تحقيق الذات
فما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع
أقف مع هذا البيت، وأراه تصويرًا لكل طموح ولكل مؤمل بغد يرى الآخرين مهتمين به ، ولو لم يظهر على بعض الناس فإنه لا شك حديث نفسهم وحوار عقولهم الداخلية، فقضية تحقيق الذات هي التي يكد الناس من أجلها ونظرة خاطفة إلى طرق مدينة مكتظة ترى فيها ألوان تحقيق الذات بصور مختلفة متباينة، فهذا راكب سيارة يحلم ربما بوصوله لمنصب أعلى، وبجواره راكب حمار يتمنى أن يكون عنده ثمن إطار سيارته وكل منهم يسعى إلى تحقيق ذاته وفق منظور حدده بنفسه ووضعه أمام عينه فلا يرى الحياة إلا من خلاله.
هكذا كلما التفت يمنة أو يسرى أو صوبت نظرك إلى الأمام أو استدرت إلى الخلف ستلمح أرجلا وأيد تتحرك تراهم مسرعين منهم الضاحك ومنهم العابس ومنهم الذي لا يمكنك تحديد صورته. إنه كوكتيل الأرض المكون من عناصر بشرية فيها الأسود والأبيض ، ولكنهم مجتمعون بانضوائهم تحت النوع البشري الذي يؤمل في أن يكون شيئًا ما في هذه الحياة.
وما أدل على هذا أن الناس يفرحون عندما تسمهم بالعلم وتثور ثورتهم عند رميهم بالجهل، فإذا كان إنسان لا يتأثر بهذا الوسم فمجرد نقدك له نقدًا حادًا يؤدي إلى زوال ثوب الرياء والعودة إلى الطبيعة البشرية التي لا يمكن لأحد مخالفتها، حب الذات وإثبات التميز على الآخر، ولكن يبقى لهذا القادر على ضبط مشاعره فضل المساعدة في تحقيق شيء من التوافق واستمرار عجلة الحياة بالسير على تربة شبه منبسطة، وهذا ربما يفسر السر في استمرار حياة الغربيين اليوم، فالكل يسعى لإثبات ذاته بل إن ثقافة الفردية هي مضمون وفحوى تربيتهم اليوم، ولكنهم يتغاضون فيما بينهم عن أمور كثيرة قابلين أجزاء الخسارة مقابل خسارة الذات بالكامل.
أما نحن فكل منا يسعى لإثبات ذاته علانية اليوم ولكثرة الداعين للذاتية صرت تشك بوجود من يسعى إلى تحقيق ذات المجموع، والانفصال قليلا عن محور الذات الفردية، ففي كل مكان ترى الذاتية يعلو صوتها وتحاول السيطرة على كل شيء.
وسأبدأ بأهم منافذ البشرية التي تعطي رؤية تقترب من الدقة في تحديد الفكر البشري.
القنوات الفضائية:
ترى قناة من القنوات تبدأ بعرض نفسها على أنها قناة تقبل جميع وجهات النظر وأنها ذات رسالة إنسانية وهمها حرية الفكر واللسان، تمر الأيام وبمجرد تعرضها لأزمة مع من يتحكمون اليوم بالذوات البشرية تراها تغير مسيرها وتبدأ بعرض رؤى تختلف مع ما ادعته، وتسمع صيحات أولئك الذين يصرخون من أسفل الوادي السحيق -وادي الصدق- لِمَ هذا التغيير في المسير؟! وتراها لا تأبه لهم؛ لأنها مزقت ثوب الرياء وعرضت حقيقتها التي تقول باللغة العامية: (( ألف أم تبكي ولا تبكي أمي علي)) إنها تبدو عارية من تلك الأحلام التي ظنها متابعوها أنها صارت حقيقة فوسمت بأوسمة صوت الحق وضمير الأمة وقلبها النابض؛ وإذ بها ترمي بكل تلك الأوسمة في مستنقع الفضلات وتجد السير في تحقيق ذاتها التي تعنون اليوم بـ : اكنز المال ومن أي طريق جاء. وهكذا حُطم هذا الأمل وعدنا إلى بشريتنا وهي الاهتمام بتحقيق الذاتية والابتعاد قدر الإمكان عن المجموع؛ ولذلك إنه من الغباء أن يضع متسائل كان متابعًا لهذه القناة السؤال التالي:
لم عرضت القناة خبر فوز إحدى العراقيات ببرنامج ستار أكاديمي؟، مع أنها هي التي ناقشته وسفهت من شأنه في أحد برامجها الشهيرة، الجواب أن القناة تحذر على الأم من ذرف دمعة على خدها.
وعلى ثغور الأحرار تساؤل أي المجالات سنسمع فيه صوت الحق يعلو دون مداراة ودون سير مع التيار الذي يجرف في أيامنا كلَّ قيمة ؟. وهل سيبقى تحقيق الذات في مجتمعنا متمثلًا بلقمة العيش؟ ومتى سنرى صوت الحق يعلو فوق هذه الاعتبارات أسئلة تهمس بها شفاه الأحرار، فتشعرهم بغربة في هذا الواقع الذي يشبه من يجمله ذاك الشخص الذي يغني بين القبور.