السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم حسن توفيق

امرؤ القيس يرتدي الجينز..

ويركـب مـرســيـدس بـنـز

لأن مجنون العرب.. يحب أن يرى العجب.. فإنه لا يحب أبداً أن يغمض عينيه.. كما أنه يبيح لنفسه أن يتجسس بأذنيه.. وهكذا يستطيع أن يرى لمسات العشاق للعشاق.. كما يستطيع أن يرصد همسات الأشواق.. ولا يتردد المجنون في استخدام ما لديه من حيل.. طالما أنها تفتح أمامه السبل.. فلديه طاقية إخفاء.. تخفيه عن الأنظار حين يشاء.. ولديه بساط الريح.. وبفضله يتنقل وهو مستريح.. كما أن لديه صاروخا عابرا للزمان.. يمكِّنُه من الوصول بكل أمان.. إلى أي زمان كان.

بفضل هذه الحيل وسواها.. وبفضل وسائل أخرى أُهديت له أو اشتراها.. تمكن مجنون العرب.. أن يتنقل دون أي تعب.. ما بين مكان ومكان.. وأن يطير من زمان إلى زمان.. وأن يلتقي مع أصدقاء أعزاء.. لم يعودوا أحياء.. وأن يستمع إلى شعراء عظماء.. ممن غابوا عن الدنيا منذ سنوات وسنوات.. أو حتى منذ قرون غرقت في بحر الظلمات.. ومع كثرة التنقلات والأسفار والرحلات.. أتيح للمجنون أن يتعرف وأن يتجسس.. كما أتيح له أن يتنفس.. بين رعد الغضب.. وليالي الطرب.

تاه المجنون ذات مساء.. في قلب الصحراء.. لكنه أحس بالفرح عندما لمح ثلاثة رجال.. يقفون عند أحد التلال.. أكبرهم يضع على رأسه الغترة والعقال.. لكنه يرتدي بنطلون جينز .. ويستند على باب سيارة مرسيدس بنز .

هز المجنون رأسه بالتحية.. وسألهم عما إذا كانوا يعرفون اللغة العربية.. فضحك أحدهم قائلا: نحن نعرفها رغم أنها أصبحت من اللغات الثانوية.. أما الإنجليزية فإننا نجيدها لأنها هي اللغة الأساسية.. وتلطف أكبرهم ووضع يده على كتف المجنون.. وقال له: ولماذا لا تسألنا عمن نكون؟!.. سأروي لك الحكاية.. من بدئها حتى النهاية.

هذان الرجلان صديقان.. وأنا وهما هربنا من سجن الزمان.. بعد أن قمنا برشوة السجان.. وقد جئنا إلى هنا لاستعادة الذكريات.. في هذه المنطقة بالذات.. والمنطقة إذا كنتَ تجهل.. اسمها منطقة «دار جلجل».. زمان كان هنا بلاج من أحلى البلاجات.. وكانت تستحم فيه أجمل الفتيات.. وقد تغزلت فيهن وكتبتُ عنهن معلقة.. لكني اعترف الآن بأني جعلتها طعاما للمحرقة.. نظراً لأني أكتب الآن معلقة جديدة.. وسأعلقها في إحدى حدائق واشنطن البعيدة.

قال المجنون بشيء من الحسم:

 لكني حتى الآن لم أتشرف بالاسم!.

 آه.. معك حق.. اسمي القديم هو امرؤ القيس.

أكاد لا أصدق ما يقال.. أأنت بالفعل الشاعر الذي كان يبكي على الأطلال..

ويقول لصديقيه:

قِفَا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

بسقطِ اللوى بينَ الدخولِ فحوملِ

 هذا ما كان.. أيام زمان.. أما الآن فإني كتبت - كما قلت لك - معلقة جديدة.. وسأسمعك حالا بعض أبياتها الفريدة.

.. وتنحنح امرؤ القيس ومال.. ثم كشخ الغترة والعقال.. وقال:

قفا نبكِ من ذكرى دجاجٍ متبَّلِ

يُطَشُّ بزيتٍ حيث يُقلَى بفلفلِ

ويُوضعُ في المقلاة يحمر زيتُها

بأفرانِ مكروويفَ بالشبْسِ تمتلي

فقد ضاق بطني بالجِمالِ وأكلها

وأصبح كنتاكي قريبا لمنزلي

أفاطمُ مهلاً.. أين صحنُ المخلِّلِ

وإن كنتِ قد نظفتِ صحني فهرولي

وما نبشَتْ كفَّاكِ إلا لتنهشي

بكفَّيْكِ في أعماق وِرْكٍ مُفَتَّلِ

أتيتُ بمرسيدسْ فما عدتُ دارياً

بحالِ جِمالي في بلاجاتِ جُلْجُلِ!

و«جِنزاً» أحب البنطلونَ لأنني

أحرِّكُ ساقي فيه دون تململِ

.. لم يصفق المجنون لما استمع إليه.. فاغتاظ امرؤ القيس وفرك له أذنيه.. ثم انطلق مع صديقيه.. حيث امتطوا جميعا صهوة المرسيدس البنز.. وهم يترنحون مما أصابهم من العز.. أما المجنون فقد اهتدى للطريق.. بعد أن ظل تائها بلا رفيق.. لكنه لاحظ أن الزحام شديد.. بسبب تنافس الناس على لقاء عيد.. هو عيد الفطر السعيد.. وهذا ما يدفعهم لشراء كل جديد.. واكتشف المجنون أن أبناء الصين.. وكلهم من البوذيين.. أو من أتباع كونفوشيوس.. هم الذين يعملون بجهد ملموس.. لكي يصنعوا فوانيس رمضان.. ويقدموها بأجمل الأشكال والألوان.. لأطفال «لا إله إلا الله».. فتنهد المجنون وقال: آه ثم آه.

لم يشترِ مجنون العرب.. إلا كيلو عنب.. بعد أن تأكد أن من زرعوه من الفلاحين العرب.. لكنه تعجب كل العجب.. حين تنبه أن المحلات العربية.. ليس فيها غير البضائع الأجنبية.. فتأكد له أن العرب.. لا يصنعون لأطفالهم حتى اللعب!.

ويركـب مـرســيـدس بـنـز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى