أنت سر وجودي
منذ أن تفتحت عيناي المسرفتان في بريقهما على الدنيا ألفيتك بجانبي، تلازمينني كقطعة من ظلي الظليل، ومنذ ميعة صباي استساغ لساني كلمة أمي.
ياأغلى أم أنت! ويا أعز الناس إلي!
كنت تعبقين فضائي الرحيب بطوفان حنانك النرجسي، وبسخاء اهتمامك الصافي، وبحبك الأنقى كالزلال، أنت دفء عارم يحتويني من كل الجهات، ويدثرني من غير إثارة بلبلة
ولا سأم، صحبتك لي في كل زمان ومكان هي شارة واضحة لأسمى عاطفة تطعمينني إياها مجانا، في سبيلي تحملت عناء شديدا بغية تنشئتي النشأة الصحيحة، وتقويمي على أحسن نهج، لم تتذمري يوما من حضوري، ولم تتأففي من جم متاعبي التي تحوم فوق رأسي كما غربان سود تزعج أعز لحظاتي، بتدعيمك لي معنويا كانت سمائي المديدة تصفو من شوائبها، وتزدهر حقول سعادتي ازدهارا، وتنمو سنابل تفاؤلي تباعا من غيراجحاف ولا عناء.
لم تتقاعسي ولو مرة في امدادك لي بنصائحك المعطرة بدفء الأمومة التي صارت بمثابة بشرى سعيدة تثلج ثنايا قلبي، وتنغرس في معارج خيالي كأغصان توت بري تزهو باخضرارها.
ـــ اهتمي بدراستك، ولا تخالطي رفيقات السوء حتى لا تصيري جزءا منهن.
ـــ احذري من الانزلاق في بؤر الفساد، المجتمع لن يرحم أبدا من حاد عن الخط المستقيم.
ـــ عليك بالتمسك بخلقك المهذب، وعليك بالترفع عن كل ما هو أسوأ ودنيء.
الحق يقال أنت كتلة من المشاعر الأشد تماسكا، ومن صفاء النوايا، والعطاءات التي لا تنتهي، تسافرين من غير تذكرة في أوردتي فتمتزجين بدمي، ونبضات قلبي وكذا أنفاسي.
يا أعظم أم ولدت من رحم الأرض!
أنت نجمة ساطعة تتربعين في أفقي تربع الملوك، تنيرين جوانب دربي حتى لا تتعثر خطاي، ولا تضمحل في دياجير التهلكة، نصائحك التي نثرتها حولي كالعقيق لازالت تنبض في أذني لحد الساعة ولن تبرحهما ما حييت.
كم أنت رائعة يا أمي ! يا أعز الأمهات!
أنت صديقتي، وحبيبتي، ومهجة روحي التي ألقي بين يديها المباركتين أسراري ومتاعبي، وأهجع تحت جناح دفئها قبرة مطمئنة آمنة.
وكان يوم ليس كسائر الأيام، يوم يختلف تماما عما سبقه.
اكتساك ذبول مباغت، وانتحر ذلك البريق الذي كان يشع في عينيك على الدوام.
تمددت على السرير قائلة بصوت أجش كأنما أحسست بدنو نهاية محتمة: لكم اشتقت إلى رؤية أولادي، اتصلي بهم عبر هاتفك، واخبريهم عن حالتي المتعسرة، شعور قاس بالرحيل يساورني يا ابنتي.
أربكني تصريحك المفاجئ إلى حد وجع الضلوع، وقلت في نفسي بعد تخمين دام لبضع دقائق: أحانت ساعة رحيلها كما تقول؟
حاولت أن أطرد ما يدور بخلدك من أفكار محبطة رغم أني متيقنة أنك بأسوأ
حال: أنت في حالة جيدة تحسدين عليها، لا تتوجسي قلقا يا غاليتي.
تفحصتني مليا ثم قذفت في وجهي سؤالا لم أكن منتظرة إياه: ألم يحضر والدك حتى هذه الساعة؟
باندهاش: والدي !؟
هل من عطب أصاب مخيلتها فجعلها تهذي بهذه الصورة؟ والدي مسجى تحت الثرى منذ عام ونيف.
هاتفت إخوتي الواحد تلو الآخر علهم يحضرون رفقة زوجاتهم وأبنائهم، ومن ثم اتصلت بالطبيب ابن عمي.
بعد الفحص الدقيق صدمني بقوله: حالتها أسوأ مما تتخيلين، يجب ادخالها إلى المشفى لتتلقى الرعاية الكاملة، حالة كهذه لا تستدعي أي انتظار.
مساء من كل يوم أهرع إلى المشفى برفقة أختي وإخوتي، تحين ساعة الدخول، نسرع في خطانا وكأننا نسابق دوران الزمن، بعيون قلقة نشرئب بأعناقنا لرؤيتك من خلال الزجاج الذي يفصلنا عنك، ممددة أنت على سرير المرض غير شاعرة بوجودنا، ولا بهمساتنا، ولا بحركاتنا، ولا باشتياقنا إليك. يبدو أن ما أصابك كان أقوى منك بكثير، يا الله ألطف بها، وابسط عليها يد رحمتك!
سألت الطبيب متلهفة لسماع جوابه: هل ستشفى والدتي يا حكيم؟
ـــ نحن نعمل ما بوسعنا لإنقاذها مما هي فيه، ولكن في النهاية تبقى الأعمار بيد الله.
ثم أضاف وفي رنة صوته أمل ضئيل ينبض: ضغط دمها كان مرتفعا مما سبب لها نزيفا في الدماغ.
كدت أصرخ من هول ماالتقطته أذناي في تلك الأمسية، وكدت أتهاوى على الأرض مغشية علي.
هل تتعافين من علتك لأنثر حولك أصوات العنادل، وعناقيد الفرح؟ وهل تعودين لممارسة حياتك كباقي الأمهات وأنت رافلة في ثياب سندسية من الشفاء المبهر؟
يمر شهر بائس وضنين وأنت هناك ممددة على فراش المرض تحت العناية المركزة، حالتك الصحية تفاقمت سوءا يوما بعد يوم، وباتت تومئ باللانجاح.
جاءنا النبأ الأكيد الذي ارتجت له مسامعنا، رحيل أبدي لن تعودي منه ثانية، فما أصعب لحظة الوداع يا أمي، يا مهجة روحي!
البيت موحش من غير وجودك، لا نغم فيه، ولا حياة، هذا سريرك الذي كنت تخلدين إليه يقابلني في صمت مطبق، وتلك مخدتك الوردية اللون التي أبدعت أناملي في تطريزها، وتلك أشياؤك نائمة في الدولاب الخشبي نومة طفل بريء لا يعرف النفاق سبيلا إليه.
كم كان حضورك الأبهى قويا بين أولادك!
عيناي المشويتان بالوجع تعانقان طيفك الحميم الذي يجوب المكان، مازلت تحومين حولي كالفراش المزركش لونه، ومازلت ساكنة في روحي ودمي يا أغلى أم.