العمل مع الموت القريب
كان من بين متطلبات بعض المقررات الدراسية؛ الحصول على ساعات عمل مع مؤسسات غير هادفة للربح، بهدف اكتساب خبرات في العلاج النفسي. وكنتُ في أمس الحاجة للحصول على 100 ساعة عمل، وكان من الطبيعي أن اختار مركزاً للعلاج النفسي يكون الأقرب إلى منزلي، فوقع الاختيار على مركز متخصص في تقديم الخدمات النفسية لمرضى السرطان الذين هم على أعتاب الموت، أو الذي بلغ بهم المرض الخبيث حداً يستعصي علاجه، وينتظرون الموت بين آونة وأخرى.
وفي الواقع إن عملاً كهذا يحمل في طياته الكثير من الحزن والألم والشعور بالفقد لرؤية الإنسان وهو يستعد للقاء حتفه، فكان ذلك أمراً بالغ الصعوبة. وكانت المعضلة هي كيف نستطيع أن نقوم بعملية العلاج النفسي دون أن تحتك مشاعرك الخاصة، بدورك الذي يتعين عليك القيام به. فالإنسان في لحظات الاستعداد الموت، تختلف مشاعره من عمر إلى عمر، وربما أن الصغار على وجه الخصوص؛ الأطفال المرضى بالسرطان الذين وصل بهم حد المرض إلى درجة خطيرة؛ لا تسطتيع مقاومة حزنك عليهم.
كان من بين الأطفال الذين التقيتهم في هذا المركز؛ طفلة صغيرة تبلغ من العمر سبع سنوات ومريضة بسرطان الدم، وقرر الأطباء لها أن تمكث بالمركز انتظارً للموت الذي سيخطفها بعد أيامٍ قلائل، وكان عليّ أن أشارك في قيادة جماعة مكونة من تلك الطفلة وعدد من الأطفال ينتظرون نفس المصير، وأن أساعدها وهي طفلة صغيرة على تقبل هذه الحقيقة، وأن تتكيف خلال الساعات الباقية من عمرها؛ مع الموت الحتمي الذي لا مناص منه.
كنت أدير معها حوارً تلو الآخر، وكان الأطباء قد قرروا أنها الأقرب إلى الموت من بين الجماعة التي كنتُ أعمل معها، نظراً لتدهور حالتها. وكانت الطفلة حينما تسأل عن ماهية الموت الذي لا تعرفه؛ أقول لها: هو أن تلتقي بربك، فكانت تحلق بعينيها: وماذا يمكنني أن أفعل معه؟ فكنت أقول لها إن الله هو الذي خلقنا، وهو الذي يأخذ أرواحنا، وهو الذي يحقق لنا آمالنا وطموحنا وأهدافنا... فكانت تدور على كل أعضاء الجماعة وتسأل كل واحدة: ماذا تودين من الله لكي أنقله إليه حينما تصعد روحي؟...
وهكذا فهمت هذه الصغيرة الموت على أنه انتقال من عالم زائل إلى عالم آخر دائم.. واستطعنا أن نصور لها الحياة على أنها رحلة نهايتها الموت؛ الذي هو بداية الحياة في عالم آخر غير عالمنا... وما أذهلني هو أن هذه الصغيرة قد استقبلت هذا التبسيط بقناعة كاملة، حتى أنها لم تهاب الموت، ولم تذرف دمعة واحدة؛ مثل ذلك النهر من الدموع الذي كنت أذرفه عليها كلما عدت إلى المنزل... كانت هذه الصغيرة على قناعة بما يصعب على الكثيرين الاقتناع به، وكانت تصدق كل كلمة أقولها لها، وقد كنت صادقة معها، لأن ما أقوله هو بالفعل نتاج إيماني بالله وقناعاتي كمسلمة. ولم يدر بمخيلتها البريئة كم أننا جميعاً حزانى عليها ونحن ننتظر الموت الذي سيأخذ روحها ويخطفها من بيننا بين لحظة وأخرى.
وماتت هذه الطفلة، ولم أستطع أن أفصل بين مشاعري كأم، وكمعالجة نفسية، فالأمومة وجدت البكاء مجالاً لتعزي الإحساس الفادح بالحزن، أما دوري كمعالجة نفسية فكان يقتضي أن ابتسم لها طول الوقت، وأن أنظر إليها وعلى وجهي ابتسامة... وهكذا بالنسبة لبقية الأطفال، كان عليّ أن أحاورهم وأجيب على أسئلتهم البسيطة، وأن أكون بجانبهم؛ وأنا أعرف إنهم بين بين وقت وآخر سيرحلون إلى مثواهم الأخير.
الدور المهني كان يقتضي أن لا أحبس الدموع، بل أن أسكبها إلى داخلي، وألا تغرورق عيناي بالعبرات حزناً على طفولة بريئة داهمها هذا المرض اللعين، وقضت بسببه نحبها؛ في براءة كاملة، وفي وداعة نفس... بل رحت أفكر كيف أن هذه الصغيرة المريضة أردات ببراءة شديدة أن تكون في خدمة الآخرين، وظنت نفسها حاملة لرسالة من حولها، وأنها سوف تحقق لهم أمانيهم ورغباتهم، أي أن الدافعية إلى الخير في هذه النفس البريئة كانت حتى اللحظة الأخيرة.
لم نخفي عليها أنها ستموت، ولكننا جعلنا للموت معنى آخر غير المعنى الرهيب الذي يخافه الجميع. لهذا كانت هذه التجربة زاخرة بالمعاني بالنسبة لي، فالإرشاد النفسي ليس فقط من أجل الحياة، ولكن لمساعدة الإنسان حتى وهو في لحظات الاحتضار. ولهذا فقد استفدت شيئاً من عملي بهذه المؤسسة، وهو أنه من الضروري أن يكون العلاج النفسي ملتصقاً بالإنسان، ليس فقط في حياته العادية، ولا في حالته النفسية، ولكن أيضاً في لحظاته الحرجة أو الأخيرة. فهذه المؤسسات؛ مؤسسات نفسية علينا الاستفادة من الفلسفة التي تقوم عليها، ذلك أن الإنسان حينما يكون في لحظات المرض الشديد، وبانتظار الموت؛ يكون بحاجة ماسة لمن يرعاه رعاية خاصة، ولمن يجعله يتسقبل الموت دون ألم، ودون أوجاع نفسية تعجل من نهايته، أو تجعله بغادر دنياه مشحوناً بكثير من الآلام.
وقد وجدت أن الفقدان صدمة كبيرة، ليس على المصاب فقط، ولكن على ذويه. ورأيت الرعب والألم الذي يعانيه الأهل وهم يرون فلذة كبدهم تذبل كالزهرة قبل أوانها، وشعورهم بالعجز يمزقهم؛ ذلك العجز الذي تعانيه النفس البشرية أمام الموت...
إنها حالات الضعف البشري أمام الأقدار.
من كتاب : رحلتي مع العلاج النفسي