الكلمة ومفهومها تداوُلٌ في كل أمة
ساد عـند الدارسين للتراث المعرفي العربي أن كلمة العقل بالمفهوم الذي عرفت في الفكر اليوناني،لا وجود لها في النصوص العربية القديمة، كالشعر الجاهلي والقرآن الكريم ونصوص تنتمي إلى فترة ما قبل الترجمة. ليثبتوا بذلك خلو المجتمع العربي من التفكير العقلي القائم على البرهان. ومن ثم يخلصوا إلى أن ذلك لم يتم إلا بعد اطلاع المسلمين على الفكر اليوناني، وظهوره مكتملا عند الفارابي وابن سينا، ثم انتهائه مجتمعا لدى أكبر شراح أريسطو أبي الوليد بن رشد.
وعندما يتصدى لهم المدافعون عن الفكر العربي، يغو صون في أعماق التراث، بحثا عن تلك الكلمة في بيت من قصيدة، أو عبارة في حديث،أو آية في سورة. فيقعون على مثل قوله تعالى (أفلا تعقلون)، (وما يعقلها إلا العالمون) أو قول الرسول عليه الســــــــلام (أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل، فلما أقبل، قال له أدبر. ثم قال عز وجل: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أكرم علي منك) . (هذا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف). أو يقعون على مثل قول علي بن أبي طالب:(إحياء علوم الدين ص81)
رأيت العقل عقلين *** فمطبوع ومسموع
ويدور الأمر سجالا وجدالا، وكأن قيام التفكير العقلي ملزوم في أمة لوجود كلمة في لغتها،يطابق مفهومها كلمة في اللغة اليونانية. فإبطالها إبطال للفكر، وإثباتها إثبات له. ولكننا لو تأملنا الأمر مليا، وأمعنا فيه تقصيا، لبدت لنا منه بواد كانت خفية واستظهرنا منه خواف كانت مضمرة. ذلك أن كل لغة لغة، تنشئ لنفسها، بحسب ما يتفاعل فيها بين أهلها ومحيطهم الضيق والواسع، ألفاظا تكون وسائط حاملة لما انتزعوه من تصورات ومفاهيم وأفكار. فيسهل بذلك التواصل، ويتيسر التبليغ. وباختلاف المحيط يختلف الانتزاع. فتتباين المفاهيم والتصورات. فإذا ذهبنا نفرض على أمة مفهوما انتزع من محيط مغاير، أو ربما مناقض لمحيطها، استعصى ذلك علينا. فإن عزمنا جئنا شططا من القول. إلا أن نخضعه للمجال التداولي للأمة. وهكذا يكون التفكير العقلي لا تخلو منه أمة، ما دامت لها لغة تنتقل بواسطتها من المحسوس إلى المجرد، وتنتزع لها من الموضوعات الخارجية صورا ومفاهيم على أوجه مخصوصة. لكن شروط هذا التعقل وخصائصه وسبل التوصل إليه، أو إن شئت الآليات التي إن اتبعت في تفكير ما،جعلت منه تفكيرا عقليا، كل ذلك يختلف من أمة إلى أمة. يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي) (ص12) ((فالفكر العربي مثلا هو عربي ليس فقط لكونه تصورات وآراء ونظريات تعكس الواقع العربي...بل لأنه نتيجة طريقة وأسلوب في التفكير)) .
وإذا كانت الفلسفة هي أعلى مستويات التجريد في الفكر الإنساني،فليس حكرا على أمة من الأمم واحدة، أن تكون منطلق كل فلسفة ومرجع كل نظر يريد صاحبه أن ينعت فيه بالفيلسوف. وما دامت الفلسفة قائمة على التأمل وإعمال النظر في الكون، والوجود ومصير الإنسان، بحثا عن تفسير وإثبات لموقع الإنسان فيه، فإن البحث في تاريخ الشعوب،وتاريخ الأفكار، وعلم الإناسة، وتطور الحضارات، قد كشف للدارسين عن خفايا كانت مستورة، بحكم النظرة المركزية للفكر الغربي، وسيطرة الفلسفة اليونانية. وتكفي إطلالة على كتاب " الفكر الشرقي القديم "، لنبتين أن شعوبا غير اليونان، قد تفلسفت، وكان لها حكماؤها بنظرتهم التأملية في كل مظاهر الكون ومصير الإنسان، والخير والشر، والنفس والجسد، والخلق والخالق... يقول صاحب الكتاب المذكور(ص27) ((قصة الفلسفة الهندية طويلة ومثيرة، ومنذ بداية الفكر الفلسفي الهندي في تأملات حكماء (الفيدا ) قبل آلاف السنين وحتى الوقت الراهن، يطرح ثراء وحدة ذهن وتنوعا يمثل شهادة شامخة لمصلحة الروح الإنسانية)) . وهكذا فللهند فلسفة،وللصين فلسفة، وللفرس فلسفة، ولكل شعوب الأرض فلسفة. سادت فانتشرت، أو بادت فاندثرت، أو أقصيت زمنا من الساحة الفكرية لأسباب. وليس لأمة أن تفرض اصطلاحاتها وتقسيماتها على جميع الأمم. يقول الدكتور طه عبد الرحمان في كتابه (فقه الفلسفة) (ص23) ((التحقيق أن باب التفلسف ليس واحدا لايدخل منه إلا من احتذى حذو اليونان، حذو النعل بالنعل، وإنما التفلسف إمكانات متعددة،ليس النموذج اليوناني إلا إمكانا واحدا منها ) ) .
لقد قام مفهوم » اللوغوس « في اليونان في مقابل »الميثوس « فاللوغوس الذي اصطلح عليه في الفلسفة الإسلامية » بالعقل « مقتضاه ((النظر في أسباب الظواهر الملحوظة، طلبا للنظام الضروري الذي يجمع بين عناصر الوجود كلها )) بينما الميثوس أو ما اصطلح عليه(بالأسطورة ) ، فمقتضاه ((الاستناد إلى أساطير الأولين وأديان المتقدمين تعليقا لأحداث الكون بأطوار ومآلات التصارع القائم بين الآلهة ) ) (فقه الفلسفة ص61) . وهكذا وعملا بمبدأ التطور من الأسطورة إلى العقل، يكون العقل اليوناني مؤسسا تأسيسا نقديا منهجيا على الأسطورة، كمرحلة من مراحل التفكير اليوناني.مما يهيئ لنا أن نتساءل هل كان لمفهوم اللوغوس أن يوجد لولا مفهوم الميثوس ؟ إن رد الفعل في الطبيعة لا ينشأ غفلا، ولا يكون أبدا ابتداء، وإلا سمي (فعلا) لا (رد فعل) . وإذا كان الميثوس قد أوصل إلى اللوغوس، فكيف يطلب من الفكر العربي أن يعرف العقل كما عرفه اليونان، ما دام في أصله لم يعرف التفكير الأسطوري؟ وقد يظن البعض أن العرب قد عرفوا الأسطورة، وأن القرآن تحدث عن ذلك فذكر أساطير الأولين، في آيات عديدة إلا أن هذا الظن داحض لاعتبارين : اعتبار لغوي واعتبار مفهومي:
أما الاعتبار اللغوي، فإن الأسطورة لغة تأتي من الفعل (سطر) أي(كتب) . فتكون الأساطير هي ما سطر في الكتب.وهذا ينطبق تماما على معناها في القرآن. قال الراغب الأصفهاني في كتابه (مفردات غريب القرآن) (ص232) ((أساطير الأولين أي شيء كتبوه كذبا ومينا فيما زعموا، نحو قوله تعالى(أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا) )) . وجاء في كتاب (المعلقة العربية الأولى) للدكتور نجيب البهبيتي (ج1 ص45) ((ومعنى أساطير في العربية،هو ما سُـطر، أي الكتب. وليس الخرافات، فهذا معنى حديث مولد لا تعرفه العربية الصحيحة )) .
وأما الاعتبار المفهومي، فإن الميثوس استنادا إلى مقتضاه السابق ذكره، تفسير يربط ظواهر الكون بصراع الآلهة وهو مفهوم غائب تماما عن تفكير الإنسان العربي. فرغم تعدد الآلهة عند العرب في الجاهلية، وكثرتها، فلم تكن معبودة لذاتها، وإنما كانوا يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى. فهي مجرد وسائط. فأما أن تكون بينها صراعات تؤثر على مصائر الناس، فهذا مالا يخطر للعربي على بال. بل إن شاعرهم استعر من معبوده وذمه لما رأى ثعلبا يبول عليه :
أرب يبول الثعلبان برأسه *** ألا بئس من بالت عليه الثعالب
وهكذا يتبين لنا أنه لا وجود لمفهوم الميثوس في المجال التداولي العربي. إذن لا وجود لمفهوم اللوغوس المبني منهجيا عليه. لكن هذا لا يعني أن العرب لم يعرفوا التفكير العقلي على المطلق، وإنما لم يعرفوا التفكير العقلي كما عرفه اليونان على وجه الخصوص، وكما حدده أريسطو. إن مفهوم العقل هذا، لم يظهر في الفكر العربي إلا بعد عصر الترجمة واطلاع المسلمين على التراث اليوناني،أو ما سمي بعلوم الأوائل وإن لتعثر الترجمة في بداياتها آثار جلـى في استغلاق المنقول واستعصائه على الفهم. فكان بناء المصطلحات ووضع المقابلات، أخطر فصل في مشاهد الترجمة الحافلة. وهنا تدخل كلمة العقل دخولا قويا، وتحتل الصدارة بعد أن مهدت لها دلالاتها اللغوية الطبيعية الأولى، (عقل) (يعقل) بمعنى قيد وربط الدابة كي لا تضل وتشرد (اعقلها وتوكل ) إلى تجريد الدلالة للإنسان بما يكون له من نفسه حاكم، يمنعه من الضلال والشرود، في التفكير والحكم والسلوك، إلى تلقف الكلمة من قبل المتكلمين خاصة المعتزلة، ثم انتهائها أخيرا، مصطلحا مقابلا لكلمة اللوغوس اليونانية،عند الفلاسفة الإسلاميين، فراخ اليونان،كما يسميهم الدكتور علي سامي النشار. وفي ذلك يقول الفارابي في بداية كتابه (رسالة في العقل) (ص3 ) ((اسم العقل يقال على أنحاء كثيرة : الشيء الذي به يقول الجمهور في الإنسان إنه عاقل، العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه العقل، العقل الذي يذكره الأستاذ أريسطاليس (كذا) )) ثم يذكر له أربعة أوجه.
إن مفاتيح العلوم مصطلحاتها. وقبل أن تصير الكلمة مصطلحا، تكون لفظة من ألفاظ اللغة الطبيعية، في بساطة دلالتها وحسية معناها. يحدث هذا في كل اللغات. فالمحسوسات سابقات على المعقولات، واللغة الطبيعية سابقة على اللغة الصناعية. فكيف نبحث عن مفهوم صناعي في لغة طبيعية ؟ بل كيف نقطع بخلو أمة من التفكير العقلي، لخلو لغتها من كلمة تحمل مفهوما اقتحمها من مجال تداولي بعيد عنها كل البعد. وأخيرا كيف نثبت وجود ذلك التفكير بأن نغوص في بطون النصوص القديمة، لنظفر بتلك الكلمة السحرية لتنهض دليلا وبرهانا على تصور لم يعرفه أهلها أصلا.