الأحد ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم نزار قباني

دولة الخصيان

لمْ يبقَ فيهِم لا أبو بكرٍ .. ولا عثمان
جميعُهُم هياكـلٌ عظمية في متحفِ الزمان
تساقطَ الفرسانُ عن سروجِهم
واُعْـلِنتْ دويْلة الخِصيان
واعتُـقِل المؤذنونَ في بيوتهم
واُلْـغِيَ الأذان
جميعُـهُم .. تضخَّـمت أثـدائُهم
وأصبحوا نسوان
جميعُهم يأتيهُمُ الحيْضُ ومشغولونَ بالحمل
وبالرضاعهْ
جميعُهم قد ذبحوا خيولهم
وارتهنوا سيوفهم
وقدّموا نساءَهم هدية لقائد الرومان
ما كان يدعى ببلاد الشام يوما
صار في الجغرافيا...
يدعى (يهودستان)
اللهْ ... يا زمان
...
لم يبقَ في دفاترِ التاريخ
لا سيفٌ ولا حِصان
جميعُهم قد تركوا نِعالهم
وهرّبوا أموالهم
وخلَّـفوا وراءهم أطفالهم
وانسحبوا إلى مقاهي الموت والنسيان
جميعهم تخـنَّـثوا
تكحَّـلوا...
تعطَّروا...
تمايلوا أغصان خيْزران
حتى تظنَّ خالداً ... سوزان
ومريماً .. مروان
اللهْ ... يا زمان...
...
جميعُهم موتى ... ولم يبقَ سوى لبنان
يلبسُ في كلِّ صباحٍ كَـفـناً
ويُشْعِلُ الجنوبَ إصراراً وعُنفوان
جميعُهم قد دخلوا جُحورَهم
واستمتعوا بالمسكِ , والنساءِ , والرَّيْحان
جميعُهم : مُدَجَّـنٌ , مُروَّضٌ , منافِـقٌ , مزْدَوجٌ .. جـبان
ووحدَه لبنان
يَصْـفعُ أمريكا بلا هوادة
ويُشعلُ المياهَ والشطآان
في حينِ ألفُ حاكمٍ مؤمركٍ
يأخُذُها بالصّدرِ والأحضان
هلْ ممكنٌ أن يَعْـقِـدَ الإنسانُ صُلحاً دائماً مع الهوان؟
اللهْ ... يا زمان ..
...
هل تعرفونَ من أنا ؟!
مُواطنٌ يسكُنُ في دولة (قـَـمْـعِـسْـتان)
وهذهِ الدولة ليست نُكتة مصرية
او صورة منقولة عن كُـتُبِ البَديعِ والبيان
فأرضُ (قـَمعـِستان) جاءَ ذكرُها
في مُعجمِ البُلدان ...
وإنَّ منْ أهمِّ صادراتِها
حَقائِباً جِلدية
مصْنوعة من جسدِ الإنسان
اللهْ ... يا زمان ...
...
هل تطلبونَ نُـبْذةً صغيرةً عن أرضِ (قـَمعـِستان)
تِلكَ التي تمتدُّ من شمالِ أفريقيا
إلى بلادِ نـَـفْـطِـستان
تِلكِ التي تمتدُّ من شواطئِ القَهرِ إلى شواطئِ
القـتْلِ
إلى شواطئِ السَّحْلِ , إلى شواطئِ الأحزان ..
وسـيـفُها يمتـدُّ بينَ مَدْخلِ الشِّـريانِ والشريان
مُلوكُها يُقـرْفِصونَ فوقَ رَقـَبَة الشُّعوبِ بالوِراثة
ويَكْرهونَ الورقَ الأبيضَ , والمِـدادَ , والأقْـلامَ بالوراثة
وأول البُـنودِ في دُسْـتورها:
يَقـضي بِأنْ تُـلْغَى غريزَةُ الكلامِ في الإنسان
اللهْ ... يا زمان ...
...
هل تعرفونَ من أنا؟!
مُواطنٌ يسكُنُ في دولةِ (قـَمْعـِسْـتان)
مُواطنٌ ...
يَحْـلُمُ في يومٍ من الأيامِ أنْ يُصبِحَ في مرتبة الحيوان
مُواطنٌ يخافُ أنْ يَجْلسَ في المقهى ..
لكي لا تـَطلـَعُ الدولة من غياهبِ الفنجان
مُواطنٌ أنا .. يَخافُ أنْ يقرَبَ زوجته
قُبيلَ أن تُراقبَ المباحثُ المكان
مٌواطنٌ أنا .. من شعبِ قـَمْعـِسْـتان
أخافُ ان أدخلَ أيَّ مَسجـدٍ
كي لا يُقـالَ أنّي رَجُـلٌ يُمارسُ الإيمان
كي لا يقولَ المُخبرُ السِّرِيُّ :
أنّي كنتُ أتْـلو سورةَ الرحمن
اللهْ ... يا زمان ...
...
هلْ تعرفونَ الآنَ ما دولة ( قـَمْعـِسْـتان)؟
تِلكَ التي ألَّـفَها .. لَحَّنَها ..
أخْرَجَها الشيطان
هلْ تعرفونَ هذه الدُوَيْلـَة العجيبة ؟
حيثُ دخولُ المرْءِ للمِـرحاضِ يحتاجُ إلى قرار
والشمسُ كي تـَطلـَعَ تحتاجُ إلى قرار
والديكُ كي يَصيحَ يحتاجُ الى قرار
ورغبةُ الزوجينِ في الإنجاب
تحتاجُ إلى قرار
وشَعْـرُ منْ أحِـبُّها
يَمْـنـَعُهُ الشرطيُّ أنْ يَطيرَ في الريح
بلا قرار
ما أردأَ الأحوالَ في دولةِ ( قـَمعـِستان)
حيثُ الذكورُ نسخة من النساء
حيثُ النساءُ نسخة من الذكور
حيثُ الترابُ يَكرهُ البُـذور
وحيثُ كلُّ طائرٍ يخافُ من بقـيَّة الطيور
وصاحبُ القرارِ يحتاجُ الى قرار
تلكَ هي الأحوالُ في دولة (قـَمعـِستان)
اللهْ ... يا زمان ...
...
يا أصدقائي:
إنني مُواطنٌ يسكُنُ مدينة ليسَ بِها سُكّان
ليسَ لها شوارع
ليسَ لها أرصفة
ليسَ لها نوافذ
ليسَ لها جدران
ليسَ بها جرائد
غيرَ التي تـَطبعُها مطابعُ السلطان
عنوانُها ؟
أخافُ أن أبوحَ بالعنوان
كلُّ الذي أعرفُهُ
أنَّ الذي يقودُ الحظّ إلى مدينتي
يَرْحـَمُهُ الرحمن ...
...
يا أصدقائي:
ما هو الشعرُ إذا لم يُعلِـنِ العِصيان؟
وما هو الشعرُ إذا لم يُسقِطِ الطغاةَ ... والطغيان؟
وما هو الشعرُ إذا لم يُحْدِثِ الزلزالَ
في الزمانِ والمكان؟
وما هو الشعرُ إذا لم يَخلـَعِ التَّاجَ الذي يَلبَسُـهُ
كِسْرى انوشَرْوان؟
...
مِنْ أجْلِ هذا اُعلنُ العِصْيان
باسمِ الملايينِ التي تجهلُ حتى الآنَ ما هو النهار
وما هو الفارقُ بينَ الغُصْنِ والعصفور
وما هو الفارقُ بين الوردِ والمنثور
وما هو الفارقُ بين النَّهدِ والرُمَّانة
وما هو الفارقُ بين البحْرِ والزَنْزانة
وما هو الفارقُ بين القمرِ الأخْضرِ والقُرُنْـفُلَة
وبينَ حَـدِّ كَـلِمَةٍ شجاعة
وبينَ خـدِّ المِـقـْصَلة ...
...
مِنْ أجلِ هـذا اُعْلِـنُ العِصْيان
باسمِ الملايينِ التي تُسَاقُ نَحْـوَ الذبحِ كالقِـطْعان
باسمِ الذين انْـتُـزِعَـتْ أجْـفانُهُم
واقـْـتُلِـعَـتْ أسْـنانُهُم
وَذُوِّبُـوا في حامضِ الكِبريتِ كالدِّيدان
باسمِ الذينَ ما لهُمْ صوتٌ ...
ولا رأيٌ ...
ولا لِـسان ...
سَأعْلِـنُ العِصْيان ...
...
مِنْ أجلِ هذا اُعْلِـنُ العِصْيان
باسمِ الجماهيرِ التي تَجلِسُ كالأبقار
تحتَ الشَّاشةِ الصّغيرة
باسمِ الجماهيرِ التي يُسْقونَها الوَلاءَ
بالمَلاعِقِ الكبيرة
باسمِ الجماهيرِ التي تُركـَبُ كالبعير
مِنْ مَشْرقِ الشّمسِ إلى مَغْـرِبِها
تُركـَبُ كالبعير
وما لها من الحُقُوقِ غيرَ حقِّ الماءِ والشّعير
وما لها من الطُّموحِ غيرَ أنْ تـَأخُـذَ للحلاّقِ زوجةَ الأمير
او إبنةَ الأمير ...
او كلبة الأمير ...
باسمِ الجماهيرِ التي تضرَعُ للهِ لكي يُديمَ القائدَ العظيم
وحُـزمة البرسيم
...
يا أصدقاءَ الشـعرِ:
إنِّي شجرُ النّارِ, وإنِّي كاهنُ الأشواق
والناطقُ الرسْمِيُّ عن خمسينَ مليوناً من العُشَّاق
على يدِي ينامُ أهـلُ الحُـبِّ والحنين
فمرةً أجعَـلُهُم حَـمائِماً
ومرةً أجعَـلُهُم أشجارَ ياسـمين
يا اصدقائي ...
إنَّني الجُرحُ الذي يَرفُضُ دوما
سُـلْطَة السِّكِّين
...
يا أصدقائي الرائعين:
أنا الشِّفاهُ للذينَ ما لهمْ شِفاه
أنا العُيونُ للذينَ ما لهمْ عُيون
أنا كتابُ البحرِ للذينَ ليسَ يقرأون
أنا الكتاباتُ التي يحفِـرُها الدَّمعُ على عنابرِ السُّجون
أنا كهذا العصرِ, يا حبيبتي
أواجهُ الجُنونَ بالجُنون
وأكسِـرُ الأشْـياءَ في طُفـولةٍ
وفي دمي , رائِحة الثورةِ والليمون ...
أنا كما عَرفْـتُـموني دائماً
هِوايتي أن أكْسِرَ القانون
أنا كما عرفْـتُـموني دائماً
أكونُ بالشِّعْـرِ ... وإلاّ .. لا أريدُ أنْ أكون
...
يا أصدقائي:
أنتُمُ الشِّعْـرَ الحقيقيَّ
ولا يُهـِمُّ أن يَضْحكَ ... أو يَعْـبِسَ ...
أو أنْ يَغْضبَ السلطان
أنتُمْ سلاطيني ...
ومنكُمْ أسْـتمدُّ المَجْدَ , والـقُـوَّة , والسلطان ...
قصائدي مَمْـنوعة ...
في المدنِ التي تنامُ فوقَ المِلحِ والحِجارة
قصائدي مَمْـنوعة ...
لأنّها تَحمِلُ للإنسانِ عِطرَ الحُبِّ , والحَضارة
قصائدي مرفوضة ...
لأنّها لكُلِّ بيتٍ تَحْمِلُ البِشارة
يا أصدقائي:
إنَّني ما زِلتُ بانتظارِكم
لـنُوقِـد الشَّـرارة!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى