إلى بيتها و هو يصفر مرحا ••
كانت ريم جميلة هذا الصباح عاد لوجهها تورده و لقامتها استقامتها و لنظرتها التفاؤل •• ابتسم لصباحها و ابتسمت لصباحه •• أخذت معها الشطائر و الدعوات الحارة و أخذ معه نظرات تحذير خفية من أم تتنفس القلق ، و ترك لها نظرات وعد خفية لطمأنتها •• و بين هذه النظرات المتبادلة و الدعوات الحارة قرر هذا الصباح التضامن معهم فأرخى نسائمه اللطيفة تصافح الوجوه ، و عبق الطريق بعبير زهر الليمون الجميل و سار كالظل خلفهما و سمع صمتهما المتفائل حتى وصلا إلى الجامعة ••
و هناك كان بسام و خالد على باب الكلية في انتـــظار ريم ، و بمجرد أن لمحاها حتى أقبلا و قال بسام :
– خشيت ألا تأتي ••
و قال خالد :
– لم يعد ثمة وقت ، الحمد لله أنك جئت •• هيا يا بسام ميعاد الامتحانات ••
قالت ريم ممتنة :
– أشكركما كثيرا •• كرم منكما أن تحضرا إلى هنا لاستقبالي و تشجيعي ••
عرفتهما بسعيد و عرفت سعيد بهما و تصافح الجميع و انطلق الشابان فالتفتت ريم إلى سعيد و قالت :
– يجب أن أذهب إلى لجنتي الآن ، أشكرك كثيرا و أعتقد أنه لا حاجة بك لأن تنتظرني ، اذهب إلى عملك فالامتحان مدته ثلاثة ساعات ••
هز سعيد رأسه و ابتسم و هو يقول ، في الواقع كان يقرر :
– سأنتظرك ••
هزت كتفيها امتنانا و انطلقت إلى لجنتها تطالعها عيون سعيد المحبة و في قلبه نشيد حب لا ينتهي ••
***
مضت أيام الامتحانات الباقية بطيئة على ريم ، كانت خلالها محط انتباه الجميع بين رافض لما حدث معها و مؤيد له ، كانت ريم تستمع إلى هؤلاء و تلمس تعاطفهم و تستمع إلى هؤلاء و تناقش تأيدهم لموقف الموظف ، و في كل هذا تشعر أنها أصبحت أكثر قوة على مواجهة من يستضعفها و من يحاول أن يقلل من شأنها ، تناقشهم بقوة من يدافع عن حقه في الحياة ، يساندها كل من خالد و بسام و أحمد ، و كان الدكتور طارق يسأل عنها دائما و الطبيب سامي يزور اللجان في أيام الامتحانات و محطته الأخيرة دائما طاولتها •• و الدكتور محمد اكتفى في يوم مادته بالمرور على لجنتهم و سأل الجميع بشكل عام عن سير الامتحان و قال لهم و هو ينظر إلى ريم :
– آمل أن توفقوا في الإجابات من كل قلبي ••
و اعتبرها الطلاب موجهة إلى ريم فقط ، أما سعيد فقد اختفى و غاب منذ اليوم الذي صحب ريم فيه إلى كليتها ، و سارت الأمور وفق ما هي عليه •• و انتهت أيام الامتحانات •• و استكان الطلاب في كلياتهم بانتظار النتيجة ، و غلب القلق ريم فكانت تدور غرف المنزل كالتائهه ، تنسى كثيرا من الأمور و تشرد سريعا ، كان قلقها على النتيجة التي لن تعرفها كبيرا ، و كذلك كانت الأم خاصة و أن بادرة أمل لحل هذه المشكلة لم تظهر حتى كان يوم النتيجة ، التقى الطلاب في الجامعة و أحجمت ريم عن الذهاب إلى الكلية ، جلست يعتصرها القلق ، و عندما عادت سوسن بنتيجتها و كـــانت ناجــــحة هنـــأتها ريم و تقبلت تمتمات الاعتذار و الارتباك منها بصدر رحب إذ أن عدم معرفتها للنتيجة كان أمرا متوقعا و قالت الأم عند الثامنة مساء :
– ريم يا ابنتي ، دعينا نعتبر أنك ناجحة ، و عليك مادة واحدة تلك التي لم تؤد امتحانها ، و ليفعل الله ما يشاء ••
تنهدت ريم و قامت متكاسلة تجر قدميها جرا و اتجهت إلى المطبخ لصنع الشاي و في وقوفها في انتظار أن يغلي الماء استرجعت كل ما مر بها هذا الفصل الدراسي من أحداث و شعرت أن قواها تخور و أن قدمها لا تستطيع حملها و همست :
– ربما كانت هذه هي النهاية ••
و حدثت نفسها و هي تسكب الشاي بحركات آلية :" قلت لهم لا داعي لإكمال المسيرة ، لا داعي للعناد و لكنهم أصروا و ها هي النتيجة •• كأنني لم أفعل شيئا ، كأنني كنت أصارع طواحين الهواء •• أنني متعبة •• متعبة جدا ••
دار المطبخ بها ، و صعب عليها أن تحدد مواقع الأشياء أو ملامحها •• بدا لها للحظة أنها تحلم و تذكرت أنها لم تأكل شيئا يذكر منذ يومين على الأقل ابتسمت بمرارة فتداعت الابتسامات و كبــــرت ضحكــــا بائسا يائسا و حــــاولت حمل الصـــينية ففقدت توازنها و أحدثت ضجة كبرى و هي تسقط منها و جاءت الأم تركض و خلفها قاسم يستطلعون ما حدث فلمحوا بسرعة ريم و هي منكبة على الأرض وعلى شفاهها ضحكات بائسة و في عيونها دموع يائسة ••قالت عندما رأت أمها و هي تشير للشاي المنسكب أرضا :
– لا أدري •• سقط لوحده ••
ركضت نحوها الأم لترفعها بسرعة و لاحظ قاسم الدماء في كفها فصاح :
– لقد جرحت ••
تأملت ريم جرج يدها و هو ينزف و قالت :
– ليت كل الجروح كهذا يا قاسم ••
أعانتها الأم مع قاسم و ذهبوا بها إلى حجرتها و خرج قاسم بسرعة ليبحث عن أدوات يطهر بها الجرح و يربطه عندما دق الباب ••فاحتار للحظة أيفتح الباب أم يمضي في بحثه ، لكن إلحاح الطارق دفعه إلى فتح الباب ليجد سعيد واقف تلوح على محياه علامات الفرحة و همس و كأنه كان يركض :
– مبروك ، نجاح ريم ••
صاح قاسم كأنه لم يسمع :
– ريم مجروحة •• عن إذنك ••
لبرهة لم يستوعب سعيد ما سمع ، ثم فجأة غاص قلبه في قدمه ، استشعر قلقا مفاجئا ، دار بعيونه في أرجاء الصالة و لما وجدها فارغة خطا بسرعة إلى حيث غرفتها التي لم ينس موقعها منذ دخلها ذلك اليوم ••
فوجئت الأم كما فوجئت ريم بالأستاذ سعيد على باب الغرفة يتطلع بقلق إلى ريم التي قالت بضعف و دهشة :
– أستاذ سعيد ؟
حاولت أن تدس نفسها بسرعة في الفراش فخطا سعيد إليها سريعا و أمسك يدها و صاح بجزع :
– إنك تنزفين ••
قالت الأم :
– أستاذ سعيد •• يمكنك أن تنتظر في الصالون ، ها هو قاسم أحضر الأدوات و سأعالجها فورا ••
التفت سعيد بسرعة إلى قاسم الذي وقف مذهولا من جرأة سعيد هذا في اقتحام غرفة نوم أخته و فوجيء به و هو يخطف الأشياء من يده و يقول ، أو يقرر بحزم :
– أنا ساضمد يدها •• لي خبرة في هذه الأمور منذ أيام الجيش ••
و أمسك يد ريم التي كانت مختبئة مع كل جسدها تحت الغطاء فتشبثت لثانية بغطائها ، ثم استسلمت بضعف ليده و هي تمسك يدها برفق و أغلقت عيونها و هي تشعر كأنها في حلم ، قام الأستاذ سعيد بعمله بسرعة ، حتى هو كان كأنه يحلم ، لم يتكلم هو و لم يتكلم أحد داخل الغرفة و عندما انتهى من تضميد الجرح سأل ريم و هو يعيد يدها إلى ما تحت الغطاء:
– هل تؤلمك ••
هزت رأسها نفيا و هي تبتسم برفق ••
و قالت الأم :
– نشكرك يا أستاذ سعيد ، لقد أزعجناك و أتعبناك ••
نظر إلى الأم و لم يجب ، كان طيلة الوقت يجلس على الأرض بجوار فراش ريم •• تمنى لو يقف الزمن على هذه الحالة ، كانت ريم في حالة ضعف شديد ، شيء لم يخف على عيونه ، قال لها بحنان شديد :
– تبدين متعبة جدا يا ريم ، هل أكلت اليوم ؟
تنهدت الأم و قالت :
– ريم لم تأكل شيئا منذ يومين ••
نظر إليها لائما و قال و قد تذكر ما جاء من أجله :
– هل هذا معقول ، هل يليق بالناجحات أن يكن بهذا الضعف ••؟
أدارت ريم رأسها و قالت بضعف :
– قلت لكم لا داعي لذهابي للجامعة مجددا ، قلت لكم أنني سأتعذب أكثر كلما ارتبطت بها أكثر ، لكنكم أبيتم إلا أن أكمل •• حتى نتيجتي لا أستطيع معرفتها •• الأبواب كلها أغلقت ، لم تتول المنظمة الدفع و لا إدارة الوافدين خفضت و لا أبي استطاع أن يرسل لنا المبلغ و لا قريب لي يمكنه ذلك •• لماذا أرغمتموني ••؟
تطلعت إلى سعيد و إلى أمها و أكملت بدموعها و ضعفها :
– إنني مذبوحة ••
صرخ قلب سعيد للحظة :" فداك روحي يا حبيبة " و قال و هو يبتسم بهدوء
– لكنك ناجحة يا ريم •• و إن شاء الله ستكملين دراستك و لو كان الثمن حياتي ••
تطلعت إليه ريم •• ابتسمت بهدوء و قالت الأم :
– نشكرك على مشاعرك يا بني •• و أنت يا ريم ، نسيت أهم الأبواب و أنت تتحدثين عن الأبواب المغلقة ، نسيت باب الله المفتوح دائما لمن سأله •• ادعي الله و هو سيجيبك ••
تنهدت ريم و قالت بقلب مرتجف :
– يا رب ••
نهض سعيد واقفا و فرد ذراعيه بحركة مسرحية و قال بصوت عميق :
– لقد استجاب الله دعاءك يا ريم ••
راقبته الأم و ابنتها و هو يتقدم بهدوء مخرجا عدة أوراق من جيبه و قال و هو يقدمها إلى ريم :
– هنا ورقة بتقديراتك في كل المواد ، كلها امتياز عدا مادتين جيد جدا ، و المادة التي حملتها للدور الثاني ، و هذه ورقة تفيد بأن المصاريف دفعت كاملة ، و هذه ورقة قيد تثبت رسميا أنك مقيدة بالسنة الاولى بكلية الفنون الجميلة ••و لو كانت معي صورة لك لأحضرت لك بطاقة الجامعة أيضا •• فما رأيك ؟
كانت ريم تستلم منه الأوراق غير مصدقة ، و كلما تصفحت ورقة أعطتها تلقائيا لأمها ، تتصفحها و تعطها بدورها لقاسم •• تطلع الجميع إلى سعيد و في عيونهم تتزاحم الأسئلة مع الإكبار مع المحبة مع الامتنان ،و توالت دموع ريم تترجم امتنانها و قالت بصوت مخنوق :
– هذا كثير ، كثير ••
و سجدت الأم لله أرضا و هي تتمتم بالحمد و الشكر لله فيما نظر قاسم إلى سعيد و قال بصدق شديد :
– رجل •• و الله رجل ••
عانقه و ترقرقت عيناه ••ثم توجه إلى ريم مسح دموعها وقال و هو يمسك يدها بقوة :
– الحمد لله •• الحمد لله •• مبروك يا ريم •• مبروك يا أختي ••
رفعت الام رأسها و قالت بدموعها الفرحة لسعيد :
– و لكن من أين يا بني ؟
ابتسم سعيد و هو يشعر أنه عملاق ، يشعر بأنه حصل على مقابل ما فعل كاملا بكل هذه المشاعر التي تفيض حوله و له ••قال :
– قطعة أرض منسية ورثتها عن والدي يرحمه الله لم يكن لها أية اهمية قبل أن تصبح فجأة هي الحل و المفتاح السحري لمشكلة ريم ••
عادت ريم تهز رأسها غير مصدقة و تهمس :
– هذا كثير •• هذا كثير ••
تطلع إليها و في عيونه حب العالم كله و قال :
– لو كان المقابل سعادتك فإن أكثر الكثير قليل يا ريم ••
التفت إلى الأم بسرعة قبل أن يجـــاري أمنيته و ينكـــب على الفتــــاة مقبلا ••قــال بمرح و بصوت عال :
– أعتقد أن المناسبة تستحق احتفالا ، كما أنني جائع جدا ، لم أتذوق الطعام طيلة هذا اليوم فهل لديكم طعام أم أذهب للشراء ؟
دقت الأم صدرها و قالت بسرعة :
يا إلهي •• تشتري و لدينا أشهى طعام لأفضل الأبناء؟ •• دقائق و أعده لكم ••
حاولت ريم النهوض قائلة :
– بل سأعده بنفسي يا أمي ••
أوشك أن يندفع إليها ليعيدها للفراش •• لكنه لم يفعل و اكتفى بمراقبتها و هي تسير بنشاط رغم ضعفها و تقول :
– لا أحد غير الأستاذ سعيد يستحق الاحتفال ••
طوقه قاسم بيده و توجها نحو الصالة معا ••و في انتظار إعداد الطعام تحدثا معا عن مستقبل قاسم و فرحة ريم و أخبار الوالد و لم يطل الأمر كثيرا إذ كان الطعام جاهزا بعد دقائق و اجتمعت الاسرة و معها سعيد يأكلون و يتحدثون و كان سعيد في كل هذا فارس الجلسة و محط إعجاب و تقدير الجميع ، كان يشعر بسعادة فائقة و همست روحه :
– ريم تستحق ••
***
و كما أن المصائب لا تأتي فرادى فإن الأفراح أيضا تأتي مجتمعة إذ بعد يومين أرسل الاب خطابا كتبه على عجل يشرح فيه أنه موفق في عمله و أنه حصل على مكافأة من شأنها أن تغطي مصاريف ريم مع ما استطاع ادخاره خلال الشهور الماضية ، و أرفق برسالته شيكا بالمبلغ باسم ريم منوها أنها لديها وثيقة رسمية تمكنها من إثبات شخصيتها و صرف الشيك و تمنى لريم النجاح و لأولاده التوفيق ، و كانت ريم قد كتبت إليه و إلى تامر و إلى سهيل بأخبار نجاحها ، و اتفقت ريم مع أمها أن تذهب مع سعيد إلى البنك لصرف الشيك تحديدا لكي ترد له الدين بدون إحراج ووافقتها أمها و أرسلت في طلب سعيد و طلبت منه مرافقة ريم إلى البنك فوافق بكل سرور ، و هناك و بعد أن صرفت ريم المبلغ مدت يدها به إليه و قالت بامتنان كبير :
– لو كان معي ما أعطيه لك و يستطيع حقيقة أن يعبر عن شكري لأعطيت ، لكن لا أملك غير أن أرد الدين ، تفضل ••
بهت سعيد و صاح محتجا :
– لا يمكن ، لم أدفعه لاسترده يا ريم ، دفعته لكي تسعدي ••
قالت ريم مؤكدة :
– و لقد أسعدتني فعلا •• دائما كنت قادرا على إسعادي ، خذ المبلغ فهو حقك ، لكنني لن أرد لك ما سببه موقفك لي و لأسرتي من سعادة فقد أصبحت في ذاكرتي وسما لن يمحوه الدهر ، و لن أرد لك معه تقديري الكبير و شعوري بعظمتك و بأنك الانسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يملك و يريد سعادتي ، أرجــــوك خذه ، فهو لا شيء قيـــاسا على ما فعلت و ليتك تستطيع به استرداد أرضك التي بعتها من أجلي •• سأكون سعيدة لو عادت إليك •• أرجوك ••
مستسلما كعادته معها مد يده ، أخذ المبلغ ، لم يكن حقا يريده ، لكنه كان أسير رغبتها في هذه اللحظة ، لم يكن يريد أن تكثر من رجائه •• أخذ المبلغ و تعمد لمس كفـــها و هو يأخذه و همس لها :
– أحبك ••
أرخت عيونها أرضا و سارت بسرعة فسار حتى حاذاها و سارا معا صامتين •• إلا أن الدنيا حولهم كانت ترقص فرحا على إيقاع دقات قلب سعيد و ارتجافة قلب ريم ••
***
و جاء الفصل الدراسي الثاني ، و انتظمت ريم في دراستها واثقة في نفسها ، متذكرة ما وعدت به أباها ، ماضية في شؤون حياتها ، و توطدت علاقتها أكثر ببسام و خالد اللذين ما انفكا يتابعانها ، و ابتعدت ما وسعها عن شلة الشــغب الجامـــعي ، ظـــلت تراسل أباها و تامر و سهيل و تقص عليهم جميعا أخبارها باستفاضة و تتلقى أخبارهم عبر الرسائل ، و في الوقت نفسه حدث ما لم تتوقعه الأسرة عندما ضاعت إقامة الأب في مصر بسبب عدم نزوله في الوقت المناسب ، و أصبح نزوله إليها من قبيل المستحيل ، و تلقت الأسرة هذا النبأ بمزيد من الصبر و التحدي و الإصرار على مواجهة كل ما يعترضهم ، و تقرر أن تسافر الأسرة إلى السعودية عوضا عن مجيء الأب عندما تتيسر الأحوال ••
و مضى التعليم بريم ناجحة متفــــوقة سنة بعد سنة ، و التحق قـــاسم بكلـــية الهندسة ، و تضاعفت المصاريف على الأب إلا أنه كان واعيا لما يتحقق مدركا لأهمية مواصلة المشوار ، تسانده في ذلك زوجة اعتادت على النضال منذ رزقها الله زوجا فلسطينيا ، كما أن مكتب المنظمة قام مرة او اثنتين بدفع المصاريف عن ريم و أخيها ، كما تولى أحد الأمراء السعوديين دفع المصاريف للطلاب الفلسطنيين في أحدى السنوات ، فجاءت مكرمته هذه في وقتها لتنقذ الكثير من الطلاب المهددين بتوقف دراستهم لعدم دفعهم المصاريف ، و دخلت سمر المدرسة ، و أصبح ظهور سعيد في حياتهم متقطعا يأتي ليحل أزمة أو يقدم تهنئة ، أو يسأل عن الاحوال ، و في كل ذلك ملتزم تماما بما طلبته الأم منه ، حريصا على إحاطة ريم برعايته و حمايته و لو من بعيد ••
و كانت الأسرة تســـافر إلى السعودية كل عـــــامين في إجازة آخر العام ، يرى الأب أولاده و يرى الأولاد أباهــــم ثم يعودون إلى حيــــاتهم و دراستــهم على أمل الاجتمــاع مجددا بعد عامين ••
من ناحية أخرى فقد تزوج سيــــد عندما تأكـــــد تماما أن ريم لا تــــريده ، و لن تتـــزوجه ، و استمرت سوسن في الجامعة مع ريم ، إلا أن صداقتهما أصبحت أضعف مما كانت سابقا ، و كانتا تنتقلان معا من سنة إلى أخرى ، تحافظ كلتاهمـــا على مســـتواها ، ريم متفوقة و سوسن تتراوح بين الجيد و الجيد جدا ••
و في غضون ذلك لم تنس ريم هدفها ، لم تنس أنها مطالبة بالبحث عن وطنها و أنها يجب أن تجده ، و كانت سنين الدراسة قد فرضت عليها تصورا ثابتا عن الخطوة الأولى باتجاه هذا الوطن و هي أن تدرس و تتعلم لكي تمتلك طريقة تعبر بها عن الوطن و تعبر بها إليه ، خاصة بعد أن سافرت في رحلة إلى العريش و رفح نظمتها الكلية لمدة ثلاثة أيام ، رأت فيها ريم للمرة الأولى في حياتها أرض الوطن عبر الأسلاك الشائكة في الحدود بين البلدين ، عندما اقترب الباص من المكان رفرف قلبها في صدرها ، و قفزت منه و هو يستعد للوقوف ، ركضت نحو السلك الشائك و أعطت لنظرها مداه علها تخترق به المسافات لتصل إلى بيت في غزة وصفه إليها أبوها ذات يوم ، لكنها عوضا عن ذلك لمست بنفسها ما تمنحه هذه الحدود الشائكة من عذابات لأناس يعيشون على الحدود ، رأتهم بأم عينيها ، كانوا جماعات كبيرة يتمسكون بالأسلاك حتى تقطعت أيديهم و سال الدم منها و هم لا يشعرون ينادون أحبة على الطرف الثاني و على بعد كبير وبدورهم يرد الأحبة النداء و يلوحون بأيديهم إليهم فيما يرفرف العلم الاسرائيلي على أبراج صفراء يسكن كل واحدة منها جندي معه بندقية مصوبة نحو المشاعر الملتاعة تحت ناظريه •• لم يكن لريم أحد هناك تلوح له بيدها لكنها قبضت السلك مدفوعة برغبة سكنتها العمر كله ، تحملت أشواكه أو لم تشعر بها و نادت باعلى صوتها :
– يا وطني ••
لم يجبها أحد و ضاعت حروفها عبر المسافة الشاسعة فعادت تنادي و هي تحكم قبضتها على السلك و انهمرت دموعها عندما غص حلقها بأسماء لأهلها لا تعرفها ، بحثت بسرعة في عقلها عن اسم تناديه لكن الذاكرة صارت فجأة بيضاء فعادت تقول بصوت جريح :
– يا وطني ••
شدها أحد الزملاء و همس في أذنها :
– ريم اهدئي ، هذا المكان ممنوع دخوله على غير المصريين ، لا تفضحينا أرجوك ••
نظرت إليه و دموعها تنهمر و قالت :
– إنه وطني
دفعها أمامه و هو يقول :
– آمل أن تتمكني من زيارته يوما
ظلت ذكرى هذه اللحظة تعيش في وجـــدان ريم لم تمحـــها كل الأحــــداث الــتي مرت بها ، و كانت كلما تذكرت هذه اللحظة دق قلبها بوجيب يشبه إحســــاسها آنذاك و تجمعت في عيونها سحابة حزن لا تمطر ، و تنهدت بحرقة
******
مشاركة منتدى
7 أيار (مايو) 2008, 20:15, بقلم maya
انه من اجمل الرويات وانه يعبر عن كل فلسطيني لاجئ وانه يجب ان نتذكر هؤلاء اللاجئين دوما لانهم جزء منا وجزء من الوطن
تحياتي
mjnoona