الترجمة بين أسئلة الهوية والماهية
انطوت كلمة كويتشيرو ماتسورا مدير هيئة اليونسكو في كلمته الإفتتاحية التي ألقتها نيابة عنه آني بريسيه رئيسة الجمعية الدولية لدراسات الترجمة والتثاقف في مؤتمرها الأول المنعقد في سول بكوريا الجنوبية في الفترة من 12 إلي 14 أغسطس 2004 تحت عنوان الترجمة وابتناء الهوية Translation and the Construction of Identity– انطوت هذه الكلمة علي مفارقة لافتة مرجعها الفجوة القائمة بين تصور المؤسسات الثقافية، وعلي رأسها اليونسكو، للترجمة، ممارسة وتنظيراً، وتصور أهل الإختصاص من مترجمين وباحثين لها. أعادت كلمة ماتسورا انتاج تلك الصورة الأيقونية للمترجم بوصفه ذلك الوسيط المحايد الذي يسعي جاهداً إلي "ايجاد الروابط بين عوالم اتسعت الهوة بين بعضها البعض بفعل عدم الاستيعاب وسوء الفهم"؛ هذا التصور لطبيعة دور المترجم يجعل من الترجمة "أداة ووسيطاً للتعبير عن الإختلاف". اتساقاً مع هذا الفهم تري اليونسكو، كما جاء علي لسان مديرها، أنها بدعمها للترجمة إنما "تدعم التنوع الثقافي، والحوار بين الثقافات بوصفهما مفتاحين للسلام بين الشعوب". يشي هذا التصور من جانب اليونسكو، سواءً للترجمة أو للدور الذي تلعبه كمؤسسة في تشجيعها، برؤيةٍ طوباويةٍ للمترجم تلبسه رداءً أشبه برداء المسيح: فكما قدم المسيح جسده قرباناً بغية اتمام المصالحة بين الأرض والسماء، وفقاً للمعتقد المسيحي، فإن وظيفة المترجم هي أن يردم الفجوة بين الثقافات، وأن يحقق الحوار بينها، مدركاً أن فعالية هذا الحوار مشروطةٌ بنكرانه لذاته أوتحييده لهويته أو خفاءها علي حد تعبير لورانس ڨينوتي الشهير في كتابه ذائع الصيت خفاء المترجم The Translator’s Invisibility . تنبني هذه الرؤية للترجمة/المترجم علي مسلمتين أساسيتين: أولهما أن المترجم كائن لا تاريخي بإمكانه أن يقف في منتصف المسافة الفاصلة بين ثقافتين دون أن يميل لإحداها علي حساب الأخري، وأنه بمقدوره عند الترجمة أن يعطِّل قناعاته ورؤيته للعالم وذائقته،والتي تؤثر جميعاً بالضرورة علي خياراته اللغوية، بحيث يصبح في النهاية صفحة بيضاء تسطر عليها الثقافتان المنقول منها والمنقول إليها عقد زواجهما السعيد. المسلمة الثانية التي ينطلق منها التصور السابق تحصر الترجمة كعملية في مجرد الفعل اللغوي الخالص الذي يستبدل بالنص الأصل نص الترجمة في معزل عن أية سياقات اجتماعية، أو ثقافية. هذه الرؤية للترجمة كما عكستها كلمة ماتسورا في اليوم الأول هي ما سعت الأوراق المقدمة في المؤتمر لاحقاً إلي تفكيكها واثبات تهافتها، بل وعدم صلاحيتها كأداة لفهم ظاهرة بتعقيد الترجمة.
كان موضوع الترجمة في علاقتها بالهوية في تجلياتها المختلفة بمثابة المختبر الذي استوعب تصورات الباحثين المختلفة عن الترجمة، التي وإن تباينت فيما بينها من حيث زاوية النظر والمادة موضوع البحث إلا أنها خلصت جميعاً –علي سبيل الإجمال - إلي نتيجتين: أولهما أن المترجم ليس بمقدوره أن يماسف بينه وبين التفاعل الحادث بين النص/الثقافة المصدر والنص/الثقافة الهدف، فهو بحكم تاريخيته وانحيازاته وتكوينه المهني والإجتماع-ثقافي وانتماءاته الطبقية وخياراته السياسية حاضر في هذا التفاعل، أراد أو لم يرد، وطرف أصيل فيه، ومن ثم فإن حديث المؤسسات الثفاقية المهتمة بالترجمة،ومعظم برامج تدريب المترجمين عن وجود متعالٍ transcendental للمترجم أثناء فعل الترجمة أمر غير متحقق، علي الأقل في مجال ترجمة الإنسانيات. النتيجة الثانية التي كادت تجمع عليها كافة الأوراق هي أن المترجم ليس الطرف الوحيد الذي يتحكم في آليات الترجمة ويحدد ناتجها، فهناك العديد من الأطراف الأخري الفاعلة التي تتقاطع مصالحها أحياناً وتتصادم أحياناً أخري، وهي في هذا أو ذاك تحدد مسار الترجمة، ومصيرها. وتضم هذه الأطراف المؤسسات التي تحدد معايير الترجمة المقبولة، تلك المعايير التي يسهل من خلالها التمييز بين ما هو "ترجمة" ومالا يعد كذلك، وهذه المعايير نسبية، وتتغير بتغير عوامل الزمان والمكان وموضوع الترجمة؛ فما كان يعد ترجمةً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مصر، يصعب قبوله علي هذا النحو الآن، وما يقبله المشتغلون بالترجمة المسرحية يجده المشتغلون بالترجمة القانونية تحرراً من النص الأصل، أو ربما خيانة، كما أن مايروج في مصر علي أنه ترجمة قد لا يحظي بالرواج ذاته في سوريا مثلاً، لإختلاف السياسة اللغوية، وسياسة الترجمة. هذه المؤسسات التي ترسم الخط الفاصل بين ما يصنف "ترجمةً"وما هو عدا ذلك تشمل مؤسسة التعليم بمراحلها، خصوصاً أقسام اللغات في المرحلة الجامعية، وبرامج تدريب المترجمين في التعليم المستمر، والجهات المانحة لدرجات أو شهادات في الترجمة. علاوة علي ذلك فإن مسار أية ترجمة ومصيرها في الثقافة المنقول إليها مشروطٌ بما يتاح لها من ظروف نشر وتلقي، وهذه الظروف إما أن تدفع بالترجمة لتصبح جزءاً من التراث المعتمد canon الخاص بالثقافة المنقول إليها، أو تضعها علي هامش هذا التراث. ولعل المثال الأقرب إلي الذهن هنا ترجمتان لرائعة شكسبير Othello إلي العربية ظهرتا في العقد الثاني من القرن العشرين، وفصل بينهما عامان فقط، الأولي بعنوان رواية أوتلو أو حيل الرجال المعروفة بالقائد المغربي، وظهرت علي مسارح القاهرة عام 1910 وصدرت لاحقاً عن المطبعة الملوكية، أما الترجمة الثانية فقد أنجزها خليل مطران عام 1912 بناءً علي طلب من چورچ أبيض تحت عنوان عطيل. الترجمة الأولي لا تشكل أهمية تذكر في تاريخ الترجمة المسرحية في مصر، حتي أن اسم مترجمها نفسه طواه النسيان؛ أما ترجمة مطران بما حازته من رأسمال رمزي و اجتماعي (علي حد تعبير بورديو) ضمنه لها اسم مترجمها، واسم المخرج الذي جسدها علي المسرح المصري للمرة الأولي، فقد شغلت مكاناً متميزاً، ليس فقط في تراث الترجمة إلي العربية، وانما في تراث المسرح العربي ذاته، حتي أن الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية عندما عزمت علي ترجمة الأعمال الكاملة لشكسبير، تحت اشراف طه حسين، وذلك في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين لم تسكتب مترجماً لإنجاز ترجمة جديدة لمسرحية شكسبير، وانما ضمت ترجمة مطران معتبرةً أن ما قدمه هو القول الفصل في ترجمة نص شكسبير. هذا الإقرار من جانب الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية بصلاحية ترجمة مطران التي أنجزت في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين للتداول والقراءة في منتصف الخمسينات أكد علي هذه المكانة المائزة لنص مطران. يمكن الإشارة في هذا السياق إلي مؤسسات أخري تلعب دوراً في تكريس ترجمةً معينة وتهميش أخري، ومنها المؤسسات المانحة لجوائز الترجمة، والمؤسسة الإعلامية، والمؤسسة التعليمية بإدراجها ترجمات معينة ضمن المقررات الدراسية وتجاهلها لأخري.
هذا التعقيد الذي تنطوي عليه ظاهرة الترجمة هو ما أكدت عليه معظم الأوراق في تناولها للعلاقة بين الترجمة والهوية.
هل الترجمة ناقلةٌ للهويات أم صانعةٌ لها؟
لعل أول ما يلفت النظر في عنوان المحور الرئيسي للمؤتمر هو ما ينطوي عليه من مساءلة لتصورين سائدين عن كلٍ من الترجمة والهوية؛ ومصدر هذه المساءلة هو كلمة construction الإنجليزية التي يترجمها كمال أبو ديب إلي ’ابتناء’ (أنظر ترجمته لكتاب ادوارد سعيد الثقافة والإمبريالية)، وهي ترجمة مبينة إذا تأملناها في ضوء التركيب الدلالي للكلمة الإنجليزية. فضلاً عما تدل عليه الكلمة من دلالات ’بناء’ و ’تركيب’ و ’انشاء’ بالمعني الحرفي المادي، فهي تحيل أيضاً إلي ’البناء الذهني’، بمعني التصور الذي يخلص إليه المرء عند ادراكه لموضوع ما object في العالم المادي، ومن هنا كان استخدام اللفظة في الإنجليزية بحيث تدل علي المعني الذي يسبغه المرء علي فعل من الأفعال أو سلوك ما أو حقيقة. اللافت للإنتباه أن الكلمة ذاتها – كما يشير قاموس أكسفورد – ظلت تستخدم حتي منتصف القرن السابغ عشر في انجلترا بمعني ’الترجمة’، أي ’بناء’ معني أو تصور ما لنص أجنبي في اللغة الأم. يستخدم المشتغلون بالقانون الكلمة ذاتها في الإنجليزية للدلالة علي ’تخريج’ أو ’تفسير’ أو ’تأويل’ لنص تشريعي أو وثيقة قانونية. أما في الفن التشكيلي فكلمة construction (التي تترجم في هذا السياق إلي ’عمل مركب’) فتعني تأويل الوجود أو تمثيله علي نحو ما من خلال ’بناء’ علاقات جديدة بين أشياء ومواد مألوفة، وبينها وبين الفراغ. نخلص إذاً إلي أن التعقيد الذي يسم كلمة construction مرجعه هذا التماس الحادث بين دلالات ’الواقع’ و’تصورنا للواقع’، ’الوجود’ و’تمثيل الوجود’، ’النص’ و’تأويل النص أو ترجمته’، ’البناء’ و’صورة البناء’. لعل هذا التماس الدلالي هو ما استثمرت فيه العلوم الإنسانية والإجتماعية مؤخراً عند اعادة نظرها فيما كنا نراه سابقاً ’أبنيةً’ فكرية راسخة، ولكن ثبت أنه ليس سوي ’مُبتنيات’ constructs خاضعة للتغير والتبدل وفقاً للأشخاص/المؤسسات الذين يقومون علي صياغتها، ولحظتهم التاريخية، وزوايا نظرهم، ومصالحهم. وهكذا أضحت مفاهيم مثل التاريخ، والأمة، واللغة، والنص، والمعني، والتراث الأدبي، وغيرها محض مبتنيات، وذلك بعد أن كانت تتمتع في أذهاننا بوجود موضوعي مستقل. لا تستسني الهوية من ذلك، وهنا تأتي أهمية المحور الرئيسي للمؤتمر الذي يربط الترجمة بالهوية من خلال السؤال: هل تنقل الترجمة الهوية الثقافية للنص الأصل، أم أنها تبتنيها؟
الترجمة والهوية القومية:
يلفت لورانس ڨينوتي في ورقته التي حملت عنوان "الترجمة والثقافة القومية" الإنتباه إلي أن كل من الترجمة والأمة اقترنا في الأذهان بدلالة مشتركة هي دلالة ’المماثلة’ أو ’المجانسة’. إن ربط جودة الترجمة بشرط الخلو من ’اللكنة’، وعدم ايحاءها بأنها ترجمة، وإنما نص كتب أصلاً في اللغة المترجم إليها يعني أن الترجمة الجيدة – من وجهة النظر تلك – تقوم علي نفي الغريب، و ’توطين’ الأجنبي أو ’تدجينه’ علي حد تعبير ڨينوتي الشهير domesticating translation ، وهو ما يعني أيضاً نفي الإختلاف، وتجبيذ المماثلة بوصفها شرط جودة الترجمة. الأمر ذاته ينطبق علي مفهوم ’الأمة’ الذي يشترط لتحقيقها تواجد قدر من التماثل بين الجماعات والفئات والطبقات المكونة لها، ومداراة الإختلافات النسبية بينها لصالح تجانس شبه مطلق يمنح الأمة هوية جمعية واحدة تميزها عن غيرها من الأمم. إن تمركز كل من ’الترجمة’ و’الأمة’ – في التصورات الشائعة عنهما – حول دلالة ’المماثلة’ يفسر لنا المفارقة التي يشير إليها ڨينوتي في ورقته عن الحركات القومية التي غالباً ما تتوسل بالترجمة في صياغتها لصورة معينة للأمة تتفق وأچندتها السياسية. إن الحركات القومية هنا لا تستهدف من الترجمة استدعاء الآخر للتعرف عليه بقدر ما تستهدف توظيف الترجمة للتأكيد علي تصور معين عن الذات القومية؛ ولعل هذا ما يفسر لنا لجوء المترجمين إبان فجر النهضة المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلي ما أسموه ’التعريب’ وأحياناً ’التمصير’، حيث تحول نص الترجمة في هذه الحالة إلي عنصر مكوِّن لأدب قومي ناشئ. يخلص ڨينوتي من خلال قراءته لترجمات رواية ايتالو كالڨينو كوميديات كونية إلي الإنجليزية والقطالانية إلي أن خيارات المترجمين وقراراتهم أثناء فعل الترجمة الأدبية غالباً ما تميل إلي تدجين النص/الثقافة المصدر بغية احراز المماثلة مع الثقافة الهدف، وهو ما يجنبهم مخاطرة التصادم مع "المختلف"، تلك المخاطرة التي تتلازم مع ما يسميه ڨينوتي بالترجمة التغريبية translation foreignizing. وغالباً ما تقتضي المماثلة التي يسعي إليها المترجمون إلي ابتناءهم الثقافة التي ينقلون عنها وفقاً للشفرات الجمالية والأيديولوچية التي تقرها الهوية الجمعية للثقافة التي ينقلون إليها.
تأكدت المفارقة بين الوعي الزائف الذي يعكسه خطاب المؤسسات الثقافية بالترجمة بوصفها احتفاءً بالإختلاف ووعي الباحثين في دراسات الترجمة، الذي يشي بعكس ذلك – تأكدت هذه المفارقة في مجموعة أخري من الأوراق حاولت توليد عدد من التساؤلات ذات الصلة بثنائية الإختلاف/المماثلة، أو التدجين/التغريب. في دراسة عن استقبال مسرحية سالومي لأوسكار وايلد في اليابان تشير الباحثة ميكو ساتو إلي وجود أكثر من عشرين ترجمة باليابانية لهذا النص، لكنها تستدرك قائلةً أن ترجمة واحدة من هذه جميعاً هي التي تم تكريسها بوصفها الأكثر قبولاً بين عامة القراء والمثقفين علي السواء، ألا وهي ترجمة هيناتسو، وتأكد هذا التكريس عندما اختار المخرج المسرحي يوكيو ميشيما نص هيناتسو ليستند إليه في اخراجه لهذه المسرحية. والسؤال الآن: لماذا هذه الترجمة بالذات؟ يأتي جواب الباحثة بأن هذه الترجمة استطاعت أكثر من غيرها أن تبث في نص الأصل روحاً يابانية جعلت من نص وايلد "مرآةً" يتطلع فيها اليابانيون فلا يجدون إلا أنفسهم؛ فالترجمة هنا إذأً، وعلي عكس ماجاء في كلمة المدير العام لليونسكو، لم تكن وسيلةً لنقل الإختلاف، وهو ما جعل الباحثة تعطي ورقتها عنواناً فرعياً هو ’الترجمة بوصفها مُناغمةً بين الذات والآخر’.
إن رغبة المترجم في حيازة ترجمته مكانةً مائزة في التراث المعتمد للثقافة الهدف ليست وحدها ما يحفزه علي ابتناء الهوية الثقافية للنص المصدر وتدجينها بحيث تتماثل و الثقافة المنقول إليها. أحياناً ما يكون فعل التدجين مدفوعاً بأچندة سياسية لدي المترجم، وهو ما أكدت عليه ورفة سامح فكري التي حملت عنوان "ترجمة عطيل: سياسات الهوية وشعرية الترجمة". اختصت هذه الورقة بالدراسة ترجمتين ل عطيل إلي العربية: ترجمة خليل مطران (1872 – 1949) التي أنجزها بناءً علي طلب من چورچ أبيض، الذي أخرجها بدوره لفرقته عام 1912 ، وتشرت لاحقاً في طبعات متعددة، وترجمة مصطفي صفوان (1921 - ) إلي العامية المصرية، والمنشورة عام 1998 . إن كان المترجمان هنا يشتركان في تدجينهما لثقافة النص المصدر، بنسب ولأغراض متباينة، إلا أن فعل التدجين في الحالتين يخدم رؤيتين سياسيتين مختلفتين لمفهوم الهوية القومية وعلاقتها باللغة. يؤسس مطران اختياره للفصحي (التي تميل إلي فصحي التراث أكثر من الفصحي المعاصرة) وجمالياتها لغةً لترجمته علي اعتقاده بأن اللغة واجهة الهوية ومجلاها؛ وعلي اعتبار أن العامية – كما يقول في في مقدمة الترجمة – قد ’كسرت وحدة الأمة وكانت عليها أكبر معوانٍ للتصاريف التي مزقتها في الشرق والغرب كل ممزق‘، كانت الفصحي وسيلته لاستعادة هذه الوحدة، وابتناء تلك الهوية الجامعة التي تَجَّل في اتساقها وإطلاقيتها عن تفتت ونسبية الهويات التي تستدعيها العاميات. علي النقيض من ذلك يستخدم صفوان العامية المصرية في ترجمته ليبتني من خلالها تصوراً نقيضاً للهوية، يفكك من خلاله فكرة الهوية الجامعة وما تقوم عليه من نخبوية قهرية واطلاقية زائفة. إن الأولوية التي يمنحها صفوان لهوية الفرد – لا هوية الجماعة – تتأكد في اهدائه الترجمة إلي رجل الشارع العادي (الذي يمنحه صفوان اسم محمد علي عبد المولي) الذي حالت الفصحي بينه وبين ما ينتجه المثقفون من فكر مؤلف أو مترجم، ومن ثم فإن الهدف الأساسي من ترجمة عطيل إلي العامية – كما يقول صفوان في مقدمته (التي يصر علي كتابتها بالعامية أيضاَ) هو ’إن ييجي اليوم اللي فيه محمد علي عبد المولي والملايين اللي زيه يقدروا يقروا فيه كبار الكتَّاب من عندنا ومن عند غيرنا باللغة اللي رضعوها علي صدر أمهاتهم‘. لم تقتصر الفصحي فقط – من وجهة نظر صفوان - علي سلب محمد علي عبد المولي هويته الفردية لصالح هوية جامعة مفروضة، ولكنها أيضاً عزلت المثقفين عن واقع رجل الشارع. يرجع صفوان ذلك إلي ’الفلسفة المبثوثة ضمناَ في اللغة العربية‘، والتي ’تغرق الكون كله في حضور مترستق كل شئ واخد فيه مطرحه تحت نظرة تحميه وتحمي الكل‘؛لكن هذه الفلسفة الإطلاقية، كما يقول صفوان، ’الواقع يكذبها كل يوم مليون مرَّة‘. إن هاتين الترجمتين بما تعكسانه من حضور واضح للمترجم تطرحان علي الباحث في دراسات الترجمة – كما يذكر سامح فكري في ورقته – مجموعة من التساؤلات جديرة بالتأمل: إلي أي مدي يتقاطع الخطاب الشارح meta-discourse الذي يصوغه المترجم عن ترجمته من خلال المقدمات و الهوامش مع خطاب الترجمة الفعلي؟ و هل تعزي تصورات المترجم، أو مبتنياته، عن الهوية في علاقتها باللغة إلي تكوينه الفكري فقط، أم أنها أيضاً نتاج الظرف الثقافي-الإجتماعي الذي يعيشه؟
الترجمة وهوية الجنوسة:
لم تستحوذ الهوية القومية وحدها علي اهتمام الباحثين في المؤتمر، فتحت عنوان الترجمة وابتناء هوية الجنوسة خُصصت ندوة مستقلة ضمت مجموعة من الأوراق، أكتقي هنا بالتعليق علي واحدةٍ منها، وهي ورقة لويز ڨون فلوتو عن نشأة الإهتمام بقضايا الجنوسة في الترجمة، متخذةً من كندا نموذجاً. تستلهم هذه الورقة واحداً من المفاهيم الأساسية التي طورها بيير بورديو في دراسته لسوسيولوچيا الثقافة وعمليات الإنتاج الثقافي، وهو مفهوم "الحقل" champs ، الذي يشكل مع مجموعة المفاهيم المرتبطة به إطاراً منهجياً لدراسة التشكل الإجتماعي للظواهر الثقافية علي نحوٍ يضمن للدارس عدم الوقوع في أسر الدراسات الإختزالية لعمليات الإنتاج الثقافي. ينأي مفهوم "الحقل" بالدراسة الإجتماعية للثقافة عن التبسيط الذي يسم نظريات الإنعكاس، والتي تجعل من الظاهرة الثقافية مرآةً تعكس علي نحوٍ مباشر اللحظة الإجتماعية. علي الرغم من وضع بورديو للسياق الإجتماعي في الإعتبار عند دراسته للظاهرة الثقافية، إلا أن هذا السياق يحدث تأثيره من خلال مؤسسات الأنتاج الثقافي وما تعتمده من قواعد وآليات. أي أن النص الأدبي، أو اللوحة، أو العرض المسرحي، أو الفيلم السينمائي ليست انعكاساً مباشراً للحظة الإجتماعية، ولكنها نتاج تفاعل اللحظة الإجتماعية مع المؤسسات والسياسات التي تشكِّل ما يسميه بورديو بالحقل الأدبي أو المسرحي أو السينمائي..إلخ. علاوة علي ذلك فإن منهج الدراسة الإجتماعية لعمليات الإنتاج الثقافي – كما يطرحه بورديو – يأخذ في اعتباره أيضاً دور الفاعلية الإنسانية human agency في تشكيل وتحديد مسار الظاهرة الثقافية، ومن ثم فإن فهم أية ظاهرة ثقافية مشروطُ ليس فقط بفهم الحقل الثقافي الذي تتشكل فيه الظاهرة، وإنما يتطلب أيضاً من دارس الظاهرة وعياً بما يسميه بورديو ’نسق التصورات والإستعدادات‘ habitus الذي يحكم أفعال وقرارت اللاعبين الأساسيين داخل الحقل الثقافي. تنطلق ڨون فلوتو من هذا الإطار المنهجي لتطرح من خلاله سؤالها حول نشؤ حقل فرعي من حقول دراسات الترجمة، وهو حقل ’الترجمة والجنوسة‘، مركزةً في ذلك علي كندا.
في قصيدةٍ للشاعرة الكندية بيني كيمب بعنوان ’ترجمة فورية‘ (1984) نسمع صوت امرأة تنطق لغةً هي هجين من الإنجليزية والفرنسية؛ هذه الثنائية اللغوية – كما تشير ڨون فلوتو – لا تحيل فقط إلي الثقافتين الرئيسيتين اللتين تتشكل منهما ثقافة كندا، لكنها كِنايةٌ أيضاً عن علاقة المرأة المأزومة بلغة أبويةٍ في بنيتها: ’يلفني صمتٌ يعجز عن التعبير عن نفسه بلغة الذكر‘. و عندما تدرك المرأة أن هويتها لا يمكن أن تتحقق بشكل كامل في اللغة تصبح الترجمة هي خيارها الوحيد الذي يسمح لها بتأنيث اللغة: ’نحن جميعاً مترجمات‘، هكذا يفول ضمير المتكلم في القصيدة. الكتابة النسوية هنا تصبح – علي سبيل المجاز – شكلاً من أشكال الترجمة يسمح للمرأة بتفكيك شفرات اللغة الذكورية وإعادة ابتناءها علي نحوٍ يسمح بتحقق الهوية النسوية. لم تقنع الكاتبات النسويات في كندا، وفي اقليم كيبيك علي وجه الخصوص، باستخدام دال ’الترجمة‘ علي سبيل المجاز بحيث يعبر عن علاقة الهوية النسوية باللغة، ولكنهن مارسن الترجمة فعلاً، وكتبوا مقدمات وتعليقات مطوَّلة عليها يشرحن فيه تصورهن لما سُمِّي لاحقاً بالترجمة النسوية. تمخضت الدراسات والترجمات التي أنتجتها هذه المجموعة من الكاتبات والمترجمات منذ منتصف السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات عن تراكم ما يسمية بورديو ’رأس المال الثقافي‘ الذي حاز بدوره لهذه المجموعة رأس مال اجتماعي تمثل في اعتراف بل واحتفاء المؤسسة الأكاديمية بها. أدي هذا الزخم من الكتابات والترجمات والمؤتمرات التي عقدت لمناقشة قضايا الجنوسة في علاقتها بالترجمة، وظهور الدوريات المتخصصة المعنية بهذا الشأن، وعلي رأسها دورية Tessera – أدي ذلك كله إلي تشكل حقل ثقافي/بحثي جديد هو حقل الترجمة والجنوسة. تحددت ملامح هذا الحقل من خلال عدد من الكتابات التأسيسية، لعل من أهمها كتاب سوزان دو لوتبينيير- هاروود بعنوانه الدال متمردة وخائنة. الترجمة بوصفها اعادة كتابة بنبرة أنثوية: الجسد ثنائي اللغة (1991). يضم الكتاب مجموعة من النصوص القصيرة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، تتحدث فيها الكاتبة عن ترجماتها واصفةً ما أسمته فعل ’الترجمة النسوية‘ في عالمة محكوم بلغة (ومؤسسات) أبوية. والكتاب – كما تشير ڨون فلوتو – هو لسان حال امرأة ثنائية اللغة تعتمد في كسب رزقها علي الترجمة، ولكنها في الوقت ذاته تري في ’الترجمة النسوية‘ فعلاً سياسياً يهدف من خلال الإشتباك مع ’ذكورية اللغة‘ إلي إسماع صوت المرأة الذي طالما تعرض إلي الإسكات. إن ’الترجمة بنبرة أنثوية‘ – كما تقول دو لوتبينيير هاروود – هي تمرين للذاكرة الأنثوية علي استعادة نفسها. تختم ڨون فلوتو عرضها لتشكل هذا الحقل الجديد بملاحظة نقدية تتعلق بتركيز هذا الحقل علي قضايا الجنوسة في علاقتها بالترجمة كما تتجلي في الخطاب الأدبي وحده دون غيره من الخطابات الأخري؛ وهذه الملاحظة ليست سوي دعوة لجيل جديد من الباحثين في دراسات الترجمة لاستقصاء هذه العلاقة في خطابات أخري، لاسيما خطابات المؤسسات الدولية، ووسائل الإعلام، وغيرها.
العولمة و الترجمة: سياقات جديدة
لم تكتفِ أوراق المؤتمر بالخطاب الأدبي وحده موضوعاً للدراسة، ولكنها تلمست سياقات جديدة للترجمة في علاقتها بالهوية، وهي سياقات أفرزتها العولمة وما خلفته من ظواهر. إن كانت العولمة في التعريف البسيط لها هي التدفق الحر للمعلومات والبضائع عبر الحدود، فإن التدفق البشري من خلال الهجرة هو أحد مظاهرها التي يتجلي فيها بأكثر وضوح اشكاليات الهوية في علاقتها بالترجمة. شهدت العقود الأخيرة موجات هجرة من دول العالم الثالث إلي الغرب، تحولت معها المدينة الغربية – والأوربية منها علي وجه الخصوص – إلي جيوب ثقافية، ولا أقول بوتقة، حيث ثبت عملياً استحالة الإنصهار الكامل للثقافات الوافدة داخل الثقافة المُضيفة.جعل ذلك الوضع من الترجمة ضرورةً لتلبية احتياجات الأقليات الثقافية الوافدة داخل مؤسسات المجتمع المُضيف من مستشفيات، ومصالح حكومية، ومراكز شرطة، وساحات قضاء. والحاجة هنا هي إلي نوع خاص من الترجمة يسميه أهل الإختصاص الترجمة الفورية للحوار dialogue interpreting . تختلف الترجمة الفورية للحوار عن كلٍ من الترجمة التحريرية بأنواعها، والترجمة الفورية داخل قاعات المؤتمرات في نواحٍ عدة، أهمها الحضور المادي لكافة أطراف التفاعل اللغوي/الثقافي، حيث يجتمع – علي سبيل المثال – الطبيب الذي ينتمي إلي الثقافة المُضيفة والمريض الذي ينتمي إلي ثقافة وافدة (وهو لا يتحدث لغة الطبيب)، والمترجم في اللحظة ذاتها، والمكان عينه. كذلك يتسم الموقف هنا بحركية وتعددية الأدوار التي تلعبها الأطراف الثلاثة، حيث يؤدي كل منهم دوري المرسل والمستقبل في آن، وهو مالا يحدث في الترجمة التحريرية، علي سبيل المثال. إن الحضور المادي للمترجم هنا بوصفه طرفاً أصيلاً في هذا التقاعل اللغوي الثقافي ثلاثي الأطراف، ودوره الواضح في تمثيل الهويات المتفاعلة – بما في ذلك هويته – يدحض مقولة خفاء المترجم أو حياده التي كثيراً ما تقرض نفسها في سياق الحديث عن الترجمة الأدبية. من ناحية أخري فإن تمثيل المترجم للهويات المتفاعلة في هذا الموقف مشروطٌ بمجموعة من العوامل الإجتماعية-الثقافية، منها انتماءه لإي من الثقافتين المضيفة أو الوافدة، وشكل علاقات السلطة التي يفرضها المسئول الحكومي (الطبيب أو ضابط الشرطة، أو موظف الهجرة، الخ) علي كلٍ من المترجم، والشخص المنتمي إلي الثقافة الوافدة؛ كذلك يتوقف تمثيل المترجم للهويات علي مدي التزامه/ها بقانون أخلاقيات المهنة، بل وما ينطوي عليه هذا القانون ذاته من انحيازات ثقافية وأيديولوچية.
من بين الأوراق الأخري التي لفتت الإنتباه إلي تمخض العولمة عن سياقات جديدة للترجمة ورقة يان بلومارت التي ركزت علي دور الترجمة في المواقف التواصلية التي تتم داخل مراكز استقبال اللاجئين في دول العالم الأول. ينتقل طالبو اللجوء من هوامش العالم إلي مراكزه، ويتوقف قبولهم داخل هذه المراكز – كما يشير بلومارت – علي نتيجة الموقف التواصلي الذي يجمعهم بالموظف الذي يمثل الثقافة المضيفة، والذي يفحص طلباتهم ويقرر صدقيتها في ضوء ما يجريه من مقابلة مع طالب اللجوء، تلك المقابلة التي يلعب فيها المترجم الفوري دوراً لا غناء عنه. يلحظ بلومارت أن نسبة كبيرة من الحالات التي تعرض علي الموظفين العاملين في مراكز استقبال اللاجئين يتم استبعادها ورفضها بدعوي أن خطابات discourses طالبي اللجوء تتسم بعدم الإتساق، والتناقض. يرجع بلومارت ذلك الحكم من جانب موظفي هذه المراكز إلي الفجوة القائمة بين خطاب لغوي يستند إلي رأس مال رمزي محدود وآخر يتمتع برأس مال رمزي كبير. هذه الفجوة تؤثر بالضرورة في عمل المترجم الفوري. لذا فإن الباحث في دراسات الترجمة لا يجب أن يقنع عند دراسته لهذا الموقف بفحص الجانب اللغوي فقط، وإنما عليه أن يبحث في سياسات الهوية التي تؤطر هذا الموقف، و علاقات السلطة التي تفرض شروطها عليه.
ترجمة المتحف وترجمة الفقر: دراسات الترجمة تُسَاءِل نفسها
لم تكتف الأوراق المقدمة في المؤتمر بطرح سؤال الهوية في علاقتها بالترجمة، لكنها انشعلت أيضاً بسؤال الماهية، أي ماهية دراسات الترجمة ذاتها، وذلك في فعل انعكاسي ذاتي self-reflexive أصبح سمةً علي العلوم الإنسانية في اللحظة الراهنة. فضلاً عن الجلسة التي خصصها المؤتمر تحت عنوان ’الماهية البحثية: إعادة تعريف الترجمة في القرن الحادي والعشرين‘، عكس العديد من الأوراق اهتمام الباحثين في دراسات الترجمة بإعادة النظر في الحدود البحثية التي فرضت علي دراسات الترجمة في شكلها التقليدي وعزلتها عن غيرها من العلوم الإنسانية. إن القراءة المتعمقة للأوراق تكشف عن مجموعة من الأسئلة التي تؤرق المشتغلين بدراسات الترجمة الآن يمكن اجمالها فيما يلي: ما هي المادة البحثية التي تقع ضمن اختصاص دراسات الترجمة؟ هل هي اللغة فقط بشكليها المكتوب والملفوظ، أم أن هناك مواقف تواصلية أخري تتجاور فيها اللغة وعناصر أخري تجعل من الترجمة ودراستها أعقد من المألوف في مواقف الترجمة المعتادة؟ ما هي أدوات ومناهج البحث في دراسات الترجمة؟ هل يقنع الباحثون في هذا المجال بالأدوات التقليدية التي يتيحها علم اللغة في شكله القديم، أم أن عليهم ابتداع أدوات جديدة تتلائم والتعقيد الحادث في الظاهرة موضوع البحث؟ إن كان المترجم لا يمكنه بحالٍ من الأحوال أن يحيِّد نفسه أثناء فعل الترجمة، فماذا عن الباحث في دراسات الترجمة؟ هل بإمكانه أن يصطنع مسافةً بينه وبين الظاهرة موضوع بحثه، أم أنه هو بدوره متورطٌ بما يحمله من تصورات مسبقة عن الترجمة، ماهيتها، وآليات دراسة ظواهرها، فضلاً عن تصوراته المسبقة عن الثقافة التي ينقل منها وتلك التي ينقل إليها؟ كل هذه الأسئلة وجدت طريقها إلي الأوراق بشكل أو بآخر.
من بين الدراسات التي أعادت النظر في طبيعة المادة موضوع البحث في دراسات الترجمة دراسة للباحث روبرت نيذر بعنوان ’ترجمة المتحف: الترجمة وعملية التمثيل عبر الثقافي في الصين المعاصرة‘. تلفت هذه الدراسة الإنتباه إلي أهمية المتحف بوصفه واحداً من الفضاءات التي تتم من خلالها عمليات التمثيل عبر الثقافي؛ فمن خلال المتحف (والحديث هنا عن المتحف ذي الطابع "الثقافي" بالمعني الضيق للكلمة) تستنطق الذات لحظة من ماضيها مقدمةً إياها إلي الآخر علي نحوٍ تومئ فيه أيضاً إلي حاضرها. تتم عملية التمثيل عبر الثقافي من خلال ما يسميه الباحث "نص المتحف" الذي يتقاطع فيه اللغوي مع البصري، الفراغ مع الكتلة، التاريخ مع الحاضر. المقصود بنص المتحف هنا المادة المتحفية في علاقتها بالفراغ المكاني للمتحف، وغيرها من المواد المتحفية المعروضة، وكذلك ما يصاحبها من مادة لغوية مكتوبة بلغتين: اللغة الوطنية، ولغة أجنبية، غالباً ما تكون الإنجليزية. تركز الورقة علي علاقة هذه المادة اللغوية بغيرها من الأنظمة السيميوطيقية الأخري داخل المتحف، وتفاعلها معها بحيث تتمخض عن صورة معينة للهوية الثقافية الوطنية؛ تشير الورقة كذلك إلي آليات تلقي الزائر الأجنبي لنص المتحف، وتمثله للهوية الثقافية التي يحتفي بها المتحف. لعل أهم ما يخلص إليه الباحث هو أن نص المتحف يكتسب فاعليته داخل سياق أكبر قوامه المؤسسة الثقافية الرسمية القائمة علي وضع نص المتحف وما تتبناه من سياسات تحمل وجهة نظر معينة تجاه عملية التمثيل عبر الثقافي، وهو ما يؤثر بدوره في آليات انتاج وتلقي نص المتحف.
من بين الدراسات التي حاولت إعادة النظر في مناهج البحث المستخدمة في دراسات الترجمة والقاء الضوء علي مناهج بديلة دراسة بعنوان ’معني الفقر في النيچر: جسر فجوة الترجمة من خلال البحث الميداني‘. تنطلق أسئلة هذه الدراسة من المنطقة التي تتماس عندها دراسات الترجمة مع مجالات بحثية أخري مثل علم اجتماع اللغة، والأنثروبولوچيا اللغوية، والإقتصاد، والدراسات التنموية. يطرح الباحث هنا سؤالاً أساسياً مفاده: هل المفاهيم التنموية التي تتبناها المؤسسات الدولية العاملة في مجال التنمية والتي تؤسس عليها مشروعاتها في الدول النامية لها المعني نفسه والدلالة ذاتها لدي ثقافات هذه الدول؟ بمعني آخر، هل هنال فجوة ترجمة بين تصور هذه المؤسسات للتنمية ومشكلاتها، وتصور دول العالم الثالث لها؟ يركز الباحث هنا علي مفهوم واحد من مفاهيم التنمية، وهو مفهوم "الفقر" ليصبح السؤال: هل دلالات ’الفقر‘ كما تستخدمها مؤسسات التنمية الدولية في وثائقها تشكِّل ترجمة دقيقة لدال ’الفقر‘ كما تتداوله ثقافات الشعوب الفقيرة؟ يري الباحث أن الفجوة بين دلالتي ’الفقر‘ في كل من المؤسسات الدولية من جهة، والشعوب التي تعاني الفقر من جهة أخري لا يمكن فهمها ومن ثم جسرها إلا بالإستعانة بمجالات بحثية من قبيل علم اجتماع اللغة، وأنثروبولوچيا اللغة اللذان يعتمدان بدرجة كبيرة علي البحث الميداني الذي لا يقنع بدراسة اللغة وهي حبيسة نصوص مكتوبة، وإنما يطمح إلي استقصاء علاقة اللغة بمستخدميها، وبيئاتهم الإجتماعية. من هنا جاءت فكرة البحث، وهي جسر الفجوة بين تصورين مختلفين للفقر، لا من خلال الإشتغال علي نص اللغة، وإنما من خلال البحث في نص الثقافة. جاء تعريف ’الفقير‘ وفقاً لإعلان الألفية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2000 بأنه الشخص الذي يقل دخله اليومي عن دولار أمريكي واحد. ينطوي هذا التعريف علي محاولة لتكميم quantify مفهوم الفقر، وإن كان يترتب علي ذلك حصر المفهوم في البعد الإقتصادي وحده، وهو نفس ما لجأت إليه حكومة النيچر في تبنيها لاستراتيچية للحد من الفقر، جاء فيه تعريف الفقر بأنه ’تدهور في القوة الشرائية‘. علي النقيض من ذلك تشير الدراسات الميدانية التي أجريت بين أهل النيچر إلي دلالات أخري للفقر تختلف عن المعني الكوكبي له، والذي تبنته حكومة النيچر ذاتها. صحيح أن بعض هذه الدلالات يقترب فليلاً من الدلالة الإقتصادية، حيث جاء علي لسان بعض النساء الريفيات أثناء مقابلات ميدانية معهم أن القفير هو من لا يملك ماشية، أو من تعوزه الصحة. علي الرغم من أن هاتين الإستجابتين تقتربان من معني الفقر بوصفه تدهوراً في القوت الشرائية، إلا أنهما لم يكونا الأكثر تواتراً بين الإستجابات الأخري. من بين الإستجابات التي ترددت علي ألسنة النساء الريفيات موضوع البحث أن الفقير هو من ’يفتقر إلي الحسن من السلوك‘، أو هو من لا ينتسب إلي أسرة صالحة. هذه المجموعة الأخيرة من الإستجابات تسبغ علي الفقر (والغني) تضمينات أخلاقية، وتوسع من المجال الدلالي للفقر بحيث لا يصبح قاصراً علي المعني الإقتصادي وحده. مجموعة أخري من الإستجابات أضافت أبعاداً جديدة لمعني الفقر حيث جاء علي لسان أفراد العينة أن الفقير هو من يفتقر إلي الذكاء، ذلك أن ’الذكاء يمكن المرء من تلمس السبل التي يحصل من خلالها علي الماشية، أما من يفتقر إلي الذكاء بسيفقد البقرة التي يملكها‘. ما يتبدي لنا من نتائج هذه المقابلات الميدانية هو التباين فيما يراه سكان النيچر فقراً وما تعتبره المؤسسات الدولية القائمة علي التنمية كذلك. يشكل هذا البحث – مع غيره – تياراً جديداً في دراسات الترجمة يخرج بدراسة ظواهر الترجمة من أسر الرؤي القديمة والمنهجيات التقليدية.
إن الأبحاث التي قدمت في هذا المؤتمر الهام تعد مؤشراً علي التغيرات السريعة والمتلاحقة التي شهدتها دراسات الترجمة في الأعوام القليلة الماضية، وهي ما يمكن تحديدها فيما يلي:
– أصبحت المناهج البينية interdisciplinary في دراسة الترجمة أمراً واقعاً فرضه تعقد الظاهرة ذاتها، التي لم يعد النص المكتوب هو المجلي الوحيد لها، لكنها أصبحت عنصراً مكوناً من عمليات التثاقف جميعها، سواء تم هذا التثاقف من خلال اللغة أو توسل بوسائط أخري.
– إن المفاهيم التي اعتدنا علي وصفها بأنها مفاهيم انسانية عامة لا خلاف عليها، مثل الفقر، والغني، والرخاء،و الكساد ليست سوي جزء من مرويات narratives تروج لها مؤسسات تملك من السلطة الرمزية ما يمكنها من تسييد تصور خاص لهذه المفاهيم، وتحويل هذا التصور إلي اعتقاد عام. يمكن أن نضيف إلي القائمة السابقة مقولات رائجة من قبيل ’الترجمة الأمينة‘، و’الإلتزام بالنص‘، و’الموضوعية‘، و’الحياد‘. ليست هذه جميعاً سوي جزء من مرويات صنعتها مؤسسات بعينها. وبما أنها جزء من مرويات فهذه المفاهيم نسبية ومتغيرة ولا تتمتع بوجود موضوعي مطلق.
– تعكس دراسات الترجمة في اللحظة الراهنة – مثلها في ذلك مثل غيرها من العلوم الإنسانية – وعياً شديداُ بالذات؛بمعني أن الباحث في دراسات الترجمة لم يعد يشغله مسألة الموضوعية المنهجية في تناوله لظاهرة الترجمة كما كان الحال في مرحلة من المراحل التي شهدتها دراسات الترجمة عندما كان جُل مسعي الباحث هو استعارة وتطبيق منهج البحث في العلوم الطبيعية، وذلك بغية اضفاء صفة الموضوعية علي دراسات الترجمة، بما يؤهلها لأن تصبح علماً معترفاً به. علي النقيض من ذلك أصبح البحث الجيد والجاد في دراسات الترجمة مشروطاً بوعي الباحث بذاتيته، وقدرته علي تعيين قناعاته الشخصية واللحظات التي تتقاطع فيها هذه القناعات مع مسار البحث. علي سبيل المثال يقر الباحث في الدراسة الأخيرة بأن استجابات أفراد العينة الذين أجري معهم المقابلات الميدانية مشروطة بذاتية الباحث/ السائل بوصفه رجلاً أبيض، له قناعات وتصورات معينة، بل وأچندة سياسية محددة.
السؤال الآن: أما آن الأوان لأن تنشئ جامعاتنا أقساماً ومراكز بحثية مستقلة تعني بدراسات الترجمة (ولا أقصد تعليم الترجمة، فهذا متاح وموجود) بوصفها جزءًا من الدراسات الثقافية، لا بوصفها فرعاً تطبيقياً أو عالة على علم اللغة التقليدي؟