المقبرة
لقد سئلت يوما عن كيفية انفلاتي من ذلك القبر، ولم اجب، لأني كنت في داخل مقبرة
لحظة شروع الدرس الأول في جامعتي، دخل احدهم ، اقتادني مع ثلاثة آخرين كانوا ينتظرونني خلف الباب بعيون هازئة إلى سيارة خاصة ، قيدوا يدي ، شدوا عيني وفمي بخرقة وانطلقوا بسرعة .
أجدني بعد ساعة في غرفة ضيقة ذات طلاء ذي حمرة داكنة ، وأرضية ملطخة ببقع أشبه بالدماء المسودة ، ومن خلف الجدران والباب تتسرب إلي صرخات مخنوقة وضعيفة .
وفي الليل اقتادوني للاستجواب ، ولاني لم افهم كيف و لماذا أوقفوني ، أردت أن أسأل،.. فأجابني المحقق :
– معذرة ، لقد جاءوا بك بالخطأ، هناك اسم يشابه اسمك ، وستخرج ...... !
وبإشارة منه، ظلّموا عيني بالخرقة مجددا، قيدوا يدي إلى الخلف ، ثم ساقوني إلى مكان مجهول.
وعلى بعد مسافة تخللتها ممرات ومدارج للصعود والنزول ، وصرخات وهمسات وانين ، أوقفوني قبالة حاجز، عرفت انه باب حديدية بعد أن سمعت صرير الأقفال وهي تفتح ثم قذفوا بي في زنزانة بعد أن رفعوا الخرقة وفتحوا قيدي ثم رحلوا؛
زنزانة بمساحة مترين في ثلاثة ، مع مرحاض يقطع أحد أركانها ، ونافذة ضيقة ككوة لكابوس.
تفاجأت ولم اصدق ما أراه ؛ أجسادا متلاصقة ،وفضاء دبقا ، ورائحة أشبه برائحة ميت تغص بالاختناق ، كانت العيون التي أمامي تنظر إلي بصمت خارج أنفاس محتبسة تتكسر في الأفواه الفاغرة والمنغلقة وهي تستفهمي خلسة. وأنا واقفا لصق الباب أرى هذا العالم الغريب الساكن في قبر كيف يعيش في مساحة مضغوطة كبذور مدفونة تحت سماء بخيلة . كانت الإضاءة الغائرة في السقف تساعدني أن أرى بوضوح لمعان عيونهم الذابلة والنابتة في رؤوس محلوقة تبين كبلاط الزنزانة الأسمنتي وهي تنكسر قليلا عند رقابهم المغروسة في أجسادهم المتلاصقة في جلوسهم ألكابوسي المقرفص . لا أستطيع أن أنسى تلك الوجوه الشاحبة الممزوجة بالخوف والترقب ، وتلك الشفاه المكتنزة أسئلة بحجم الانتظار ، تثقل ألسنتهم وهم يعيشون في هذا الجزء المجهول من العالم ، والمقطوع من كبد العاصمة ، ولم أتخيل ان تلك الوجوه ستظل تزورني في استلقاءاتي مطبوخة بأسرار ، تحاول ذاكرتي فكها ، لكنها كانت تأتيني باستفهامات جعلتني أرى العالم بعيون تلك الوجوه في حركتي اليومية.
كانت الزنزانة أشبه بصندوق تغص براحة الأجساد والأحلام والكوابيس والأدعية والأماني والدموع والبكاء، وبدت الأشياء التي تربطهم بالحياة ميتة سوى ذبذبات الحلم وهي تحمل انسراحاتهم إلى المدينة والبيت والأهل والطفولة ....
لم أكن أتصور أن هذا الحيز الضيق يجمع أكثر من عشرين شخصا يعيشون لفترات عرفت فيما بعد أنها مختلفة ، أقدمهم هنا مضى عليه أكثر من عام، ولاني حملت كلمات الضابط معي ، ووعده لي بالخروج، كنت اخفي أملا جعلني اعد الدقائق الواحدة تلو الأخرى بانتظار خبر الإفراج عني ، ولان الانتظار في هذه الأماكن هو باب للموت أو للسجن ، وهو الوقت المحمول بصدى آلاف الهواجس التي سبقتني في هذا المكان وانطبعت على الباب الصدئة كتواريخ ، تحولت الدقائق إلى أيام واشهر ، وتحولتُ إلى وجه سيراه المقذوف بعدي في الزنزانة ، كرؤيتي للوجوه التي سبقتني في أول لحظة لامست قدماي بلاطها.
كان الوداع هو المهيمن على فضاء الزنزانة. لذا عرفت بعد مدة أن المعتقلين يمارسون الوداع كل لحظة سرا ، وفي ساعات مشوبة بالذكرى ترى أجسادهم مرتخية ، تتهدل رؤوسهم نحن صدورهم العارية ، وعلى وجوههم تسيل نداءات أعماقهم به، وفي حالات استدعائهم يمارسونه علنا وإنهم في تناقص وتزايد، وعلى الغشاء الذهني الممطوط نحو الأهل والأحبة والمنفصل لحظة الطلاق القسري للقاء ساعة اختطافهم فجأة ورميهم هنا ، تراهم يفقدون الوداع ويتعللون بصور الذاكرة ، وهذا ما يجعلهم تحت وطأة النفي؛ هذا الوجه الأخر لزنزانتهم، النامي على صدورهم حتى في الساعات الأكثر عزلة عن الذاكرة ، يبقى يسحق أمانيهم النابتة بوهم الخروج.
كل لحظة تمر تحمل في نفوسهم تصورا بأنهم سيدعون بأسمائهم وسيرحلون إلى مصيرهم المجهول، والذي يخرج من الزنزانة لن يعود إليها ولن يسمع عنه من الداخلين الجدد، فالجميع قد سمع ان القوائم الكبيرة تنقل إلى أماكن مجهولة ، والنقلات تعني عندهم الطلاق عن الحياة ، ونفقا يضيئه القلق ، وعنكبوت يقضم المصير ويكفنه بخيط من الأمل الكاذب ، أما الاستدعاءات المنفردة فمعظمها يقود إلى محكمة الموت .
وفي ليلي صيفي ، وكالعادة ، فتحت النوافذ الضيقة الملتصقة بالباب، وامتلأت الممرات بعناصر الأمن ، وبين الحين والآخر يطل علينا من النافذة وجه شرطي ، وهو يجحظ عينيه متفحصا الوجوه ثم ينفث كلمة : خونة
ثم بلغنا مع سيل الشتائم : من يسمع اسمه يتهيأ.
وبدءوا بقراءة الأسماء. كانت الأسماء تقرأ وأبواب الزنزانات تفتح وتغلق ، ويقيد المدعوون ، وبين اسم وآخر كنت أرى شفاه النزلاء تتمتم فوق نبضات قلوبهم المدافعة والمندفعة كاللكمات بوجه اللحظة المروعة ، وتبرق عيونهم بالأدعية ، وتتبادل ألسنتهم الوداع ، وأحسست ان الأنفس تعبر مزالق دهليزية وتفلت من فكوك الطحن حين يفلت اسمها من القائمة ، وان الجميع يود ، وأنا منهم برغم أنى أوعدت بالإفراج ، لو ان القائمة تنتهي.
في الأشهر التي مضت كنت اعد كل مرة القوائم السابقة ، مائتين، ثلاث مئة ، أربعمائة ، .....
وفي هذه المرة لم أتمكن من تكملتها لأنهم نطقوا باسمي بعد المئة في ذيل القائمة ، وخرجت من الزنزانة تودعني نظرات من هم لا يزالون منشغلين بمصيرهم المعلق خلف باب الزنزانة ،
تحت صرير الأقفال وهي تقشط الأرواح بمشارط الخوف.
عصبت عيناي واقتدت إلى الطابق السفلي ، ثم إلى شارع في مدينة الأمن ، مع سيل من الكلمات الوسخة المصحوبة بعياط الشرطة والشتائم والمدح للرئيس تشيعني ، سحبت لأول مرة هواء جافا رطبا بعد اشهر من العيش في الزنزانة ، هواء ولد فيّ شعورا حادا بأنني كنت أعيش في تابوت كبير يجمعني مع جثث متفسخة ، فحاسة الشم قد عطلت هناك ، وأصبح الجميع يستنشقون الرائحة نفسها .
أوقفت في الأسفل متلقيا لكمات من الأفواه والأيدي ، ولامست عيني الإضاءة الباهتة للمدينة وهي تتسرب إلي بصعوبة من خلال نسيج الخرقة ، وبدأت تلوح لي أنفاق وممرات لكوابيس وابادات جماعية.
ربطت يداي بحبل إلى الخلف ، ورفعت بكفوف غليظة مع رفسات متواصلة إلى سيارة تأكدت فيما بعد إنها شاحنة عليها دعاية لشركة الألبان . دفعت داخلها حتى تلاصق جسمي مع الباب الذي أغلق بقوة ، وبجسد العشرات من الذين وضعوا هنا قبلي، لا اعرف كم كان عددنا في هذه الشاحنة، لكن أيدينا كانت مربوطة من شخص إلى آخر بالحبل نفسه ، وبدا حيز الشاحنة كحيز الزنزانة ، مضت ربما أكثر من ساعة ، لست ادري بالضبط ، فالوقت هنا أصبح ثقيلا يتراكم بأتربة الأفكار على عشرات الرؤوس المعصوبة والسائبة كالكرات المعلقة بخيوط وهمية بالسقف في داخل الشاحنة.
أحسست ان صندوق الشاحنة تحول إلى قبر مرفوع فوق عجلات زمنية ستودع هذا القبر في مكان ما. فالمعتقلون هم خليط من الأساتذة والطلبة والعمال والكسبة والمتقاعدين ،... وهذا ما جعل للموت مدارا قزحيا يضيق ليهصر الأرواح ويسحبها من الأجساد كالأسماك من البحر.
وفي لحظات دخانية في هذا الحيز المتوتر والصامت والمهتز وفي حالات من الحلم ألانفصامي الغامض أراني صورة مضببة داخل إطار معلق على جدار الشاحنة الحديدي ، وفي داخل الإطار بدأت ملامحي تبين ، وكأنني اثنان ؛ واحد في الإطار وواحد على البلاط. وبدأ الذي في الإطار يصور الجمع المنهك و يشير إلى تكومي على البلاط بـ(هو) . وكأنه أكثر حرية في تصوير هذا المشهد المروع .
كان يشم راحة واحدة تنز من الأجساد المكدسة هي رائحة الموت، ورأى من سقف الصندوق كائنات تخترق السقف الحديدي وتجلس على الأكتاف المتراصة ، كل كتف يجلس فوقه كائن صغير ، مجنح ، ذو ملامح غير مألوفة ، يحمل كتابا اصفر وهو يقلب الأوراق . كانت الكتب تتوزع حسب أعمار الموجودين ، وهي تبدو رطبة ، لان أجسامهم تحولت إلى أغلفة مثقبة تحمل في داخلها مراجل تغلي بالدقائق القادمة. كانت تلك الدقائق تشع بحرارة تهيج السنوات الماضية بالذكرى ، وتغلف تلك الذكريات بالفضاء المخنوق الدبق، وأيقن أن هذا الجزء من الكون المتحرك على عجلات الشاحنة هو يبلغ نقطة اللاعودة ، وان الهواجس في هذا المكان معطلة ، متجمدة ، لم ينفخ فيها القدر قط؛ إنها صورة حية للرحلة الأبدية ومناخ ملوث بالخوف وممطر بنذر الموت. وجزم عندها أن الرؤية كانت تخرج من أعين الموت نفسه ، ولم تعد للعيون المعصبة أي عمل .
لم تزل تلك الكائنات الصغيرة تقلب الكتب بأصابع ناعمة وعيون نافرة كعدسات سميكة وهي تعصر اسفنجة الكلمات على الرؤوس عابسة وحزينة ، فتنبثق قنوات من تلك الرؤوس مخترقة السقف الصلد للشاحنة ، ولم يتسن له أن يدخل جميع تلك الأنفاق ، ولكنه رأى هناك صورا شاحبة تظهر ملامحها بوضوح وتختفي ، تمتلئ بها تلك القنوات ؛ صور أطفال ، نساء ، رجال ، قرى ومدن ،... وشاهد تلك الكائنات الصغيرة تنظر إلى دخل تلك القنوات، ثم تعاود عملها بتفحص اسطر الكتب لاستمرار تدفع القنوات ، وتحولت تلك الصور الشاحبة إلى كائنات بشرية ، وبتمعنه المستمر ، رأى فوق كل رأس قناة، وفي دخل كل قناة صاحب الرأس، وحين دقق في إحدى القنوات رأى صاحبها يطير ويمشى ويركض، ثم شاهده يدخل الشارع المودي إلى بيته ، وأمام الباب هناك أطفال ونساء وأحبة بانتظاره ، وقبل أن يصل إلى البيت في وقت خيم الليل بشكل مفاجئ ، كان في الطرف الآخر للشارع أشخاص يتسمرون على تابوت خشبي ، ثم دعوه ووضعوه في التابوت وحملوه واختفوا .
تولدت هناك رائحة غريبة لم يألفها مسبقا، أتراها رائحة تلك الكائنات الشبحية وأنها رائحة الموت التي لا تخطئ، أم تراها رائحة الذكريات المتفسخة قبل أن يتفسخ الجسد، أم هي رائحة الأماني المتساقطة أجسادها كالمطر من سقف الشاحنة على أجسامهم الملتحمة كالتوائم ، فليس هناك من نافذة للاتصال بالعالم خارج الشاحنة ، العالم الخليط والمنسي والقاسي حسب تصورات المعتقلين.
سقف الشاحنة وجدرانها لم تفتح ثقبا للاماني باستثناء ثقوب للذاكرة الباحثة خارج هذا التكدس البشري عن أزمتها الماضية ، الأماني تحتضر والذكرى تهرب مؤقتا ، وبين هذا الاحتضار والهروب توتر واستعداد إجباري لمواجهة اللحظات القادمة .
كان يحس بقلبه الذي أثخنه الصداع يتشظى عبر كريات دمه ، وكفوف تضغط روحه كلما مرت لحظة في هذا الليل التموزي البغدادي اللاهب في داخل صندوق الشاحنة، فترتفع أنفاسه بحرارة تلهب باطن حلقه وترتسم أشكالا متنوعة للموت أمامه ، وهو يشارك المعتقلين بهذا التصور الذي لا يتذوق مرارته سواهم.
بمرور الوقت بدأت الحرارة ترتفع ، والعرق ينزف من جميع نقاط الأجساد ، وأخذت الأنفاس تلاقى غيوم الحديد اللاهب وهي تتكاثف وتبرق لافحة أجسادهم المطبوخة في فرن حديدي متنقل ، وعامت عيناه خلف الخرقة التي دفعها إلى الأعلى قليلا بركبته أثناء تقرفصه وتكوره كجنين فوق بلاط الصندوق ، فسقط أمام سواد عينيه حلم رآه قبل يومين في الزنزانة ، ولم ينفتح له إلا في هذا الجو الملتهب :
إضاءة النجوم تكشف مسير أربعين رجلا مع دوابهم وعتادهم من السلاح والمؤمن في خلاء واسع . وجد نفسه يتوسط هذا الجمع الذي يجهل هدف سيرهم ومن أين جاءوا ، ولماذا هو بينهم .
كان الليل يغطي كل شيء؛ يشماغاتهم التي تخفي وجوههم، القرى النائية ، الأشجار ، الحشائش والأدغال ، الهضاب ، ...
في هذا الليل الخالي من هلاله، والدامس في وجهه الأفريقي ، برزت أمامهم نقطتان تلمعان بحجم نيزكين انفلتا من عزلتهما في السماء الداكنة واستقرا أمامهم على الأرض ، وبتقربهم المستمر نحوهما اتسعت تلك النقطتان لتصبحان ككرتين فسفوريتين تشعان وتكبران باستمرار ، ثم وصل أسماعهم فحيح وجاست خلال قافلتهم ريح عاصف تنفخ بقوة من مصدر الفسفوريتين ، جعلت الأوراق تتطاير والأتربة تتحول إلى غبار يندفع في اتجاههم متكسرا على وجوههم الملثمة ، عندها قرروا أن يتقربوا حذرين من هذا المصدر ويلتفوا حوله ببنادقهم ؛ كانت أفعى كبيرة لا توصف ، لها رأس ككورة الجحيم وأنفاس كزفير النار، وعينان نابضتان جائعتان . وبنقطة ما ، وقفوا أمامها بخط مستقيم؛ تحرك طرفي الخط مشكلا نصف دائرة منحت مع المصدر نونا للموت سيتحول إلى مظلة مفترشة الأرض في لحظة أفراغ بنادقهم المتخمة بالموت باتجاهه . مرت ساعة ، أعاد النون شكله ثم تصاغرت تلك الفسفوريتان متحولة إلى نجمتين شاحبتين ثم انطفأتا ، عندها واصلوا مسيرهم كنقاط غير منتظمة.
بعد ساعة نفقت إحدى دوابهم ، وحين قلبوها لمعرفة سبب الموت ، لم يجدوا أثرا يذكر. كان الموت الذي بدأ يطيل المواشي خالي من الملامح واللكمات والطعنات والألوان. كانت الماشية تسير ثم فجأة تسيل قواها من أطرافها ، وبدا لعينيه ذوبان عظام الأطراف وتحولها إلى سائل تمتصه الأرض ، فتبرك الدابة ثم تتكوم كصخرة من سفح . ولم يمض وقت طويل في هذا الليل حتى خلفوا ورائهم جثث جميع مواشيهم وجسد الأفعى ، ولكنهم لم يعبئوا ، بل كانوا مصممين على مواصلة السير ، وتحت موجات الإذهال ، فقدوا أحدهم ، رغم بدانته وقوة جسده العضلية ، وعدم مرضه طيلة حياته حسب أقوال الذين دفنوه ، ولم يعرفوا انه كان بداية حبل يجرهم الواحد تلو الآخر إلى قبور في أمعاء الليل ، عندها بدأ الخوف يعاند الليل ويصارعه بسواده وقوة سطوته في قلوب هذا الجمع . كان عددهم يتناقض بعد كل مسافة قصيرة يقطعونها ، وبدأ يعد كغيره عدد الموتى ، ويعد في داخله الخطوات المتبقية لقبر فاغر بانتظاره ، وأحس أن جميع الجهات حفر مهيأة لاستقبالهم ، وهذا لم يدع له وللمتبقين لحظة في أن يفكروا بدفن رفاقهم الموتى ، وخاصة بعد أن اخذوا يفقدونهم مثنى وثلاثا في اللحظة ذاتها، وعندما رأى آخر شخص ينفق أمامه ، اخذ يهرول فجأة حافيا مرتديا ثوبا مخططا خاطته أمه عندما كان عمره عشر سنوات . كان يرى شكل الثوب وهو يركض من زقاق إلى زقاق ومن ثم في هذا الخلاء المظلم الموحش ، إلى أن وجد نفسه مقرفصا في شق أشبه ببداية كهف منطمر داخل تل مرتفع ، مسددا بندقيته خارج فضاء الشق بوضع أفقي وهي تبين عن بعد كغصن نابت جانب التل ، كان الشق مفصلا كعباءة لجسمه . تحنط داخله دون أي حركة ، وعيناه مفتوحتان تتحركان بقلق وشفتاه تتمتمان بلهاث متعب ، وإصبعه مهيئا لإطلاق النار على صدور وهمية لعدو غير معروف ، أحس أن الوجع أحجار تقذف فوق غشاء قلبه ، مخلفة دمامل تنبض بالألم ، وان نهايته تنزل كأصابع من كف الليل وهي تفتح له دهاليز في قدره المحفور في الأرض كقبر، واجبره الخوف أن يتحول إلى حجارة تسد الشق ، وان لا يترك هذا المكان لهروب فاشل يقوده حتما إلى جثة متفسخة في العراء . كانت الدقائق تتحرك كسلاحف ، ولم يلمح فيها أي شيء مريب ، وبدأت راحة الوقت تقلل من سرعة نبضاته وتغريه باطمئنان شاحب ، وفي الدقائق القادمة من هذا الليل وفي الخط الواصل بين عينه ونهاية البندقية، كانت تنزل من الأعلى سلال خيطية لامعة ، طيارة ، رآها أول مرة تخرج من حفرة الأفعى وتختفي في ثوب الليل ، وها هي تعود مرة أخرى ثم مرات عديدة ليومين كاملين ناقرة الاسطوانة الحديدية البارزة للبندقية خارج الشق ثم تختفي ، وعلى الاسطوانة يسيل سائل اصفر يسقط كقطرات فضية إلى الأرض، وفي اليوم الثالث الذي لم تعد فيه السلال مجددا خرج وهو يلهث بالجوع والعطش وقضاء حاجته وهو يهرول ويسقط كطفل يتعلم المشي.
مضت ساعة وهم بهذا المرجل البخاري اللاهب، تكشف الإضاءة الباهتة لعينيه هيئة المعتقلين كعنقود من التمر المطبوخ بحرارة الصيف، فبدا الأشخاص كتمور مائعة ، والحبل الذي يربط أيديهم إلى الوراء كغصون شجرة متسلقة، وهو ينتهي بحلقة حديدية يحكمها قفل في زاوية الصندوق الحديدي ، وامتزجت حرارة الخوف ورائحة الموت وحرارة الصندوق بصدورهم التي تلوك الهواء الفاسد الرطب فيشيخ الوقت بأعمارهم وهم يودعون وجودهم بترقب وقلق وبكاء صامت، وأحس ان نبضاتهم المهرولة تلوح لأرواحهم التي فتحت لها جميع منافذ الجسد للولادة بأيدي الغيب ، ولم يتكلم أحد منهم طيلة ساعة كاملة ، سوى تمتمات الشفاه بكلمات مبهمة وعيون تغلي بحرارة الانتظار، لكنهم كانوا يعتقدون أن الموت يرسل إشارات سرية تتحول إلى نبوءات صافية تعلن عن قدومه ، ولم تكن الأحلام سوى إحدى المنافذ للإشارات المباشرة للموت حسب تصورهم ، وأول من يستقبل تلك الإشارات هو عقلهم الباطني الذي لا ينام رغم أجفانهم المنسدلة ونومهم الكاذب المتقطع وعندما يفيقون من سكرتهم المروعة تتحول تلك الإشارات إلى نذر تعكر مزاجهم ويومهم وأحاسيسهم.
ورأى التركماني من قرية تسعين ملتصقا به ،
تذكر انه حدثه انه رأى حلما جعله متوترا طيلة اليوم ، وروى انه كان في قاعة مغلقة مع مجموعة من الناس ، ودخل رجل يوزع قطعة حلوى لكل فرد، أعطاه قطعة، ولما وضعها في فمه كان مذاقها مرا كالحنظل... وتذكر خيطين من الدمع انفلتا من نسيج عينيه وظلا فترة سائبين على وجنتيه في الزنزانة ، وحينما سأله ، لماذا البكاء ، أجابه التركماني، أنا لست خائفا من الموت ،.... ثم سرد له كيف حولت الاعتقالات منازل قريته إلى سرادق دائمة للعزاء لا يسكنها إلا الأطفال والنساء والعجزة.
ورأى الجنوبي الذي اخبره انه رأى في المنام بركة ماء بنية اللون من شدة كثافة الطين ، ورأى بقربها بركة أخرى صافية الماء ، وهناك مجوعة من الأسماك المخنوقة تحاول الإفلات من البركة الطينية نحو البركة الصافية الأخرى ، رآها تقفز من سطح الماء الطيني كالسهام ثم تتلوى ساقطة في البركة نفسها.
ورأى الخرق الملتفة على العيون تسرح قنوات نازفة ، ولم يتمكن من أن يميز بين الدمع والعرق في الوجوه ، وخمن أن العرق في حالات الموت هو نوع آخر للبكاء، وان هذه الحرارة هي علامة للفراق وشكل مغاير للحرارة خارج صندوق الشاحنة ، وأحس بمهزلة كلمات المحقق ووعده بأنه سيفرج عنه ، وتصورها فاكهة فاسدة قدمت له ، وسمع آهات تند من صدور المعتقلين ، يتبعها هسيس وصوت انفجر من ألسنتهم المتيبسة رغم بخار الأجساد والعرق والرطوبة المهيمنة :
ظلمة..ظلمة ..ظلمة...
كان الصوت جهوريا ، تزامن مع حركة الشاحنة وانطفاء الضوء ، صرخ به أحد المعتقلين ثم وصل إلى ألسنة الآخرين قبل أسماعهم ، ليحرر منها كلمات غضبهم ويدعها تخرج من ذهولهم المنسرح على وجوههم الشاحبة ؛ ذهول تحول إلى أقفال فوق ألسنتهم . ولم تشوش قعقعة الشاحنة وهدير محركها أصواتهم في أذنيه ، بل كانت تنبت فيه واضحة كالضوء ، لكنه لم ينطق بكلمة واحدة ، حتى عندما تماوجت هواجس المعتقلين بقوتها وتدافعت بمفاتيحها لفتح أقفال لسانه ، لقد أذهله هذا التصور وهذا المشهد المضبب والسادي وتحول الرعب إلى مقارض تقلع كلماته وتجعله كما لو انه فاقدا لسانه ؟
وبعد فترة من تحرك الشاحنة اخذ الأمر يشتد عليهم وهم يسمعون في أعماقهم نداءات الاستغاثة التي يمتصها حديد الشاحنة دون أن تنفذ إلى الفضاء ، ومن آذانهم يستقبلون صراخ هتافي يخرج من أفواههم ممزوجا بالعنات على الرئيس وشرطته ، ويتقابلون الوداع عبر عيونهم المعصبة وأرواحهم المكبوتة . وما هو أهول وأوغر في خلجات الدماغ بهذا الحيز السحري، كان البعض يفكر في اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة ، اللحظة القادمة بثقل ذنوب الدنيا وديونها ، وربما تكون تلك اللحظة هي آخر قطرة يهبها الزمن لهم وآخر نبضة من أعمارهم، والبعض الآخر صامت وكأن القدر نبت على ألسنتهم بأعشاب الذهول والتيقن بنهايتهم ، أما الذين مكثوا في الزنازين شهورا فقد سمعوا الكثير من القوائم السابقة التي أخذت الكثير من أصحابهم ولهذا فهم كانوا أكثر تيقنا في شكل النهاية من أقرانهم .
وفي خضم هذا التموج البشري فوق بلاط حديدي ، نسوا بعد ساعة من سير الشاحنة الحرارة والرطوبة والعرق النازف ، وأصبحوا يفكرون في مصيرهم وفي نقطة النهاية ، وتمنوا لو تصطدم الشاحنة بعارض يفتح لهم دربا للهروب ، أو تتحرك يد القدر لتخلصهم ، كان اسم الرب حاضرا وجليا في نفوسهم وصراخهم ، وهم يقتربون خطوة فخطوة إلى نهاية شارع الذاكرة . ولان الشاحنة كانت تقف وتدور ثم تواصل السير ، كانت أجسادهم المتلاصقة تهتز كجسم واحد بحركة بطيئة ، تأخذ أكثر مجالا عند رؤوسهم ، وازداد ارتجاجهم في الساعة الأخيرة من سير الشاحنة ، ولهذا خمنوا أنها تقطع شوارع ترابية أو أرضا تنبت بالحصى والحجارة . كان صندوق الشاحنة يرتفع وينخفض بارتجاجها المتواصل، وقلوبهم ترتفع إلى حافات ألسنتهم وتنخفض بمطارق القدر.
وحينما اخذ سير الشاحنة يتباطأ ويزداد ارتجاجها ورجوعها وتقدمها وهي تدور كالأفعى حول مساحة ضيقة أحسوا أنها توشك على الوقوف بعد ساعات من الرحلة ، وإنهم سيواجهون القدر والشرطة والعالم الداكن كله بأيديهم المقيدة وعيونهم المنفية عن الأهل والأصحاب والأحبة منذ أن اقتيدوا من أعمالهم ومدارسهم وبيوتهم ؛ عيونهم المطفأة خلف شرائط الأقمشة والجدران الحديدية للشاحنة وهواجس فرقة الإعدام . وتباطأ صراخهم بتباطؤ الشاحنة ، وتحول إلى أنين داخلي خال من الكلمات ، يتماوج في صدورهم بوجه الرب ورحمته التي وسعت كل شيء ، وفي هذه اللحظات تساقطت آلاف الصور في قلوبهم ، وظهرت من شاشة أعمارهم وكأنها تمارس بيقظتها مراسيم الوداع والدفن للذاكرة ، وهم يمارسون المراسيم نفسها لأجسادهم ونبضاتهم وأحلامهم ، وبمجرد أن توقفت الشاحنة ركضت نبضاتهم ، وتوقف الأنين الداخلي واغرورقوا بالذهول ، وجاست خلال هواجسهم خطرات الموت التي لا تخطأ ، وبدت أرواحهم تهتز في مهد الزمن الميت ، ولم تكن المسافة المتبقية لديهم بين الموت والحياة سوى مسافة الروح عن الجسد، لذا كانت هناك برودة داخلية تتسرب من تلك المسافة عبر مفاصل عظامهم ومن دموع أمهاتهم وصراخ ترقبهن الملفوف بعباءات أنينهن ، وبعد دقائق سمعوا صرير القفل وهو يفتح كيف ينبض في قلوبهم .
حاول أن يعيد الخرقة بمساعدة ركبته ، وترك فسحة لاختلاس النظر.
كان هو أول من سحب من الشاحنة بطرف الحبل ثم الآخرين تحت عباءة الليل . كان الهواء حارا يتسرب عبر ملابسهم الرطبة مثيرا أصابع البرودة في جلودهم الربطة ، وهي تمسد أجسادهم وزوايا أرواحهم بالترقب .
العشرات من العسس يتحركون كالمغزل حول عشر شاحنات . ابتدءوا بفتح شاحنته ثم أنزلوه ومن معه ووضعوهم في خط مستقيم على ارض ترابية هشة ، تمكن أن يعد الشاحنات ويلمح الصفوف البشرية للنزلاء من خلال الخرقة المرتخية وهم يجثون على الأرض ورؤوسهم تتدلى نحو صدورهم بأكف الأوامر، ولم يحدد في هذا الخلاء الواسع وفي صلابة الظلمة أي اثر للحياة . كان الأفق أمامه وهو يختلس النظرات قماشا اسود لم تبرق منه نقاط إضاءة لمدينة أو قرية ، لكنه تأكد انه يقتعد أرضا رملية مزروعة بالحصى والحجارة الصغيرة .
كل صف كان يقاد من طرف الحبل من شاحنة ثم يأخذوه لمسافة قصيرة و يجلسوه قرب شق طولي لم يخمن وجوده في بادئ الأمر ، ويأتون بالصف الآخر ثم العاشر قرب شقوق أرضية أخرى ، ولما وصل إلى الشق الذي أمامه ، شاهده محفورا ومهيأ بعمق لم يقدره لكثافة الظلمة في داخله ، وأمامهم وعلى مسافة قصيرة شاهد شفلا كديناصور يربض بالجهة الثانية للشقوق، ذي عنق كجسد شجرة عارية معمرة ، ينحني ليترك رأسه فاغرا، سابحا في العراء ، ثابتا نحو الأسفل ، ولمح فرق الإعدام خلفهم والشرطة الآخرين يتحركون لإتمام المهمة ، وبدت له الحياة كحلقة محلقة في الفراغ وهي تضيق بسرعة نحو مركزها ثم تقترب من وجهه، حتى تأخذ مساحة محيط سواد عينه، ومن هذا المحيط انفتح له نفق لذاكرة لم ير شيئا فيها سوى أمه ، وتيقن أنها الذكرى الأخيرة التي سيأخذها معه في اللحظة التي سيمزق غشاء بكارتها الرصاص، وينتهي عندها زمنه ، وأنه سيودع آخر لحظة له في حفرة ، بعد أن كانت أول لحظة من عمره في رحم ، وبعد هاتين اللحظتين ستترك الشرطة السرية في نفس أهله لحظة لن تنتهي تجعلهم ينظرون إلى المجهول ، عله يوما سيأتي.
نادى المشرف على التنفيذ باسمه الثلاثي ولقبه ، فانقبضت جميع نقاط جسده وتجمعت في طقس وداع لروحه ، فانفلتت من شفتيه كلمات مخنوقة تومئ بأنه هو .
جاءه شرطيان ، حرراه من الحبل وتركا يديه مقيدتين، ثم أخذاه إلى صندوق الشاحنة من جديد وتركا الباب مفتوحا .
رأى فسحة أمل كاذبة ، لم ترطب خيط اليباس في شفيته ، ولم تخرج حجارة المرارة من هواجسه ، وهو يقبض في هذا المشهد على عينيه خلف الخرقة المرتخية ، وعاندت الخوف رغبته بالصراخ ، وغفت اللعنات فجأة فوق لسانه تحت دثار الترقب ، وهو معلق خارج قائمة كان أحد أرقامها بين فصيل الإعدام وخيط دقيق للحياة ، وتمنى لو تنتهي تلك اللحظات بسرعة ، أو يقذف خارج تنور الموت والرعب والرعشة.
كانوا مقرفصين أمام الشقوق ، أمام قبورهم ، وهم يتراءون له عبر ظلام مغبر، كجذوع نخيل مقطوعة ، نابتين في كفوف الأرض كالأصابع .
وتراءت له الكائنات الصغيرة على أكتافهم وهي تبدو أكثر وضوحا ، تتأبط كتبهم وتجيل النظر بين فوهات البنادق وبين الشقوق، وسمع صرخة قوية أخرجته من دوامة أفكاره ، انقبضت لها روحه ، وظن أنها أمر لفصيل الإعدام، وتلتها صرخات المعتقلين ، ( خنازير ، ....) ، ولم ير للرحمة أي بريق أو حبات مطر تنخر صلابة الظلمة وتصل إلى قلوب العسس المحنطة ، وتحرك فصيل الإعدام بحركة غير منظمة خلفهم ، لأنه ليس بحاجة إلى أوامر كالتي يتلقاها للإعدامات الاحتفالية في ساحات المدن.
فالظلمة ، والخلاء الواسع خارج مسامع المدن والقرى ، والقبور المهيأة ، تمنحهم حرية التصويب والحركة في كل الاتجاهات ، ولهذا كانوا يكتفون بإشارة فقط.
في اللحظة التي رأى فيها النيران تحصد الأرض، وسمع أفواه البنادق تصرخ بالموت، والجزمات تركل الجثث المتكئة الواحدة على الأخرى والنائمة على بساط الدم وهم يدفعونها نحو الحفر ويغطيها الديناصور بالتراب، سحب جسده بعيدا داخل الشاحنة وبكى.