الإنسان لدى بادي الرأي
إن أصول الإنسان تضرب بعيدة في التاريخ. وقد انطلقت الدراسات المتعددة بحثا عن هذه الأصول، وخاض فيها القدماء والمحدثون خوضا ما زال متعثرا، رغم تقدم العلوم وتطور وسائل البحث. لكن يكاد الرأي يستقر على أن الإنسان، قبل أن يكتمل نضجه الفكري والحضاري، عرف مراحل خطا فيها خطوات وتعثر تعثرات جمة، حتى وصل إلى هذا الاستواء.
ونحن إذا تأملنا هذه البحوث والنتائج التي توصلت إليها، من خلال دراسة الحفريات وبقايا الهياكل العظمية، نجدها لا تصور الإنسان الأول متخلفا في فكره وأفقه العقلي فحسب، بل أيضا قاصرا في بنيانه الجسدي، ومهاراته البدنية. ((لا شك أن أسلاف الإنسان الأوائل، كان الشعر يكسو أجسادهم، وكان لكلا الجنسين لحية وأذنان مدبـبـتان مرنتان، وذيل تحكمه عضلات خاصة. وكان للذكور منهم أنياب كبيرة اتخذوها سلاحا مذهلا)). هكذا كتب (داروين) سنة 1871. وتنطلق البحوث مدافعة ومهاجمة. لكن تأثير داروين كان كبيرا والنفوس إليه أميل. وكشفت الأرض عن خباياها، وانطلقت حمى النظريات في صراع هائل نحو الشهرة والمجد، وأدلى كل بدلوه المخادعون، والراسخون. وكلما جمعت فرضيات وأنشئت عليها نظريات، ظهرت حفريات جديدة؛ جمجمة أو عظم فك، أو حتى سن في فحم متحجر، ليخر البناء كله. فاختلف العلماء أحزابا، وافترقت آراؤهم أشتاتا. لكننا نلاحظ الآن وكأن الرأي قد استقر، وأصبح، حتى لدى بادي الرأي في كل أمة على الأرض، تصوّرٌ لأصول الإنسان الأولى، يسير على نمط واحد متشابه، بداية من إنسان متوحش يسكن الكهوف والمغاور، وهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، يداه أطول من رجليه، يمشي غير منتصب، وجمجمته أشبه بجمجمة القردة ثم يمضي التطور، نزولا أو صعودا، إلى صناعة أدوات بسيطة من الحجارة، إلى اكتشاف النار والمعادن، إلى الزراعة والاستقرار، إلى الكتابة والمعرفة المنظمة وظهور الشرائع والقوانين، ونشوء المجتمعات الحديثة. وهكذا فعندما يسمع أي فرد في عصرنا هذا شرقا وغربا، عندما يسمع كلمة (الإنسان البدائي)، ينصرف ذهنه دون شعور إلى هذا التصور، وينزع هذا المنزع. وبالمفاهيم العلمية الثابتة في علم الإحاثة (الباليونطولوجيا)، فإن أغلب العلماء يميلون إلى أن شجرة الأصول، انفرعت منذ ملايين السنين، قد تكون ثلاثة أو تكون خمسة، وربما أكثر، ليرتبوا على فرع منها، على التوالي أصلا على أصل، مختلف مراحل التطور التي عرفها الإنسان، بدءا بـــ (أمو هابيليس) (الإنسان الماهر) ثم بعده (أمو إريكتس) (الإنسان المنتصب) ثم أخيرا (أمو سابيان) (الإنسان العاقل أو المفكر)، وصولا إلى الإنسان الحديث، الذي تظهر الدراسات الحديثة، وآخر النظريات، أنه ظهر في إفريقيا منذ ما يقارب مائتي ألف سنة (200.000). لكن لماذا انتشرت هذه الفكرة عن أصول الإنسان كل هذا الانتشار، ولم تنتشر الأخرى، التي تجعل الإنسان خلقا مستقلا عن غير أصل، ولها علماؤها الراسخون أيضا؟ ذلك لأن تلك الفكرة جندت لها مختلف الوسائل لنشرها، منذ زمن، حتى دخلت كل بيت وسادت كل مجلس، ابتداء من لعب الأطفال وكراريسهم والبرامج الموجهة إليهم، وانتهاء بالكتب والأفلام، والمجلات المتخصصة فاطلع عليها الصغير والكبير، وأثارت العالم والجاهل، ورسخت بذلك في الأذهان رسوخا، جعل منها أقرب إلى البداهة وأعلق بالفطرة، وغدت تصورا يسبق إلى الذهن لأول خاطر، وينبـجـس في النفس عفوا بلا روية.
وقد حاول الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه (أبي آدم)، الجمع بين الرأيين، ((ويسرد لنا قصة الخلق بتصور مقبول يتفق مع العقل، في محاولة التوفيق بين التصور القرآني والاتجاه العلمي، في تصور الحياة البشرية على هذه الأرض)) (كما جاء في كلمة الناشر). واجتهاد الدكتور عبد الصبور يقوم على التأسيس لفكرة الفصل بين (البشر) و (الإنسان)، فالبشر مخلوقات عمرت الأرض منذ ملايين السنين، ثم (اصطفى) الله تعالى منها آدم وحواء، ليكون بذلك آدم (أبا الإنسان) لا (أبا البشر). يـقول (ص98) ((أما الإنسان، فلا يطلق بمفهوم القرآن إلا على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة لا غير. وهو الذي يبدأ بوجود آدم عليه السلام وآدم على هذا هو (أبو الإنسان) وليس (أبو البشر))). وهذا البشر ((كان في المراحل الأولى بلا سمع ولا بصر ولا فؤاد (عقل))) (ص91). واستند في دعواه هذه على آيات الخلق في القرآن خاصة قوله تعالى في سورة (ص) الآية 71 ((إنــي خالق بشرا من طين...))، وقوله تعالى في سورة (الحجر) الآية 28 ((إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون)). وعلـق قـائـلا (ص64) ((واستخدام الصيغة (خالـِـقٌ) هنا يفيد الإحداث أي الإيجاد من عدم. والسؤال هو : هل هذه الصيغة في موقعها تفيد المضي أو المستقبل؟ و نرى أنها تفيد المضي، أي إن الله كان قد خلق هذا البشر قبل الإعلام به)).
إن ما ذكره الدكتور شاهين في كتابه، يقوم على أسس واهية، رغم أنه أشار، في (ص16)، إلى أن البحث استغرق منه خمسة وعشرين عاما أو تزيد. ففي الكتاب من الأخطاء العلمية ما يقدح فيه، ويحط من قيمته. فانظر مثلا (ص25) حين عرض لتقسيم الحقب الجيولوجية، فجعل حقبة ما قبل الكامبري، تمتد إلى ما قبل 71.125.000.000 سنة، أي أكثر من واحد وسبعين مليارا من السنين، وهو قدر يبدو مذهلا وغريبا، إذا علمنا أن كل الباحثين متفقون على أن عمر الأرض كلها، منذ نشأتها،لا يتجاوز أربعة ملايير وستمائة مليون سنة. بل إن أشهر علماء الفيزياء الكونية، يعودون بنشأة الكون كله، وتكون المجرات والنجوم والكواكب وبداية ما سموه (الانفجار العظيم)، إلى خمسة عشر مليارا من السنين. فكيف تكون حقبة ما قبل الكامبري تصل إلى 71 مليارا من السنين!؟ وقد يظن ظان أن الخطأ قد يكون مطبعيا بإضافة أصفار على اليمين سهوا، لكن الأستاذ يعود في الصفحة 26 ليقول ((فقد بدأت حقبة الحياة العتيقة بمرحلة ما قبل العصر الكامبري، أي منذ واحد وسبعين مليارا وخمسة وعشرين مليونا من السنين (هكذا بالحروف). فهو أطول العصور والحقب وأقدمها على الإطلاق في تقدير العلماء)). وليت شعري من هم هؤلاء العلماء؟. يقول (ستيفن هوكنغ) وهو أشهر عالم فزياء نظرية في عصرنا هذا، في كتابه (الكون في قشرة الجوز) (ص75) ((ونستطيع من معدل سرعة التمدد الحالية، أن نقدر أن المجرات كانت ولا بد متقاربة حقا، أقصى قرب، منذ عشرة أو خمسة عشر بليون عام " (البليون بالحساب الإنجليزي هو المليار بالحساب الفرنسي أي ألف مليون).
ونعود إلى الآية السابقة وتعليق الدكتور عليها، بأن (خالــقٌ) تفيد الماضي، فنجد أنه ليس من مسوغ له في هذا الصرف إلى الماضي، سوى إثبات تفسيره أن (البشر) مخلوقات قديمة، سبقت آدم، وأن الله اصطفاه من بينها وكلفه وحمله الأمانة، بأن منحه عقلا ولغة ودينا، بما أن هذا هو هدفه، فقد صرف اسم الفاعل (خالـقٌ) إلى الماضي، ليكون المعنى (إني خلقتُ بشرا). لكنه أغفل أن اسم الفاعل تتخصص الأزمنة المصروف إليها، حسب سياقات الجمل والتراكيب الضامـّة، فإذا كان منونا، فينصب المفعول به، ويكون بذلك عاملا عمل المضارع. وإذا كان غير منون، فيضاف إلى الاسم بعده. وفي الحالة الأولى لا يفيد اسم الفاعل إلا الحاضر أو المستقبل، ولا يصرف إلى الماضي بتاتا. وفي ذلك يقول سيبويه في الكتاب (ج1 ص164) ((هذا باب من اسم الفاعل الذي جرى مجرى المضارع في المفعول في المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت في (يفعل)، كان نكرة منونا وذلك قولك : هذا ضاربٌ زيدا غدا، فمعناه وعمله مثل هذا يضرب زيدا غدا. فإذا حدثت عن فعل في حين وقوعه غير منقطع كان كذلك)). أما الحالة الثانية، حالة الإضافة وقطع التنوين، فلا يصرف اسم الفاعل إلا إلى الماضي. يقول سيبويه (ج1ص171) ((فإذا أخبر أن الفعل قد وقع وانقطع، فهو بغير تنوين ألبتة)). ثم قال (ص172) ((لأن معنى الحديث في قولك : هذا ضاربُ زيدٍ، هذا ضرب زيدا)). وهكذا فحجته من هذا الباب داحضة، وبها يتقوض كل ما بناه انطلاقا من هذه الآية.
إن هذا الموضوع شائك، والسير فيه لاغم، خاصة وأن العلوم الحديثة من (انثربلوجيا) و (أركيولوجيا) و (باليونطولوجيا) وما جرى مجراها، علوم قائمة على ما تجود به الأرض من كشوفات في باطنها، حفظتها لملايين السنين. وهي كشوفات تضن بها الأرض ضن البخيل المقتر. فما تخرج لهم إلا بمقدار، ومن هذا النزر القليل يقيم العلماء فرضيات وينشئون أحكاما، تميل في أغلبها إلى الظن والتخمين. إن القرآن الكريم لا يمكن أن يضاد العلم، وإنما العلم ما زال في مهده، مهما بلغ من التطور والسعة، فحقيقة تضرب حقيقة ونظرية تعصف بنظرية، يحدث هذا في جيل واحد، فما بالك بأجيال ستأتي طويلة رحيبة. ثم إذا كانت كتب أهل الكتاب تحدد بدءا للخليقة فيسهل الطعن فيها، ودحضها، فإن القرآن الكريم لا يحدد لذلك زمنا. فقصة الخلق لا تحدد بداية تاريخية زمنية لآدم، ولا تسويته ولا نفخ الروح فيه. ولعل المستقبل يجود علينا بكشف يفتح للبصائر طريقا نحو الحقيقة، فيثبت بالدليل أن آدم كان مخلوقا ابتداء على غير أصل في أحسن تقويم، وأنه كان عالما عارفا بعد أن علمه الله الأسماء كلها. وكذالك كانت ذريته من بعده. وأن ما درسناه واستقر في أذهاننا معرفة ثابتة، من تدرج الإنسان من حالة التوحش والبدائية، إلى الحضارة والمدنية، قد يكون ضربا من التخمين الفاسد. كل ما في الأمر أن بعض بني آدم من بعده، بعد طول عهد وانعزال في جهات من الأرض، ضمرت معرفتهم، واضمحل عنهم ذلك العلم، وصاروا إلى الجهالة والتوحش. ولعل تلك المراحل التي رتبوها من أطوال عمر الإنسان على الأرض، تكون مراحل متداخلة، وأن ما عثر عليه من حفريات نزرة لا يفتح للعلماء أن يعمموا أحكامهم على الجنس البشري كله.
ولعلنا أخيرا نقف وقفة متأمل، ونسأل أنفسنا : ترى لو أن شخصين من غياهب الفضاء، سلطا منظارين هائلين على كوكبنا الأزرق الباهت، ووقعت بؤرة أحدهما في أدغال إفرقيا أو بعض سكان غابة الأمازون، ووقعت بؤرة الآخر في شارع من شوارع طوكيو أو برلين، فما سيكون حكمهما على سكان الأرض وحضارتهم؟