ذاكرة جرح
ليس أفضل من الألم مطهرا لروح الانسان...
هذه هي القناعة التي توصلت إليها بعد نجاتها من بين مخالب الألم...
عندما تتذكر الآن تلك الأيام تشعر أنه مجرد استمرارها في الحياة بعد النكسة التي تعرضت لها يعد أعجوبة ..لم يكن هنالك من وسيلة غير العناية الإلهية قادرة أن تخرجها من تلك الأزمة......
عندما تسترجع ذكرى ذلك الجرح تكاد تشعر ثانية بالنار التي كانت تحرق روحها وتمزق كيانها إلى أشلاء تافهة..تلك النار التي كانت تترك لها شعور فظيع بالاختناق طيلة النهار وتجعلها تستيقظ مرات عديدة في الليل على صوت صراخها ...كانت اكثر اللحظات ألماً عندما تسيقظ في الليل بعد أرق طويل ينتهي بتناول حبوب منومة وتشعر بتلك الوحشة التي تخلقها ظلمة الليل وسكونه .في تلك اللحظات كانت تشعر بسكين الألم يخترق لحمها ويكويه
تستغرب الآن كيف كانت صور الفراق تهاجمها كلعنة أبدية حالما تفتح عيونها على لون
العتمة...كانت تجلس في سريرها مقاومة شعور بأن هناك يدان لا مرئيتان تحاول خنقها ...كانت
الدموع تغافلها وتنهمر كالمطر...والألم يعوي بداخلها...فلا تعود تدرك ما يمكنها فعله ..كانت
تهرب أحياناً إلى الشرفة تحاول استنشاق هواء نقي لا يحمل رائحة جرحها .وأحياناً أخرى عندما
يشلها الحزن فلا تقوى على مغادرة سريرها كانت تكتفي بأن تطرق رأسها مراراً على الحائط
البارد إلى أن تشعر بالألم يخدرها ...كم من ليالي قضتها جالسة في سريرها وعيناها معلقتان
بستائر الشرفة منتظرةَ بزوغ أشعة الشمس علها تبدد قليلاً من ظلمة أيامها وتدخل الدف إلى صقيع
قلبها ...
في تلك الأيام كانت تراودها رغبة بالهرب إلى أين لم تكن تعرف. كانت تريد أن تهرب من كل شئ ....فكل شئ من حولها يذكرها به ..ثيابها التي اشترتها وإرتدتها له... عطرها الذي كان يحبه...الهاتف التي كانت تحادثه من خلاله لساعات...كل الشوارع والحارت التي ضمت ذكرى من ذكرياتهما معاً...كانت تريد الهرب بعيداً إلى أرض لم يختلط هوائها بأنفاسه ولم تعانق ذرات ترابها قدماها....ولكنها كانت تفكر أنها لن تستطيع الهروب منه وهي تحمله بداخلها ...فحتى جسدها كان يذكرها به...
في ذلك الوقت وفي قلب المأساة كانت تشعر بالقهر لأنه كان عليها أن تودع تجربة حب رائعة عاشتها بكل ما في الحب من حلاوة وشوق وانتظار وحميمية . وفي نفس الوقت تتحمل ألم الطعنة التي سمتها طعنة الغدر التي أنهى بها قصتهما. الآن وبرغم مرور الزمن على تلك القصة لا تزال قادرة أن تتحسس عمق الجرح الذي سببه لها عندما أختار من بين كل بنات الدنيا تلك التي كانت تحاول لفت انتباهه إليها بالرغم من انها كانت تدرك أنه مرتبط بأخرى
كانت نادين زميلتهما في العمل التي منذ أن عينت في نفس المؤسسة معهما بدأت تلقى الشباك حوله. فقد كانت تكثر من زيارة الغرفة التي يعملان بها وتختلق ألف سبب كي تجلس معهما ولم تكن تبالي أن تخفي اعجابها به بل على العكس كانت تتعمد أن تظهر الاهتمام فكانت في البداية تصر على دعوته إلى زيارتها في مكتبها ثم تجاسرت واصبحت ترافقهما في طريق العودة إلى المنزل بعد نهاية الدوام الرسمي وتتمشى معهما وتوصلت في النهاية إلى أن تصبح طرف ثالث في كل مشروع يقومان به.
عندما كانت تحدثه بهذا الأمر كان يضحك ويقول لها أن لا تعلق أهمية للموضوع فإن حاول كل بنات الدنيا لفت انتباهه فلن ينجحوا لأن ما من واحدة يمكن أن تحل محلها في قلبه .وكان هذا الكلام يطمئنها ...فهي لم تشك يوماً بكلامه .وبالرغم من انها كانت تلاحظ أنه يوم بعد يوم كانت نادين تفرض وجودها أكثر بينهما وبالرغم من أنها كانت تضبطه أحياناً وهو يتبادل معها النظرات إلا أن كلامه كان ينفي وجود أي شئ ولا يترك مجال للشك في عقلها.
اليوم تستطيع الاعتراف لنفسها أنها لم تشأ وقتها أن تقر بوجود علاقة بينهما لأنها كانت في أعماقها تخاف خسارته لذا كانت تحاول خداع نفسها وتجاهل كل المؤشرات التي كانت تبدو كل يوم أكثر وضوحاً والتي تدل على أن شئ ما بدأ ينمو بين حبيبها ومنافستها. لم يكن من السهل عليها إدراك فكرة أن إنسانة عابرة ظهرت صدفة في طريقهما يمكن أن تنهي علاقة كانت تظنها مبنية على أساس قوي من الحب والإنسجام والتفاهم. أعماها خوفها عن إدراك ما كان يحصل . حتى عندما لاحظت أنه بدأ يتغير من ناحيتها لم تربط الأمر بالفتاة الأخرى بل ظنت أن الأمر مشكلة عابرة سيقومان بحلها مثل كل الصعوبات التي اعترضتهم في الماضي.
كانت ترفض رؤية صرح حبها ينهار لذا فضلت أن تغمض عينيها وتغفو على حلم الحب الأبدي الذي يربطهما لم تكن تدري أن طمر الرأس في الرمال لن يمنع الكارثة من الحصول. وأنها أحلامها الوردية ستتحول إلى كابوس مرعب يلازمها ليال طويلة.
أنتهت أسطورة الحب الأبدي. صفعتها حقيقة أن الحب يمكن أن يموت مثل كل شئ آخر. كان الحب في نظرها أزلي وخالد كالله، فكيف مات الله ومن استطاع اغتياله. كيف أمكن لحشرة صغيرة أن تحجب نور الشمس وتلقي على الأرض ظلال الخيانة والهجر .
كانت صدمتها أكبر من قدرة عقلها على الاستيعاب. أيعقل أن ينهي قصة حب دامت سنين لمجرد أن فتاة أخرى أبدت اهتمامها به وحاولت جذب إنتباهه. أي سخف. كيف استطاع أن يرمي وراء ظهره تاريخ طويل من اللحظات الحلوة والمرة والمشاعر التي كانت تتأصل كل يوم. كيف تمكن من التخلي عن كل التفاهم والانسجام بينهما الذي كان حصيلة مسيرة طويلة سافرا خلالها إلى أقصى أعماق كل واحد منهما ليكتشفا الكنز المخبئ تحت أنقاض التجارب المؤلمة والجروحات السابقة.
كان ألمها مضاعفاً فهو لم يكتف بأن يقطع علاقته بها بل تجاوز في قسوته حد السادية وأخبرها بأنه يرغب بالتعرف إلى نادين
ما أقسى الحياة عندما تسقيك المر والألم في نفس الكأس التي أشربتك منه السعادة وحلاوة الحب. من كان منبع سعادتها إلى الآن أصبح مصدر شقاءها. من كان يمنحها من خلال حبه الفرح والثقة بالحياة والاحساس بالأمان أهداها اليوم ألم يكوي قلبها بنار الغيرة رحل بكل بساطة وتركها للحزن والألم يفترس روحها وللغيرة تغذي عقلها بصور تحرق أعصابها وتتكاثر كل يوم كخلايا سرطانية تنهش جسدها دون رحمة.
عجباً، كيف يجد الإنسان نفسه أحياناً في دوامة مغلقة يدور فيها محاولاً ايجاد ثغرة يعبر من خلالها إلى العالم الخارجي ولكن عبثاً فكل الأبواب موصدة وجدران السجن أقوى من محاولات الهرب.
في تلك الدوامة تجد نفسك وحيداً فلا أحد يستطيع ان يعبر جدران سجنك ليلتقيك ويخفف من وطئة وحشتك. فتبقى وحدك مع الألم يسير معك كظلك أينما اتجهت وعندما تعجز أخيراً عن الفرار منه ومن محاولات النجاة وتجلس منهك القوى مستسلماً في زواية اليأس علك ترتاح تفاجئ بذاكرتك تجلدك بغير رحمة بسياطها هازئة من محاولات النسيان. حينها لا تقدر إلا أن تصرخ صرخة احتجاج في وجه الله " لما كل هذا الألم ، ماذا فعلت أنا لأستحق هذا العذاب".
الآن ..عندما تنظر بعين المتفرج الحيادي إلى ذكريات تلك الآيام تشعر كم كانت إنسانة ضئيلة ويائسة وتكاد تشفق على نفسها من كم الوحشة والفراغ التي كانت تعيشه آنذاك . تتذكر كيف قلص الألم من شعورها بكيانها فبدأت تشعربنفسها كأنها مجرد جرذ صغير قذر يبحث بين فضلات الناس العاطفية عن كسرة حنان. كانت تحاول الهروب من ألمها بكل ما يخطر لها من وسائل دون جدوى. فكم مرة حاولت أن تعيد قراءة كتاب كانت تحبه فيما مضى لتجد نفسها تشرد بعد لحظات او لتراه يقفز فوق السطورفتلقي بالكتاب بأقصى ما تملكه من قوة ليتمزق أشلاء. كم حاولت أن تعيد تجديد صلاتها مع الأصدقاء التي كانت قد أهملتهم طيلة فترة علاقتها معه ولكن عبثاً فحبال المودة قد انقطعت. تتذكر الآن كم هالها حجم العزلة التي خلقتها لنفسها عندما أبعدت كل من حولها عنها وجعلت عالمها يقتصر عليه هو وحده فهي لم تشعر لحظة وهي معه أنها بحاجة إلى شخص آخر فقد كان يملء كل مسامات كيانها ولا يترك فسحة لأحد سواه. حتى أهلها عاشت في غربة عنهم ، غربة لم تكتشفها إلا بعد فراقه كان محور حياتها بل كان كل حياتها لذا عندما رحل شعرت بذلك الفراغ الهائل الذي أخلى كيانها من كل محتواه لتصبح قربة فارغة لا وجود فيها لشئ غير الخيبة.
لم يكن من السهل عليها أن تستوعب أن هذا الشخص الذي كان يتعبدها أصبح بين ليلة وضحاه لا ييالي بها ولا حتى بألمها . لم يكن من السهل أن تراه أمام عينيها يبدأ بالسير مع أخرى نفس الخطوات التي مشاها ذات يوم معها.
كانت الغيرة قد دفعتها لتجند كل طاقتها الذهنية لتفكر في علاقته الجديدة. عندما كان يشرد وهو جالس أمامها كان تقول لنفسها أنه يفكر بها وعندما كان يخرج من الغرفة كانت متأكدة من انه ذاهب للقائها وإذا غاب يوم عن العمل كانت تتخيله يقضي الوقت معها. أندثر من حولها الكون بأكمله وتحول إلى مسرح كبير يعرض قصة خيانة حبيبها لها وغرامياته مع تلك التي بنت سعادتها على أنقاض سعادة انسانة أخرى.
ولكن الألم الذي دمرها هو ذاته الذي ساعدها على إعادة بناء حياتها من جديد على أساس أمتن.
أبحرت في سفينة الألم إلى أخر حد له .كانت تنتظر أن تلقيها السفينة في نهاية المطاف إلى هاوية العدم ولكنها أكتشفت أنه عندما تبلغ مرحلة ما نهايتها فهذا يعني أن مرحلة مناقضة لها ستبدأ. عندما بلغ ألمها حدوده القصوى،وبعد ما شربت من كأسه حتى الثمالة لم يبقى له تأثير عليها ،انتهى دوره في حياتها فتلاشى تاركاً ورائه إنسانة استفاقت من غيبوتها لتجد نفسها أقوى من أي وقت مضى.
لقد ولدت من جديد من رحم الألم.
بدأت تلملم بقايا ذاتها التي شتتها رياح الغدر. نظرت من حولها لتستوعب كل ما حدث وتسائلت إن كانت الخسارة تستحق كل هذا العذاب. ألم تكن تراه مصدر حياتها وتؤمن أنها لا تستطيع الحياة بدونه ، هاهي الآن وقد خسرته للأبد لاتزال على قيد الحياة . خسارته قد سببت لها الألم ولكن الألم لم يقتلها.
على ضوء احتراق قلبها استطاعت أن تقرأ السطور المكتوبة بحبر سري لا يقدر على تفسيرها غير من تعلم من خلال عذابه كيف يفهم العلامات التي يضعها الله في طريقنا كي نستدل بها . فهمت أن
الحب يتغير كما تتغير أوراق الشجر كل خريف ولكنها فهمت أيضاً أن هذه الأوراق الميتة يمكن أن تغذي جذور الشجر لتعطي أوراق جديدة خضراء عندما يحل الربيع. تعلمت أن الحب لا يموت
أبداً بل يتجدد . أدركت أن كل خسارة لنا في الحب هي دعوة لنتعلم كيف نحب بشكل أفضل.
ربما كانت بحاجة إلى معمودية الألم ، كي تفهم فلسفة الوجود. ربما كان عليها أن تحمل صليب أحزانها و تدخل عبر بوابة الألم لتدرك أن ما من انسان يستطيع أن يمنحك الحياة. وأن الحياة هي هبة مجانية من لدن الله يجب تقديرها والتصرف بها بشكل لائق. وأنه من الغباء أن نربط وجودنا بكائن يشابهنا في هشاشته ومحدوديته، كائن ضعيف يمكن لرياح التغير أن تعصف به وتحمله بعيداً بعد أن نكون قد أودعناه مفتاح سعادتنا. فأي مغامرة أن نجعل من سعادتنا دمية في يد الآخرين!
اكتشفت كم هو بائس الإنسان عندما يحاول أن يجدى معنى لحياته وأن يعطى لون ونكهة لوجوده وأن يستمد سعادته من خلال كائن آخر.... بعد تلك التجربة التي مرت بها أصبحت أكثر قناعة بتلك الفلسفة التي قرأتها يوم ما في كتاب كان عنوانه "السعادة تنبع من الداخل" .أصبحت تعرف يقيناً أن ما من أحد يمكن أن يمنحك السعادة ما لم تكن قابعة في أعماقك .