السبت ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم غزالة الزهراء

السيدة خوخة

السيدة خوخة تخطت الثمانين عاما من عمرها حيث امتص الدهر المشاكس رحيق شبابها العطر، وراح يبدع بعبقرية مطلقة في حفر تجاعيد أكثر بروزا على مساحة الوجه، رسام ماهر مثله لا يمكن الانقاص من قيمته، أو الاستهانة بريشته، زد على ذلك لم يسلم شعر رأسها هو الآخر من براعة الريشة إذ أنها أراقت عليه لونا زاهيا يماثل لون الثلج في بياضه. هذه سيمات بارزة تدل على أنها لم يتبق بينها وبين اللحد ما عدا أمتار قلائل أقل مما عايشته. لا مؤنس لها في خلوتها سوى حزيمات من ذكريات ملاح بمذاق السكر مدفونة بعمق في ربوع ذاتها، وبين الفينة والفينة ترفرف حولها كحمائم بيض وهي تهدل بتناغم مطلق، بتأن وحذرشديدين تقلب سجل ذكرياتها صفحة صفحة وتتوقف عند كل محطة من محطاته.
ـــ اغمضي عينيك الجميلتين، ولا تفتحيهما إلا إذا أمرتك بذلك.
ـــ ها أنذا أغمضهما.
أحاط عنقها العاجي بعقد من اللؤلؤ الخالص، ثم أسر في أذنها بصوت دافئ منكه بأريج الفرح: افتحيهما الآن، وسترين المفاجأة.
منتشية إلى حد الضلوع: ما هذا يا ولدي !؟ عقد من اللؤلؤ !؟
ـــ عيدك مبارك يا أغلى أم.
ـــ أي عيد تعني يا بني؟
ـــ اليوم هو عيدك، عيد الأمهات.
مرددا أمامها بفخر لا يضاهيه فخر:
ذقت الحياة على يديك وطالــما فاضـــــــت بألوان النعيــــــم يداك
يسري حنانك في دمائي مثلـما تسري النضارة في الخميل الزاكي
هيهات توجد في الحياة سعادة إلا إذا جادت بهــــــــــا كفـــــــــاك
تتهلليــــــــن إذا ابتسمـت وإن بكت عيناي فجرت الأسى عينــاك
ثم لفته على حين غرة غمامة شفافة من الصمت البديع.
ـــ إنه كلام عسلي أمطرتني به في هذه الأمسية الشيقة، لم تلتقطه أذناي من قبل.
ـــ هذا ليس مجرد كلام يا غاليتي، الشاعر علي الجمبلاطي هو من نسج من مخيلته هذا الإيقاع الموسيقي المبهر.
فاجأتها جارتها ذات مرة بقولها الملغم حسدا: ابنك يطيعك الطاعة العمياء، ولا يرفض لك طلبا ليس كولدي العاق الذي لا خير فيه.
تمتمت السيدة خوخة في سرها: عين الحسود لا تسود، عين الحسود لا تسود.
عندما تستبد بها نيران الشوق، وتلتهم أضلعها عنوة تردد ما علق بذهنها آنذاك:
ذقت الحياة على يديك وطالــما فاضـــــــت بألوان النعيــــــم يداك
هذا ما اقتنصته فقط مما ترنم به وحيدها، وخزنته بأمانة بين جنبات عقلها، اشعاعات ابتسامة تنبعث على شفتيها مثلما ينبعث النور الوهاج في قبو مظلم، تتخيله قدامها منتصبا كشجرة سرو عالية، ومادا لها ذراعيه لاحتوائها بقوة. كانت تغذيه في الساعات الثرية التي جمعتهما بما يصدر من قلب رؤوم: أنت سندي الوحيد، وأنت قرة عيني.
ثم تقفز إليها الذكريات تباعا فتجبرها على البوح: أنت شبيه والدك في كل شيء، أجزم أنك نسخة طبق الأصل منه.
ـــ فيم نتشابه؟ هيا احكي لي.
ـــ في الكثير من الميزات يا ولدي، في حنانه، ورزانته، وتواضعه، وحتى في ذلك المحيا الوسيم الذي تزينه سمرة لذيذة.
ـــ لم أتذكره، كم كنت أبلغ من العمر آنذاك؟
ـــ بضعة أشهرفقط، لم ترسخ في ذهنك صورته لأنك كنت حينها كومة لحم، خلفك وراءه طريا، ورحل إلى الدار الثانية.
لقد حصد ابنها أعلى معدل في اجتياز شهادة البكالوريا مما يؤهله للالتحاق بأرقى الجامعات في العالم لمواصلة مساره الدراسي.
قذفت نصيحتها في أذنيه عله يخمن و يحجم عن فكرته: الغربة موحشة ومؤلمة إذا سممت عظامك سترديك قتيلا.
ـــ سأروض نفسي على احتمال ذلك، لن تكون قساوة الغربة هدامة لما أجنح إليه في خضم أحلامي.
ـــ لدينا ما يكفي من المال، لا داعي للهجرة ما وراء البحار يا ولدي.
ـــ أتخالين المال هو منبع سعادتي الحقيقية في هذه الحياة؟ تأكدي تماما بأن ما تسمينه مالا سيكون مآله الاندثار البطيء من غير شك.
أخيرا أحكم قبضته على ما يريد وامتطى الطائرة.
تمر أعوام عدة على سفره ولكنه لم يعد، هناك تحقق ما كان يتوق إليه من تحصيل علم نافع، ووظيفة مرموقة تليق بشخصه الكريم، أما خوخة مازالت تتلظى بنار الانتظار، لا مؤنس لها سوى حفنة من ذكريات ملاح تدغدغها شوقا إليه، البارحة فقط طمأنها بأنه عائد لا محالة إلى مسقط رأسه، وأنه سيقضي بقية عمره بجانبها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى