تعريب الطب: من يتقدم لحمل الراية؟!
أكمل من حيث انتهيت في مقالي الماضي حول سياستنا اللغوية ، والتي أكدت فيها على أهمية وضع سياسة وطنية عليا تستلهم حق الأمة –أي أمة- في المحافظة على هويتها الثقافية وإرثها التاريخي بما في ذلك اللغة ، وأن هذا الحق مشروع لها طبقا للأنظمة الدولية ولأعراف الحضارات ولا يمكن لأحد أن يصادره أو يسلبه منها ، وأن من واجبنا الديني والقومي أن نحافظ على لغتنا العربية من الضعف أو الانحسار -ولا أقول الاندثار لأن الله قد تكفل بحفظها من خلال حفظ القرآن- ، وهي المشكلة التي تواجه لغات العالم حاليا ، فلقد كان عدد اللغات في بداية القرن العشرين 15 ألف لغة وأصبح 500 في نهايته ، وأن 300 لغة من الـ 500 في خطر، بينما يتوق الناس إلى تعلم 12 لغة فقط ، ويصر بعضنا على اختزالها في لغة واحدة وهي الانجليزية ، يعادون ويوالون على أساسها ، على الرغم من أن بعض من يفعل ذلك منهم لا يحسن الحديث والكتابة بها ، فهو يستخدمها لزوم التعالي أو"الفشخرة" !.
وكعادتنا في الكذب على أنفسنا و استخدام المصطلحات بعد تفريغها من محتواها ، فإن البعض يظن بأننا سنجيد الانجليزية لو درسناها في مراحل متقدمة كالروضة أو الابتدائية ، أو لو زدنا عدد الحصص ، أو كثفنا مناهجها ، أو لو أرسلنا أبنائنا إلى معاهد في الصيف لتعلمها ، وهي وسائل قد تحسن من مستوى المتعلم –على الرغم من أنها عادة ما تكون على حساب العربية- ، ولكنها حتما لن تجعل من الانجليزية بديلا عن العربية ، فتكون النتيجة تخريج طالب ضعيف في لغته الأصلية التي يستطيع أن يتعمق في الفهم بها ، فيصبح كالغراب الذي نسي مشيته! ولم يفلح في تقليد الحمامة ، فينجح الطالب في الانجليزية بمستوى ركيك واقعيا وممتاز نظريا .
لا أتحدث من فراغ ، ففي كلية الطب –التي ُأدرِس فيها- والتي يدرُس فيها صفوة خريجي الثانوية العامة ، يظن الطالب في السنوات الأولى بأنه يدرس المناهج بالانجليزية وهو بعيد كل البعد عن ذلك ، فأساتذته ُيدرٍسونه في الغالب بلغة هجينة تستخدم فيها الانجليزية في المصطلحات فقط ، وهو ما يعادل 10% من مجموع الكلمات التي يقرأها ، ويتم تدريسه بهذه الطريقة المهجنة لأنه لا يستطيع أن يفهم باللغة الإنجليزية لو تحدث أستاذه بنسبة 100% بالانجليزية ، أو أن مستوى الأستاذ ضعيف أصلا فيها ، فينجح الطالب في الامتحانات بحسن الظن فيقوم الأستاذ بتقديم حسن الظن بالطالب فيقول لعله يقصد كذا وكذا ، ولا تعجب إن رأيت الطلبة يستخدمون الملازم والملخصات بدلا عن المراجع الإنجليزية ، وأن تلك الملخصات قد تم ترجمة مصطلحاتها إلى العربية من قبل الطالب ، فليس هذا هو المهم إنما المهم أن "نفشخر" بأن خريجنا يدرس الطب بالانجليزية ، ثم يصل الطالب إلى السنوات النهائية فأضطر –ومعظم زملائي- إلى إكمال المسرحية التي بدأت فصولها من الأول متوسط ، ونستمر في الحديث إليهم بالانجليزية حتى يدركهم الشرود الذهني وعدم القدرة على المتابعة فنتحول مرغمين إلى العربية لإفهامهم المقصود ، وتنتهي الحفلة بالتخرج والتقديم للدراسات العليا ، وهنا تحدث النقلة النوعية في حياة الطالب حيث يكون قد بلغ مرحلة النضج والاعتماد على النفس ، فينكب على تحسين لغته نطقا وتحدثا وكتابة ، فلا يمر عام واحد إلا وقد أجاد اللغة التي يحتاجها في مستقبل حياته ، وقد لا تكون اللغة الانجليزية بل الألمانية أو الفرنسية أو السويدية أو أي لغة كانت ، فالحاجة أم الاختراع ، والتحدي يولد القوة ، والنضج العقلي والخبرة في الحياة تعين في هذه المرحلة ، وكلما كان متقنا للغته الأم كلما سهل عليه تعلم غيرها.
هناك 300 مليون أو أكثر من العرب وهناك أكثر من 150 كلية للطب لا ُيدرس الطب فيها بالعربية إلا في 5 كليات ، أما البقية فَتدرس بلغات مهجنة من الانجليزية والفرنسية والايطالية ، بينما ُيدرس الطب باللغات الوطنية في الكثير من دول العالم ومنها المانيا وفرنسا وايطاليا واسبانيا وروسيا والسويد والدانمارك وأوكرانيا ، بل وحتى ألبانيا الفقيرة وفنلندا ذات اللغة الأصعب في أوروبا وغيرها من الدول الأوروبية ، أضف إلى ذلك إيران و تركيا والصين وكوريا واليابان وفيتنام واندونيسيا بل إن تنزانيا تدرس الطب بالسواحلية ، وغير هذه الدول كثير جدا ، بل إن الطب يدرس في إسرائيل بالعبرية وهي لغة لا يتحدث بها إلا أقل من 10 مليون نسمة ، ومعظم أطباء إسرائيل قد درسوا بلغات غير العبرية ، فلماذا ُكتِبَ على العرب فقط الشعور بالدونية والنقص تجاه لغتهم العريقة؟! ، ولماذا لم يرحب الكثير من الأكاديميين في كليات الطب بدعوات التعريب على مدى 30 عاما وبعد جلاء المستعمر على الرغم من تأييد المنظمات الدولية والجهات الرسمية لذلك؟! ، يبدو أن السبب الرئيس هو غياب من يحمل هم اتخاذ القرار، ثم وجود مقاومة شديدة داخل المؤسسات التعليمية من قبل بعض الكسالى الذين يفضلون بقاء الوضع على حاله خوفا من تعب وجهد التعريب ، أو من ثلة من الوجلين الذين يخشون أن ُيحاط بهم ، أو قلة قليلة من المستلبين المستغربين!.
لقد درس العرب والمسلمون الطب بالعربية قرون بعد أخرى ، فدرسوا الطب في كلية طب القاضي العيني (وهو ما عرف لاحقا بقصر العيني جامعة القاهرة حاليا) باللغة العربية أكثر من ستين عاما ، حتى تحولوا وبضغط من المستعمر إلى الانجليزية في عام 1887م ، كما درسوا الطب بالعربية في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية في بيروت) لسنين طوال ، واستمرت جامعة دمشق في تدريس الطب بالعربية لمدة قاربت الخمسة وثمانين عام وحتى تاريخه ، خرجت كلية طب دمشق أجيال من الأطباء المتميزين الذين شهد لهم القاصي والداني ، وأثبتوا جدارتهم في اجتياز امتحانات المعادلة باللغات الأجنبية ، ولعلي اذكر في هذا الصدد على سبيل المثال وليس الحصر ممن أعرف الدكتور خالص جلبي الذي درس فيما بعد بالألمانية فأجادها وبرع في النقل من علومها في الطب وغيره ، والدكتور حسان شمسي باشا الذي أكمل بالانجليزية وأستمر يترجم ويؤلف بالعربية عشرات الكتب ، وطبيب العيون الشاعر محمد حكمت وليد الذي تشرفنا بتدريسه لنا في جدة ، وكذلك أستاذنا الدكتور مروان المحاسني الذي يجيد العربية والانجليزية والفرنسية كواحد من أهلها ، وغيرهم كثير، مما يدل على عدم وجود علاقة سلبية بين التعلم بالعربية وضعف المستوى في إكمال الدراسة العليا أو متابعة الجديد في عالم الطب ، بل إن العكس هو الصحيح!. و أن تعليم الطب بالعربية لا يعني عدم تشجيع تعلم اللغات الأخرى ، بل إن في تعلم كافة اللغات وليست الانجليزية فقط خير متعد ، فمتعلمها سوف يفيد أمته في الترجمة والنقل من علوم الآخرين ، ويسهل عليه متابعة الجديد في تخصصه ، ويوسع من أفقه .
لقد أثبتت الدراسة التي أجراها الأستاذ الدكتور زهير السباعي والدكتور عدنان البار-وهما من دعاة التعريب في بلادنا- أن نسبة المصطلحات في كتب الطب حوالي 3,3% (وفي تخصص الجراحة 2،5%) ، وأن سرعة القراءة لدى الطالب تزيد بنسبة43% عند التحول إلى العربية ، وتزيد نسبة الاستيعاب بنسبة 15% بل إن 75% من الطلاب يفضلون الإجابة بالعربية عند سؤالهم بالانجليزية ، وأن الطالب يوفر أكثر من 50% من وقته إن درس بالعربية ، وهذه نتائج لدراسة واحدة من دراسات علمية عديدة يصعب استعراضها ومناقشة الوسائل والحلول والتوصيات التي قدمتها في مقالة كهذه ، فما المشكلة إذاً ؟
إن هناك مشكلة مع بعض الأكاديميين الذين يختارون الأسهل فيفضلون التدريس باللغة التي تلقوا دراستهم العليا بها فهم لا يرحبون بل يحاربون التدريس بالعربية ، وهناك مشكلة في القناعة عند البعض بأن الطالب الذي يدرس باللغة العربية اقل مستوى ، ولنا أن نتساءل عن كيف يعمل الصيني والروسي في أمريكا مع انه قد درس البكالوريوس بالصينية والروسية؟!، أم أن الأمر محرم فقط على أبناء الضاد ، وكيف عربت ومواقع و برامج الكمبيوتر كموقع جوجل وبرامج مايكروسوفت وغيرها؟! ، وكيف تطرح مكتبة جرير والعبيكان عشرات الكتب المنقولة إلى العربية شهريا بحثا عن الربح؟! . أن الأمر يحتاج ببساطة إلى قرار يتخذ بتعليم الطب بالعربية وتترك تفاصيل التنفيذ لعلمائنا وأطبائنا من أبناء العربية البررة للبحث عن مصلحة أجيالنا القادمة في هذا المجال الحيوي.
حاشا لأمتنا أن تقف عاجزة حسيرة الطرف بين أمم الأرض ، لنبدأ من حيث أنتهى الآخرون ، ولنجد حلا لمن يقاوم التعريب ، فمن كان جاهلا فليعلم ، ومن كان عاجزا مترددا فلتشحذ همته ، أما من كان مستغربا مستلبا فلندع له بهداية تدله على الحق ، أخشى أن تهجر اللغة العربية وأن تنتهي كالسريانية لغة تستخدم لغرض قراءة الكتاب المقدس ، وتلك لعمر الله قضية سنسأل عنها يوما ما!.
مشاركة منتدى
10 كانون الثاني (يناير) 2006, 02:18
أنا أعرف أنه الدكتور حسن بن علي الزهراني وليس علي حسن أرجو تعديل الإسم أين المقال الأول الذي أشار إليه الدكتور حسن
3 كانون الأول (ديسمبر) 2011, 06:50, بقلم م ماجد يحيى
العالم الجليل الدكتور محمد الرخاوي حمل الراية وقام بتعريب جميع كتب التشريح التي تحوي المصطلحات الطبية وقامت بطبعها ونشرها دار المكتب المصري الحديث منذ اكثر من عشر سنوات والبقية تأتي ان شاء الله