حيث الحمامات ... لا تطير !!!
جئت الآن أحدثكم من زمن عجيب ...
تحدث فيه المعجزات ... فلا نسمّيها معجزات ... وتتحقق النبوءات فلا نتّهم بالهرطقة ... زمن هو أقرب للخيال عندما يمرض ... والأحلام حين تكف ... والموت حين يصير من الأماني ... أغلق خلفي الباب ... وأمشي على غير هدى ... قدماي تقوداني فلا أسألهما عن الوجهة أو المصير ... أركل حصوة على الطريق ... تتدحرج بغير اتساق ... حتى تصل إلى نقطة لا أراها فيها ... أحس تعباً شديداً لمجرّد التفكير ... ماذا سأقول لهم حين أعود ... أن فرصتي لم تأتِ بعد ... أني تركتهم وجئت هنا حيث لا يُرحّب بوجودي ... يتردد داخلي صدى دعوات أمي وبكاء أختي وتقافز أولادها حولي وأنا محمّل بآمالهم العريضة ... ولكن ها هي مدينة الأماني تطردني ... وتحرمني من مكان بين جنباتها ... في مقهى قريب - بصدر الحارة التي أسكن فيها لدى وجودي بالمدينة - جلست ... ودون وعي مني دارت عيوني بالجالسين محاولاً أن أستشف من وجوههم قصة كل منهم ... ماذا يفعل؟ ما الذي أتى به هنا ؟ وفيم يفكر؟ ... غريبة هي وجوه الآخرين ... وجوه المدينة ليست كوجوه القرية ... ووجوه اليوم غير وجوه البارحة ... تـُرى ما الذي يبدو على وجهي أنا؟! وجه قريتي التي جئت منها أم وجه المدينة التي أود الانتماء إليها؟! وجه يومي أم وجه البارحة؟!
أنت لا تستوفي الشروط اللازمة ... نعتذر لك ...
مستواك لا يؤهلك ... تحتاج إلى الإجتهاد أكثر وأكثر ...
حاول مرّة أخرى ... المستقبل أمامك ... لا تيأس من المحاولة ...
قررت أني سأزورهم في القرية ... أحتاج لبعض الهدوء والصفاء النفسي ... أرغب في أن يضمّني صدر حنون ... وتشنّف أذاني دعوة صادقة ...
وفي إحدى عربات الميكروباص التي تنهب اسفلت الطريق ... كانت عودتي ... وجاء مجلسي بجوار السائق الذي أصرّ على إفساد أذواقنا وإزعاجنا طوال الطريق بما يسكبه من أسفاف في أذاننا من سمّاعات الكاسيت التي تبدو كما لو أنها تحاوطك من كل اتجاه فلا تجد لنفسك منها ملاذاً و لا ملجئاً ... فاستدعيت شرودي علـّه ينقذني من السخيف الغثّ الذي يملأ الجو حولي ... فأفلح قليلاً وأفشل كثيراً ...
كنا اعتدنا سرعة الميكروباص الجنونية ... وانتظرنا أن تحدث لنا حادثة ... ولكن أغلبنا لم يكترث ... فالموت لم يعد لنا شيئاً سيئاً في ظل ما نعانيه !! لكن الجديد في الأمر أننا فوجئنا يالسائق يتمهّل بطريقة ملحوظة ... حتى حسبناه سيتوقف ... ولمّا كان الأمر غريباً فقدد ندّت عني غمغمة مستفسرة ... وجاءتني إجابته على شكل اصبع يشير من خلال الزجاج الأمامي للميكروباص ... ولمّا كنت جالساً بالكرسي الأمامي فقد كانت فرصتي هي الأعلى في تبيّن المعجزة السماوية التي أدت بسائق ميكروباص أن يتمهّل ... فكانت الدهشة من نصيبي مضاعفة ... حتى ظننت لوهلة أني استغرقت في النوم وأن ما أراه أمامي ليس صحيحاً ...
فبعرض الطريق تماماً ... وفي مشهد أراه للمرة الأولى ...
كان طابور قصير من الحمام الأبيض ... يذرع الطريق جيئة وذهاباً سيراً على الأقدام ...
كلا ... ليس ثمة خطأ فيما قرأتم ...
ما قلته هو ما قرأتموه تماماً ...
حمام يسير على أقدامه بعرض الطريق ...
لا يطير ... لا يأكل شيئاً من الأرض ... لا يجري ...
توقف الميكروباص ... واشرأبت الرؤوس والأعناق لهنيهة ... بل اندفع بعض المرفهين من حاملي التليفونات المحمولة المتقدمة لالتقاط صور للحمام العجيب بكاميرات المحمول ... أما أنا فقد فغر فاهي وتدلى لساني ... واقتربت بوجهي من الزجاج الأمامي كثيراً حتى أن أنفي انبجس ...
انتزعنا السائق – وبعض الراكبين المتعجلين – انتزاعاً من الحدث العجيب ... وأطلق للميكروباص العنان حتى أنه كاد أن يدهس الحمام في رحلة عودته من الجانب الآخر للطريق ...
الحمام الذي لا يطير استحوذ على تفكيري وتأملاتي ...
سرنا قليلاً ... وكنت قد حزمت أمري ... فطلبت من السائق أن يتوقف ... فنظر لي مدهوشاً ... إذ أن قرار توقفي لم يكن قريباً من أي قرية أو تجمّع مأهول يعرفه ... ولكن الأمر لم يكن لِيُهمّ الآن ...
نزلت من الميكروباص ... الذي تردد سائقه لوهلة علـّي أعود عن تفكيري وأعاود الركوب والمضي قدماً لمحطة وصولي ... إلا أنني لم أعدل عن قراري ...
في هدوء ... بدأت السير في عكس الاتجاه ...
على قدميّ ...
عائداً إلى حيث الحمامات ... لا تطير !!!