حذو الدعامة الكونكريتية
خرجتُ من المقهى. وقفتُ على الرصيف؛ أفكر في عبور الشارع والانعطاف يسارا حيث ساحة الميدان، ومنها الى القسم الداخلي، وبين الانعطاف يمينا حيث سوق السراي.
تلمستُ جيبي، كان فيه ما يكفيني لشراء كتاب جديد، لذا قررت الانعطاف إلى اليمين، تحاشيت الدعامة الكونكرينية، وقبل اجتيازها؛ لفتت انتباهي صورة كبيرة ملصقة عليها. جفلت ثم تسمرت في مكاني كمسمار صدئ في لوح قديم.
ارتعشت مفاصلي وخفق قلبي إجلالا، واجتاحتني رعدة كدت اسقط على إثرها. امتدت يدي نحو الصورة، مما ساعدني على الوقوف. استدرت وأسندت ظهري عليها. بعد برهة تطلعتُ الى ملامح صاحب الصورة، وهمستُ لنفسي:
اجل هذا صالح (صلوحي) كما كانت تسميه أمه؛ هدية الخبازة.
سرحتُ مع أفكاري، وبدت ملامحه تتجسد أمامي. تلمست الصورة بقلب خافق ويدين مرتعشتين، وكأنني أتلمس قسماته، لأتأكد من حضوره. خطر ببالي جلوسنا على عتبة البيت يغطينا ظل الجدار، و الشمس تحاول أن تتعامد، كان الظل لا يكاد يغطينا. ونحن ننتظر أن يأتينا صوت أمه مع الرغيف الحار.
صالح....... صلوحي.
يقفز بلهفة يتناول منها رغيف الخبز الحار ويقسمه بيننا. تأخذ الشمس بأجسادنا ونحن نلوذ بالجدار نتحاشى حرارتها، لحين خروج اخر امرأة جاءت لشراء الخبز من هدية الخبازة. كان يخجل من الدخول مع وجود النساء في بيتهم.
مرّ المشهد من أمامي وأنا قبالة الصورة الملصقة على الدعامة الكونكريتية.
تفحصتها بدقة، وقلت:
انه هو هذا أبو الوطن، و ها هي عيناه السوداوان، ما زال بريقهما حيا ينتشر على بشرته الحنطية، وقامته المتوسطة.
كنا فتيانا لم نتجاوز الثامنة عشر ة من العمر ؛ عندما هب متطوعا في صفوف فدائي فلسطين.
كنتُ انتظره على عتبة الدار عندما جاء ليخبرني بتطوعه والفرحة تغمره، وأكد لي موعد التحاقه غدا.
لم أكن يومها مع المودعين، فقد عزّ عليّ فراقه. لذا كنت انتظره على عتبة الباب، امني نفسي بعودته.
وصلتني رسالته يخبرني بوجوده في لبنان، ويطمئنني على سلامته كما يخبرني عن قدومه بإجازة إلى ارض الوطن.
أخذتني عتبة صبانا، لاستعيد مقالبنا وملاعبنا، وعيوننا المتطلعة إلى السماء، لنتابع طائرة عابرة، ونحن نشير إليها بسباباتنا، نلعنها ونلعن أبيها، والانجليز، وهو يردد في كل مرة. (آه لو كان لي جناحان، لطرت بهما وكسرت أجنحة طائرات الانجليز كله).
انظرُ إلى وجهه المشرق وملامحه العربية تزداد اتقادا وبهاءً، فيراني مبهوتا أتابع ما يقوله بلهفة.
وقفت أطالع مانشيتا كبيرا يسد واجهة السينما الوحيدة في المدينة، عندما شعرتُ بيديه تغطي عيني، وهو يقول:
فلم جميل. أليس كذلك؟
عرفته من صوته. احتضنته بشوق، وقبلته قبلات متتالية ولم انبس بكلمة.
طويت يدي على خسره، ويده تطوق رقبتي، وكم بدت المقهى بعيدة عني، لذا افترشنا الرصيف نجتر ذكرياتنا.
هبت نسمة عذبة من جهة نهر الغراف، فقادتنا اليه، وأغرتنا المسناة بالوقوف، والحديث لم يتوقف بيننا.
نظر إلى النهر بشوق وقال:
السلام عليك أيها النهر الخالد.
ثم التفت إلي وقال:
تصور في احدى العمليات التي نفذتها، وبعد اكتشاف مجموعتنا، لم أجد ملاذا سوى صخرة هرمة، استطاع ظلها تغطيتي وحجمها يخفيني، عندما كانت الطلقات تمطر حولي وتجتازني بصفيرها، أغمضت عينيّ، وأول ما خطر ببالي هو هذا النهر، وصور المدينة وبساتينها، وسوقها الكبيرة.
حتى عادت لذاكرتي حشود الناس المتجهة إلى (ساحة الصفاه) لتشهد إعدام أبناءها يوم انتفاضة المدينة سنة ست وخمسين. تجسدت أمامي صور الشهيدين وهما يودعان أهاليهم ومحبيهم، مما زادني ثباتا وقوة.
قلتُ له:
كنا يومها صغارا. يا أبا الوطن.
ردّ علي وعيناه ما زالتا تغوران بين المويجات المتكسرة على الشاطئ المقابل.
تطلعتُ إلى صورته، وعيناه تشيان بكلمة كان يود قولها.
لقد منّ الله عليّ بجناحين، ولكنهم اغتالوني عى مدرج المطار.
بين حسرة حرى، وشوق استباحني، توجهت إلى سوق السراي، علّني اقتني كتابا، يخفف عليّ لوعتي.