عكس التوقعات
الدنيا ضيقة في عينيه الرماديتين، لا نكهة لها من غير أصدقائه، شعور بالضياع يتملكه رغما عنه، يدور في حلقة مفرغة لا نفع منها، محبط تماما أمام وضعه الراهن، صبره نفذ عن آخره، حبال المتاهة تلتف حوله حيث تضيق عليه الخناق، ويحتد الصراع بدواخله كأنه صوت طاحونة مزعج يخرب تلافيف رأسه.
باحثا في صمت عن مسلك وحيد يحرره من قيود التذبذب والتوهان، تنثال عليه أكوام من الأسئلة العجاف: إلى متى ستظل جيوبك شاغرة تسطو عليها رياح الأسف، ويصفعها زمهرير الألم؟ إلى متى ستظل قابعا في دهاليز صمتك على هذه الوتيرة كأبله تافه مشرد الحلم، وممزق الذاكرة؟ ومتى ستتفتق سحابة اليأس من محيطك التي احتلت جزءا وافرا منك، وأبت علانية الانسلاخ من جلدك؟ مؤلم جدا أن تبقى طوال حياتك غارقا حتى أذنيك في غبنك وتمردك وتلاشيك.
أجمع أصدقاؤه بالأمس على امتطاء ظهر الموج للوصول بكل أمان إلى الضفة الأخرى.
قال أدهم والأسى يتغلغل إلى كبده: ضاع عمري في انتظار وظيفة لائقة يا شباب، طرقت معظم الأبواب ولم أحصد من ذلك شيئا، علي أن أهاجر سرا لأرفل هناك في سندس الجنة والنعيم، و....
قاطعه أنس وسكاكين الحسرة تمزقه إربا إربا: أنا مثلك تماما، شبح البطالة أنهك قواي رغم أني خريج جامعة، أشعر بأنني غير مرغوب فيه على سطح الأرض ولذا فكرت عميقا في الرحيل عن هذه الديار لأشيد أركان مستقبلي هناك.
وأضاف معاذ على ما سمعه من زميليه: معكما حق، الهجرة السرية هي التي تنتشلنا من بؤرة ضياعنا، لنتحد، ونرحل معا.
بينما فادي ظل مطرق الرأس، ينصت إلى هذا وذاك دون أن ينبس بكلمة.
قال لوالدته ذات يوم: أبناء الأغنياء يرفلون في الرخاء والازدهار، ويستمتعون من غير مشقة، أما الفقراء الذين يضارعوننا يموتون سخطا وجوعا.
ـــ الدنيا مكاتيب مسطرة يا ولدي.
ـــ دعيني أبحث عن مستقبلي من وراء البحار، ولا تقفي حجرة عثرة في طريقي.
اتسم صوتها الأنثوي بالجدية والحزم: البحر غول مارد لن تشفع فيك غطرسته، العديد من الشبان استهوتهم روح المغامرة وبريقها الوهاج، انزلقوا بين أنياب العاصفة فكفنتهم بألحفة الصقيع، وهناك من غدر بهم الحوت الكبير فلم يجرؤوا على المقاومة وبالتالي لفظوا أنفاسهم.
ـــ سأجرب حظي كباقي الشباب، ربما سأنجو وأصل إلى مبتغاي.
ـــ لا تكن عنيدا يا عزيزي، ألا تدرك بأن وطنك سيكون أنكى وأمر إذا تخليت عنه، ألا تدرك هذا؟ وطنك بحاجة ماسة إليك لتملأ رئتيك بنسائمه الطيبة، ولتلاطف قدماك ثراه الناعم، لا أظن أنه سيكون شحيحا مثلما تتصور، أعد الكرة مئة وألف، اطرق جميع الأبواب، ولا تفقد أملك في الحياة، تأكد بأن الذين يخاطرون بأنفسهم بحثا عن الكنوز الدفينة في أرض ليست بأرضهم كان مآلهم الخسران المبين.
لم ينقض أسبوع واحد وإذا بفادي يزلزله خبر مرعب أدمى قلبه، انقلب قاربهم في عرض البحر إثر عاصفة هوجاء، لقي الثلاثة حتفهم دون تحقيق ما كانوا يصبون إليه.