المرأة التي تزوجت باريس..
مرفوعة إلى المرآة التي كثيرا ما تجعلنا نرى الأشياء بوضوح..
ستمطر..
كم أرغب في أن تمطر بجنون وتحدث سيلا يمتد فيجرفني وإذا أنا جثة بلا روح.. وكم أرغب في أن تمتد النيران من كل جانب فتحرقني وتحرق كل شيء..
كم أرغب في أن يحترق هذا العالم..
لا أدري كم مرة فكرت في هذا ورغبت فيه، ولا أدري كم من مرة حاولت أن أجرب الموت وبطريقتي..أذكر أنني تناولت يوما كمية قديمة من الأدوية-والتي لم تكن موصوفة لي- وأنقذني الطبيب..وحين استعدت وعيي قال لي:الموت أيضا ككل الأشياء قد نبحث عنه لكننا لا نصل إليه..كلمته ما تزال ترن بداخلي، تذكرني أنني هنا وحيدة ..والأشياء تهرب مني..وأذكر أنني كرهت التحديق بالمرآة يوما فهويتُ عليها بيدي ورحتُ أقطع شريان يدي بزجاجها المتناثر وأنا أتلذذ بمنظرالدم يتقاطر ويلون ثيابي،ومرة أخرى أنقذني الطبيب ولم أمت..أدركتُ بعدها أنه يجب أن أعيش ولم يعد الموت يغريني بالبحث عنه، بقدر ما ضاقت الأنفاس بصدري وتمددتْ به الأحلام المخنوقة التي عرفتُ أنها ستظل مجرد أحلام منذ اللحظة التي أوقفت فيها عن الدراسة وتحولتُ بمرورالأيام إلى امرأة عادية لا أحد يصدق أنها عرفت الدراسة يوما،امرأة يملأها الحقد والنفور من كل شيء.
ستمطر..
أعرف أنها ستمطر هذه الليلة وبغزارة..وكعادتي سأنتحي زاوية وأبكي..أبكي خوفي المتنامي كطحالب تسد أعماقي، أبكي فشلي الذي يترصدني دوما..أنتِ فاشلة دوما..هذا ما كانت تردده لي أمي..سأبكي حتى تجف الدموع وأواصل موتي المتكرر..
الألم شيء موحش ومرارة الأشياء قد تدفعنا لارتكاب الحماقات التي نعجز عن تفاديها..لكن أشيائي كلها تموت وأعي أنها تموت فما من شيء يوقف موت أشيائي..ما من شيء يوقف هذا الإعصار الذي يجتاحني فيردي كل أشيائي حطاما يتلذذ الآخرون بمشاهدته.. وعدتُ للمرآة أنثر عليها نظراتي وأبحث في ثناياها عن وجهي الضائع..امرأة بلا وجه تحدق في المرآة..غاب وجهي في ملوحة الأيام منذ أن بدأت أفقد أشيائي وأفقد معها الرغبة في أن أتلون للمرآة..النظر في المرآة يعيدني في كل مرة لحقيقة المرأة التي بلا وجه ويذكرني بالجملة التي طالما أسمعتني إياها أمي كلما رأتني أتأمل وجهي في المرآة:- لمرايا ما اتزين الشادي-..
وأصرخ في أعماقي: لماذا أصر على أن أتفقد ملامح وجهي في مرآة لا يمكنها تجميلي؟ لماذا أصر على أن أتذكر أنني لم أحظ بشيء طيلة هذا العمر المتسرب مني؟.
أصرخ..ومرة أخرى أهشم المرآة..النظر فيها صار يذكرني بأمي..كلما ارتسم وجهي في المرآة، يغيب ليخلفه وجهها وهي تردد لي:-لمرايا ما اتزين الشادي-..
وأصرخ من القلب أن توقفي يا هذه الحرائق التي يتعالى دخانها فيملأ فمي وإذا أنا أشتعل ولا أحد يطفئني..توقف يا هذا الحزن الذي يكبر كل يوم ليجعلني غريبة الأطوار، مجنونة لم يجرؤوا على إقناع الطبيب بضرورة توقيع شهادة جنوني فقط حتى أواصل مهامي البيتية التي عهدت بها إلي أمي..أجل أمي..كم كرهتها..شعور ما يؤكد لي أنها ما أحبتني أبدا وأنها ما أحبت أحدا أيضا..كل ما أتذكره اللحظة أنها لم تكن تحسن سوى-افعلي ولا تفعلي- ويوم أخبرتُ زميلاتي بالدراسة أنني أكره أمي تعجبن ثم قاطعنني..
ستمطر..
أجل..ستندفع نحوي بقوة وتعلو وسأشرب وأشرب..ثم أنفجر وينتهي الأمر..يا لوجعي الكبير ويا لهذا العمر الذي انسحب منه ربيعه مخلفا الريح الشتوية الهائجة تقهقه في أعماقي المعتمة..
وأبكي..لكن قلب مي لا يلين..أبكي ويتواصل رنين الدمع الجارح في القلب وقلبي يلبس سوادا ظل بعدها يلون كل أيامي..وتمرد الصمت الساكن بدواخلي معلنا انتمائي لحرائق لا تخمد..وتوالت عواصفي تجتاح دماري لحظة بلحظة وتمنحني لأحلام لا تنتهي..أيعقل أن تشعر امرأة مثلي برغبة في الحلم؟مرارا تساءلت والجواب ذاته يتكرروبقسوة:قدرك حلم فلا توقفي هذا الزاحف بأعماقك..وبدأت أحلم رغم مرارة الحلم في عيني..امرأة أخرى سكنتني منذ أن وعيت بأن كل الأشياء قد تموت..وأنه لا أحد يمنحنا الحلم إلا إذا نحن آمنا به..
كان لا بد أن أحلم بأشياء أكثر جمالا وفي الكتابة كنت أستطيع أن أرسم تلك العوالم التي تتراءى لي والتي يعج بها خيالي المحلق دوما..لكني كنت أمزق ما أكتب خوفا من أن تعرف أمي بما أفكر..كنت أفكر برجل يحبني جدا، اعتقدته سيأتي ليخرجني من ذاك البيت..كتبتُ له ذات مرة:سأنتظر دوما وسأحلم فلا تجرح أحلامي..دع الأيام تنبت وردا في عيني..ووقعت الرسالة في يد أمي وصفعتني، وبسبب الرجل الموهوم الذي يسكن خيالي توالت الصفعات وتوالت محاولاتي في إثارة أمي..كنتُ أتعمد الكتابة لرجل أنا صنعته لأرى أمي تفقد صوابها وهي تتوعد بقتلي..ووجدتُ في المرآة التي أكرهها عونا..كنتُ أترك عمل البيت وأقف أمامها أغني وأتزين لرجل لم يوجد أبدا..وإذا بأمي تثور وإذا بالمرآة تتطاير شظاياها تحت قدميها وهي تتوعد:لن تتزوجي إلا من سأختاره لكِ أنا..لن يتغير فيكِ شيء ولو قضيت عمركِ كله أمام المرآة..ولكن ذاك الرجل الموهوم لم يأتِ ولم يأت رجل يرغب بي..منذ أن أوقفت عن الدراسة انتهت كل أشيائي ولم أعد أملك سوى تلك الأحلام المجنونة التي يتفنن خيالي في تشكيلها..كنت أتصور نفسي-سندريلا-الجميلة الضعيفة التي يأتي الأمير لينقذها ويسكنها قصرا جميلا..وكم من مرة جلست إلى المرآة وغصت في تقاسيم هذا الوجه الحزين فتصورت نفسي أسافر إلى بلدان بعيدة، ألبس أحدث موضاتها وإذا بشعري المجعد مسرح بأحدث تسريحة السيارة التي أقودها من آخر طراز..كنتُ أهرب من تعاستي تلك إلى أحلام أشيدها في خيالي لا أحد يستطيع أن يسلبني إياها..لم أعرف الفرح يوما ولا عرفت الحب، كل ما عرفته منذ أن بدأت أعي الأشياء وأنني لا أملك حتى نفسي..لا أملك الحق في أن أحب وأقرر أو حتى أن أموت..لقد كنت هادئة على الدوام، هدوئي كان القرار الوحيد الذي اتخذته في حياتي بعدما أدركت أن ثورتي لن تغير شيئا في أنظمة أمي..
أجبرني الموت-وبعد كل محاولات الانتحار-أن أعيش..فتح بداخلي مساحات أخرى للتغيير..وانتظرتُ أن تتبدل الأشياء، أن تتحقق كل تلك التصورات التي ملأت بها ذاكرتي ومنحتني إياها المرآة بكل بساطة..تنوعت الأحلام لكنها انحصرت في رجل يأتي دون مقدمات ويحملني إلى دنيا بعيدة ترسل فيها كل الأشياء موسيقى وتزهر الفصول بألوان بهية..واستمرت الأيام كئيبة ، متشابهة المذاق وتواصل معها انتظاري الجاف لأشياء لم تعد الثقة في إمكان حدوثها ممكنة..وإذا بكل الأحلام تستقيل من ذاكرتي وإذا الفرح يعلن
انسحابه الكامل مما تبقى من تلك الذاكرة المزدحمة بالضجر والتعاسة..وبدأت أنسى أنني أنثى ورحت أحاول إعادة تشكيل ما تبقى مني وفق أطر أخرى وأحلام أخرى..فكرت في أن أزهد وأتنسك لأربح الآخرة بعد ما خسرت الدنيا وفكرت في أن أقوم بأي عمل تطوعي لكني تذكرت أمي وأنني ممنوعة من مغادرة هذا البيت وهذه القرية المنسية التي أعيش بها..ولم أعد أحلم، كما لم أعد أفكر..قررت ألا أنظر في المرآة من جديد لأوقف خيالي السابح..فقط وحدها الذاكرة تحن لأشياء جميلة وحالمة..
وأمطرت الأشياء من حولي ألمًا وبردا..واتسعت فوهات جروحي وبتُ بلا شيء..وبلا أنا..
وفجأة وقفت والدتي أمامي تطلب مني أن أفكر بهذا الرجل الذي تقدمت والدته لخطبتي..قرار أمي كانت قد اتخذته وجاءت فقط لتوهم الجميع أنها تستشيرني..قالت لي وهي تقدم لي ذاك العقد-الثقيل-من الذهب.ماذا تريدين أكثر من هذا؟هذا هو الرجل الذي سيسعدكِ..ستلبسين ما تشائين، وتذهبين أينما تشائين..هل هناك فتاة اليوم ترفض شابا يقيم بفرنسا؟وانتشلتني الكلمة الأخيرة من صمتي وكأني لم ألتقط سوى كلمة-فرنسا- وعادت الأحلام المهاجرة التي ركنتُ منها الكثير ونسيت الكثير..عادت السيارة الآخر طراز و-باريس-وألبسة-باريس- وجمالها و..عدتُ من جديد أحلم..عدتُ من جديد أحدق في المرآة بعينين مفتوحتين أكثر..أتلمس وجهي الداكن السمرة وشعري المجعد وعيني الضيقتين..كل هذا سيتغير يا-عافيا-..-باريس- قادرة على خلق الإنسان من جديد..لتُ في نفسي وللمرة الأولى بدأ وجهي الأول يغيب في المرآة وإذا بالمرآة تستبدله بوجه أجمل لم أره من قبل..شعر أملس وبشرة ناعمة وعينان واسعتان..رأيتُ أنا أخرى كانت المرآة تخفيها وها هي-باريس-تعيدها..مخطئة يا أمي..فها هي المرآة قد خذلتكِ وجعلتني جميلة رغم إيمانك بأنها ما اتزين الشادي..
الأمر بالنسبة لأمي كان صفقة..وكنت أنا الطرف الأهم فيها، فبموافقتي ستزداد حظوظ أمي في المال وفي ذهب وألبسة أكثر يمكنها تجهيز أختي الصغرى ككل الفتيات..كنتُ أعرف عائلة هذا الخطيب التي غادرت القرية منذ الثورة إلى-فرنسا-..وكل ما أخبروني به أن الشاب معاق..لم يهمن الأمر كثيرا ولم أطلب حتى رؤيته..قبلتُ دون نقاش .كل ما كان يجول بذاكرتي لحظتها أن أرحل رفقته إلى-باريس-..فكرت في أننا سنقضي شهرا بأحد الشواطئ ونرحل بعدها إلى-باريس-.
وانتقلت إلى بيت زوجي في صمت..ولم يثرن ذلك،شوقي إلى –باريس- كان كافيا لأتنازل عن كل الأشياء.. ودخلت غرفتي رفقة حماتي..وقابلتني كتلة لحم ضعيفة مكومة في كرسي متحرك..وجاءني صوتها ليوقظني من دهشتي:هذا هو زوجكِ..انه مسؤوليتكِ منذ اليوم..وخرجتْ..
وحدقت في عينيه..انه كطفل..بل هو طفل لا قوة له..لا يمكنه أن يفعل شيئا، لا يستطيع أن يحرك يديه..مسؤوليتي، بل هي عقوبتي..إنها أقسى من عبودية أمي..
ومرت الأيام..صرت مجرد خادمة لهذا الذي يدعونه زوجي..مهمتي تنحصر في حمله وتحضير أكله و...وكلما سألته عن سفرنا يقول لي:أمي هي التي تقرر..عرفت بعدها أن أمه قد قررت قبل أن تتقدم لتخطبني له ن تعثر له عن زوجة تخدمه وألا يعود إلى-باريس-..وحين عرفتُ، كانت صورة أمي تلوح لي، تذكرني بأمرين كليهما مر..وأدركتُ أني لم امرأة لم تحلم بزواجها من رجل بل من-باريس- وقررتُ أن أبقى في بيت هذا الزوج على أن أعود إلى سلطة أمي..
وحين هذه المرة حدقتُ في المرآة، لم أر إلا وجهي الذي ألفته منذ زمن لم يتغير فيه شيء..فقط بعض الشعيرات البيضاء بدت تلوح في شعري المجعد..