التاريخ الاجتماعى للترجمة فى مصر - القسم الثاني والأخير
ظنى أن هذين الفعلين التأسيسيين – لكل من الجبرتى والطهطاوى - لتسمية المسرح فى العربية قد أسهما بشكل كبير فى
لقراءة القسم الأول انقر هنا
استيعاب صُنَاع المسرح الأوائل فى مصر، وعلى رأسهم مترجمى المسرح، لذلك الفن، ومن ثم أثرا فى شكل ممارستهم له. يمكن القول إذاً إن ترجمة المسرح فى مصر – فى ضوء الحدود الدلالية التى صاحبت نشوء حقل المسرح - كان يتنازعها توجهان وذلك منذ بداياتها فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر حتى العقود الأولى من القرن العشرين. التوجه الأول كان ينظر إلى المسرح على أنه فن تسلية الجمهور، وإرضاؤه بما يتوقعه ويألفه فى فنون الفرجة الشعبية من غناءٍ ورقصٍ وفواصل هزلية، أما التوجه الثانى فقد رأى فى المسرح فناً قولياً فى الأساس، ولوناً من ألوان الأدب. التوجه الأول أفرز مترجماً للمسرح يمكن تسميته بنوع من التحفظ بالمترجم-الدراماتورج dramaturg، أى المترجم الذى يعمل على تكييف النص المسرحى عند نقله إلى العربية بحيث يتناسب مع مؤدين معينين يتمتعون بقدرات معينة، وبحيث يتلاقى وأفق توقع معين لدى مرتاد المسرح فى ذاك الوقت، ويتماس مع إطارٍ زمكانىٍspatio-temporal محدد. أما التوجه الثانى فقد أفرز ما يمكن تسميته بالمترجم-الأديب، أى ذلك المترجم الذى ينقل النص وفقاً لمواضعات فنون القول السائدة، وليس ضمن أولوياته الوفاء بتوقعات التيار السائد من مرتادى المسرح. النوع الأول من المترجمين يعمل من خلال نمط إنتاج يسميه بورديو فى سياق حديثه عن أنماط الإنتاج داخل حقل الإنتاج الثقافى بالإنتاج واسع النطاق large-scale production، فى حين يعمل النوع الثانى من خلال نمط الإنتاج الثقافى المحدود restricted production. معيار النجاح بالنسبة للنمط الأول من نمطى الإنتاج الثقافى هو مراكمة رأس المال المادى، على النقيض من نمط الإنتاج الثانى الذى يرى أن معيار نجاح المنتج الثقافى يتمثل فى قبوله من النخبة المثقفة، وتكريسه بوصفه جزءاً من التراث المعتمد لهذا الحقل.
إذا نظرنا إلى حقل ترجمة المسرح فى مصر لوجدنا أنه قد غلب عليه النمط الأول منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وحتى بدايات العقد الثانى من القرن العشرين. كانت أغلب الترجمات أثناء هذه الفترة تنتج خصيصاً للمسرح، وإن كان يتاح النشر لبعضها لاحقاً فى طبعات تحتفظ بمعظم التغييرات، بالحذف أو الإضافة، التى لازمت النسخة المقدمة على المسرح. على رأس أولويات الطائفة الأولى من المترجمين الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من مرتادى المسرح وذلك بتقديم ترجمة تتمتع بعناصر الجذب، ومن بينها ضرورة اختتام المسرحية بنهاية سعيدة، حتى لو تم ذلك على حساب النهاية الأصلية، ووجود مساحات للغناء فى النص المترجم تتيحها الجُمل المسجوعة، والمونولوجات المطولة التى قد تضاف ليؤديها بطل العرض، الذى عادةً ما يكون مغنياً فى الأساس، هذا فضلاً عن تحييد كافة العناصر الثقافية المؤطرة للمسرحية فى لغتها الأصلية, والتى قد تحول دون فهمها من جانب المتلقى المصرى، أو قد تصطدم بأعرافه الاجتماعية، أو الأخلاقية، أو الدينية. غير أن بعضاً من مترجمى هذه الفترة كانوا ينزعون، بالإضافة إلى رغبتهم فى النجاح المادى، إلى تحقيق قدرٍ من القبول من النخبة، لا سيما مع ظهور الصحافة الفنية فى ذلك الوقت بما تمثله من سلطة تكريس أو تهميش.
يبرزالنمط الثانى من نمطى الإنتاج فى عام حاسم فى تاريخ ترجمة المسرح فى مصر، وهو عام 1912. شهد هذا العام نشر عدد من الترجمات المتميزة التى تشى بظهورمواضعات جديدة لترجمة المسرح، ليس بينها مغازلة مرتادى تيار المسرح السائد. يجمع بين هذه الترجمات تحررها من متطلبات مسرح التيار السائد، ومن ثم لم تسعَ إلى إحداث تغييرٍ واضح فى حبكة المسرحية، وفى تفاصيل أحداثها. أزعم أن الترجمات التى شهدها هذا العام أحدثت تغييراً راديكالياً فى حقل إنتاج ترجمة المسرح لسببين رئيسيين، أولهما إرساؤها وتأكيدها على معيار أمانة نقل الأصل، وثانيهما حرصها على سلامة اللغة، وخلوها من بعض الركاكة التى سادت فى الترجمات السابقة. يمكن الإشارة إلى ثلاث ترجمات على الأقل فى هذا السياق، نشرت كلها فى العام نفسه: ترجمة خليل مطران لعطيل الصادرة عن مطبعة المعارف، وترجمتان ليوليوس قيصر، إحداهما لسامى الجريدينى، والأخرى لمحمد حمدى. تكشف المقدمات التى صدَّر بها المترجمون الثلاثة ترجماتهم عن وعيهم بما يحاولون إرساؤه من مواضعات ونمط إنتاج جديدٍ لترجمة المسرح. على الرغم من أن مطران أنجز ترجمته لعطيل للمسرح بناءاً على طلبٍ من ﭽورچ أبيض، إلا أن مطران أنهى ترجمته دون رضوخٍ لمتطلبات سوق المسرح آنذاك, وقد أوضح ذلك فى مقدمته للترجمة التى نشرها فى العام ذاته. يتحدث مطران عن مزيتين أراد أن تجتمعا فى ترجمته: "إحداهما أنها تكون عربية فصيحة لولا الأعلام ولولا تشقيق الكلم على ترتيب المخاطبة بين الفرنجة قديماً وحديثاً، والثانية أنها تمثل أقوال شكسبير حرفاً بحرف ولفظةً بلفظة" . أما محمد حمدى فيُصَدِّر ترجمته ليوليوس قيصر بعبارةٍ موجزةٍ يقول فيها:
هذه ترجمة تكاد تكون حرفية، فلم نترك لفظاً مبهماً أو عبارة أو تشبيهاً أو كناية أو مجازاً إلا عربناه على أصله ولم نحد عن ذلك إلا فى مواطن معدودة كنا نخشى فيها الإبهام أو العجمة، فجاء التعريب بيِّن المنهج مطرد السياق، صورة حقة للوضع الإنجليزى، ندرك منها جلالة مؤلفه ومنشئه، مع ما اتصف به من الحصافة التى لا تساوى والفصاحة التى لا تدانى والقدرة التى لا تسامى والخيال الذى لا يطاول والشاعرية فى بسوقها وسموقها .
يستبدل المترجمون الذين يتبنون نمط الإنتاج المحدود بالولاء لمرتادى المسارح التجارية الولاء للمؤلف الأصلى، وما ينطوى عليه ذلك من عناية بالتفاصيل التيمية، واالجمالية للنص الأصلى. يتبدى لدارس ترجمات شكسبير فى مصر فى الفترة بعد 1912 ظهور ترجمات يؤكد من أنجزوها على أن قيمة الترجمة تكمن فى اقترابها قدر الإمكان من النص الأصلى، والإنصات إلى مقاصد المؤلف، وإمعان النظر فى دقائق أسلوبه، وطريقة سبكه لعباراته. لعل هذا المعيار الجديد من معايير جودة الترجمة هو الذى جعل مترجماً مثل سامى الجريدينى يقرر فى مقدمة ترجمته ليوليوس قيصر الصادرة فى العام ذاته أن تقديم شكسبير مترجماً على خشبة المسرح لا يُجنى منه إلا "لذة المشاهدة الوقتية والسماع السطحى" ، ذلك أن ما نقل من شكسبير إلى العربية لهذا الغرض لم يبقَ منه "إلا اسم الرواية واسماء اشخاصها فى مجمل وقائعها، وما زاد على ذلك فمن عنديات الناقل" . أما البديل الذى انتهجه الجريدينى مع غيره من المترجمين الذين تبنوا نمط الإنتاج المحدود يعبر عنه فى حديثه عن ترجمته ليوليوس قيصر قائلاً: "نقلتها إلى العربية نقلاً بذلت وسعى فى جعله طبق الأصل معنى ومبنى، وقد راجعت أكثر من واحدٍ من شُراح شكسبير" .
وجب التأكيد فى هذا السياق على أن العام 1912 على الرغم من أهميته فى تاريخ ترجمات شكسبير فى مصر، إلا أنه لم يفصل فصلاً تعسفياً بين ممارسات الترجمة قبله وتلك التى شاعت بعده؛ فقبل ذلك العام وبعده كانت هناك بعض الترجمات التى حاولت الجمع بين سمات نمطى الإنتاج المشار إليهما، أى أنها سعت إلى مراكمة رأس المال المادى مع تحقيق قدرٍ من رأس المال الرمزى، وذلك بمخاطبة شريحةٍ معينة من النخبة المثقفة. لعل ترجمة طانيوس عبده تقع ضمن هذه الفئة من الترجمات.
ازدواجية خطاب الترجمة: تباين حاجات مستهلكى المسرح المترجم
تسميةٌ أخرى صاحبت نشوء وتطور حقل ترجمة المسرح فى مصر تلقى بعض الضوء على هذه النوعية من الترجمات التى تحاول الجمع بين سمات نمطى الإنتاج المشار إليهما سابقاً. يصف طانيوس عبده على غلاف ترجمته المنشورة هاملت بأنها "رواية" , وهى التسمية ذاتها التى استخدمها على غلاف ترجمته لروميو وﭽولييت المنشورة عام 1898 بمطبعة المحروسة. لم يكن طانيوس عبده وحده من استخدم هذه التسمية، ذلك أن دال "رواية" شاع تسميةً للمسرحيات – المترجم منها والمؤلف – ربما منذ ستينيات القرن التاسع عشر وحتى تسعينياته حين بدأ يقتصر استخدامه على الجنس الأدبى الذى نعرفه الآن، وذلك بعد أن دارت عجلة ترجمة هذا النوع لتظهر في مطبوعات ومجلات تحمل اسماءًا دالة من قبيل منتخبات الروايات (القاهرة، 1894)، وسلسلة الروايات (القاهرة، 1899)، والروايات الشهرية (1901)، والروايات الجديدة (القاهرة، 1909) . كذلك إذا نظرنا في قائمة الكتب المنشورة في القرن التاسع عشر لوجدنا عناويناً لافتة من قبيل هيلانة الجميلة: رواية تياترية والمنشور عام 1868 في مطبعة بولاق لمؤلف مجهول، و الأربع روايات من نخب التياترات (1889) لمحمد عثمان جلال . يحمل دال "رواية" عدداً من الدلالات التي وجدت طريقها إلى جهاز التفكير الخاص بالقائمين علي إنتاج المسرح في هذه الفترة الباكرة، وعلى رأسهم مترجمى المسرح، ومن ثم كان لها دور كبير في تحديد معالم حقل إنتاج ترجمة المسرح فى مصر في بدايات تشكله. تنطوي اللفظة معجمياً علي دلالتين أساسيتين؛ ف "الرواية" تدل علي قول الشعر من جهة، كما يستخدمها العامة من جهةٍ أخرى للدلالة علي سرد الملاحم والقصص الشعبي بمصاحبة آلة موسيقية شعبية أو غيرها، و"الراوى" هو من يتولى عملية السرد تلك. "الرواية" إذاً تحيل في آن إلى كلٍ من التراث الأدبى المعتمد متمثلاً في الشعر، والفن الشعبي الذي يشغل من الشعر مكان الهامش من المركز، كما تدل في الوقت ذاته علي الفصاحة والعامية. هذا التقاطع بين ما هو مركزي وما هو هامشي وجد طريقه إلى شكل المسرحية – المؤلف منها والمترجم - في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث يجتمع في المسرحية الواحدة الفصاحة والعامية، النوع الأدبى الذي يشغل المركز والأنواع الأخري التي تشغل الهامش. لعل دال "رواية" يحيل إلى تلك الذائقة اللغوية الهجينة التي وسمت النصوص التي كانت تقدم علي المسرح، المؤلف منها والمترجم، والتي استهجنها لاحقاً من تصدوا لدراسة الترجمة للمسرح في بدايات المسرح المصري.
تعزى ازدواجية خطاب الترجمة للمسرح فى مصر خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى تباين شرائح جمهور المسرح فى ذاك الوقت. من ناحيةٍ كان هناك الجمهور الذى تلقى تعليمه فى الكتاتيب والمدارس الدينية، وهذه الشريحة من الجمهور تشكلت ذائقتها اللغوية أساساً من خلال النص القرآنى، وكتب التراث، هذا فضلاً عن المقامات، والشعر. الشريحة الثانية من الجمهور، وهى الأكبر عدداً، ضمت أولئك الذين لم يتلقوا تعليماً على الإطلاق ، أو اكتسبوا أقل القليل منه؛ وبالنسبة لهؤلاء كانت أشكال التسلية الشعبية، لا سيما الغناء، هى عنصر الجذب الرئيسى فى أى عرض مسرحى، هذا فضلاً عن الفواصل الهزلية، أو الفقرات الراقصة. أضيف إلى هاتين الشريحتين شريحة ثالثة من جمهور المسرح، وهى تكاد تكون هامشية، وتتشكل أساساً من أولئك الذين تلقوا تعليمهم فى "مدارس غير دينية، وفقاً لمفاهيم ومناهجٍ تربويةٍ جديدة، ونماذجٍ وقيمٍ أوربية" . تشكلت الذائقة اللغوية لهذه الشريحة من جمهور المسرح من خلال الصحافة الناشئة فى ذلك الوقت، وما أتاحته من ترجماتٍ لقصص وروايات أغلبها عن الفرنسية، حيث إن هذه الترجمات شكلت البديل المناسب لهذه الفئة عن المقامات وكتب التراث التى لم تكن تناسبها. على الرغم من أن هذه الشريحة الاجتماعية لم تكن من القوة بحيث تفرض احتياجاتها على من يترجمون خصيصاً لخشبة المسرح، وذلك بالمقارنة مع الشريحة الثانية من غير المتعلمين مثلاً، إلا أن هذه الشريحة لعبت دوراً ملموساً فى تشكيل ترجمات المسرح التى تنجز خصيصاً للنشر. إن وعى مترجم المسرح فى تلك الفترة بهذه الشرائح المتباينة من مستهلكى المسرح المترجم واحتياجاتهم المختلفة فرض خطاباً ترجمياً تتنازعه سمات متناقضة، جعلت منه هدفاً سهلاً لإدانة المؤرخين.
هاملت يعيش ويغنى: آليات الترجمة
كان مترجمو المسرح الأوائل فى مصر على وعى بأن النصوص التى ينتجونها سيؤديها ممثلون هم فى الأساس مغنون، و سيتلقاها جمهور يجد صعوبةً بالغة فى استقبال عرضٍ مسرحى خالٍ من الغناء. من ثم فإن المترجم الذى كان يتلقى عرضاً بترجمة نصٍ مسرحىٍ لصالح إحدى الفرق فى مصر أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل العشرين كان يدرك ضمناً سمات الترجمة المطلوبة، والتى تتركز فى اثنتين: إنتاج نصٍ بإمكانه جذب أكبر عددٍ ممكن من مرتادى المسرح، حتى لو كان ذلك على حساب النص الأصلى، وخلق مساحات فى نص الترجمة تتيح للممثلين، لا سيما الممثل الأول، استثمار إمكاناتهم الغنائية. كان الغناء مايريده أغلب الجمهور، وما يتقنه أغلب ممثلى المسرح فى ذلك الزمان. اعتمدت الفرق المسرحية فى مصر أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل العشرين اعتماداً مباشراً على الغناء لضمان النجاح المادى، وكانت أهمية الفرق تقاس بما تضمه فى صفوفها من مطربين، ومدى شعبيتهم، خصوصاً المطرب الذى يقوم بالأدوار الأولى فى المسرحيات.
كان الشيخ سلامة حجازى(1852-1917) أكثر المطربين شعبيةً وأوفرهم نفوذاً فى ذلك الزمان، ذلك أن وجوده فى فرقة ما كان يضمن لها نجاحاً جماهيرياً مؤكداً، وانتقاله من فرقة إلى أخرى كان يعيد ترتيب أنصبة الفرق المسرحية من النجاح والفشل. كان صوت الشيخ سلامة وحده قادراً على ملء صالات المسارح، وعندما أصيب بالشلل قرب نهاية حياته، كان يُحمل إلى خشبة المسرح ليؤدى الوصلات والمونولوجات الغنائية، بينما يقوم ممثل آخر بأداء الدور فى المشاهد التمثيلية . كان كل المترجمين الذين يطلب منهم ترجمة نصوص مسرحية يؤديها الشيخ سلامة على المسرح على وعى تام بأن جزءاً أساسياُ من مهمتهم يكمن فى الإستثمار فى المساحات النصية التى تسمح بالغناء، و إضافة مقاطع أخرى قابلة للغناء. يذكر محمد يوسف نجم نقلاً عن فؤاد رشيد أن الشيخ سلامة اضطر تحت ضغطٍ من النقاد الذين طالبوه بمسرحٍ خالٍ من الغناء إلى تمثيل هاملت دون أية وصلات غنائية، فما كان من الجمهور إلا أن ثار عليه عند نهاية المسرحية هاتفاً "عايزين هاملت لسه فصل"، وعلى أثر ذلك اضطر الشيخ سلامة إلى إيقاف عرض المسرحية، ليبحث أثناء ذلك عن طانيوس عبده حتى يضيف مقطعاً آخر إلى المسرحية يصلح للغناء يمكنه أن يفتتح به المسرحية مرة أخرى بعد توقف, ولما لم يجده لجأ إلى أمير الشعراء أحمد شوقى، الذى لبَّى طلبه، وكتب له مقطوعةَ ضمها بعد ذلك محمد صبرى السربونى إلى مجموعة الشوقيات المجهولة تحت عنوان ’على لسان هاملت‘، يقول فيها شوقى:
دهر مصائبه عندي بلا عدد
لم يجن امثالها قبلي علي أحد
عم يخون وأم لا وفاء لها
أم ولكن بلا قلب و لا كبد
جنت علي هموم العيش قاطبة
وقبلها ماجنت أم علي ولد
أمران جديران بالملاحظة فى هذا السياق. الأول أن طانيوس عبده احتفظ بهذا المقطع الذى أضافه أحمد شوقى عندما أقدم على نشر المسرحية، مشيراً فى هامش أسفل الصفحة إلى أن "هذه القصيدة من نظم حضرة الصديق عزتلو أحمد بك شوقى، أمير الشعر وشاعر الأمير"، وهو بذلك أراد الإستثمار فى رأس المال الرمزى الذى يحمله اسم أحمد شوقى، ويضفى به شرعيةً على ما احتوت عليه الترجمة من إضافات على النص فى صورة مقاطع أخرى للغناء، أو تغييرات فى تفاصيل الأحداث. إن قيام طانيوس عبده بنشر الترجمة، والإحتفاظ بالمقطع الذى أضافه شوقى يكشف أيضاً عن ميل لديه إلى أن يكسب لترجمته مكانةً ما ضمن تراث الترجمة المعتمد، وأن يحظى بقبول شريحة المتعلمين والمثقفين من جمهور القراء آنذاك، وإن لم يستطع أن يتخلص من آليات الإنتاج التى انتهجها عند تقديم ترجمته للتمثيل على الخشبة، فقد أبقى على إضافاته على نص شكسبير كما هى. على النقيض من عبده كان هناك من المترجمين الذين عندما أقدموا على نشر ترجماتهم أنكروا آليات الإنتاج واسع النطاق التى كانوا قد اتبعوها عند تقديم ترجماتهم على المسرح. من هؤلاء فرح أنطون (1847-1922) الذى كتب هامشاً على إحدى القصائد المضافة على ترجمته لمسرحية البرج الهائل لألكسندر دوما، والمنشورة عام1899 يقول فيه:
أنشأ للرواية هذه الأبيات..حضرة الشاعر العصرى المجيد إلياس أفندى فياض...أما الأبيات التى تقدمتها...فهى من نظم شاعر المعية السنية حضرة أحمد بك شوقى...ويغتنم المعرب هذه الفرصة لا ليعتذر عن قلة النظم وقلة الألحان فى الرواية، فإنه يرى أن الشعر والغناء لا دخل لهما فى هذا النوع من الروايات، وحسبه حجة على ذلك تجرد الأصل منها...وقد ذكرت تلك الأبيات، وما كان من بابها فى هذه النسخة، مراعاةً لذوق الجمهور أيضاً وإن كان فيها مخالفةً للطبع والوضع .
الملاحظ هنا أيضاً أن أنطون وإن كان أبقى على هذه الإضافات ارضاءاً لذوق الجمهور، إلا أنه جاهر بمعارضته لهذه الممارسة فى الترجمة، وهو بذلك أرهص بمعايير جديدة لترجمة المسرح، سيتأكد رسوخها بعد ذلك بسنوات قليلة. كذلك تعزى مقدرة فرح أنطون على إنكار هذه الممارسة بالمقارنة مع طانيوس عبده إلى ما يملكه من رأس مال رمزى داخل حقل الإنتاج الثقافى بشكل عام مكنه من الجهر برفض هذه الممارسة، حتى لو كان المتورط فيها شاعراً بقامة أحمد شوقى.
كان التغيير الذى أدخله طانيوس عبده على نهاية المسرحية على نحوٍ أثر فى تصنيفها النوعى بوصفها مأساةً جزءاً من ممارسة سائدة فى حقل الترجمة للمسرح فى مصر فى بداياته الأولى. كان كتاب ومترجمو المسرح فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على وعىٍ بأن وصول نصوصهم إلى متلقيها مشروطُ بمدى قدرتهم على مخاطبة الأفقين الاجتماعى والجمالى لهذا المتلقى. أى أن نجاح النص المسرحى المؤلف أو المترجم يتوقف على وعى الكاتب والمترجم بالواقع الاجتماعى للجمهور، وعدم الإصطدام به، ووعيهما بالحد الأدنى من المواضعات االجمالية, ومخزون المرويات التى يمكن أن يتقبلها الجمهور ويتواصل معها. يمكن الإشارة هنا إلى مثالين من البواكير الأولى للمسرح. يشير علي الراعي في كتابه الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري إلى إحدى مسرحيات يعقوب صنوع بعنوان صفصف التى اضطر فيها بعد ضغوط من الجمهور إلى تغيير نهايتها.الشخصية الرئيسية في هذه المسرحية فتاة لعوب تلاطف أكثر من رجل في وقت واحد، وقد رأى صنوع أن أنسب خاتمة لهذه المسرحية هي أن تعاقب هذه الفتاة علي سلوكها بأن يهجرها الجميع فتبقي بلا زوج أو خاطب. إلا أن الجمهور لم ترق له هذه الخاتمة التي تتناقض مع العرف الاجتماعي في ذلك الوقت، والذي يستهجن أن تبقي مثل هذه الفتاة وحيدة، فما كان من الجمهور إلا أن ثار علي صنوع وطالبه بإضافة مشهد ختامي يزوِّج فيه البطلة، وإلا قاطع مسرحه، فاضطر صنوع إلى الرضوخ لهذا المطلب . من ضمانات نجاح نص الترجمة أيضاً صياغته االجمالية المقبولة من جمهور المتلقين، تلك الصياغة التى تنزع عن الترجمة غرابتها وتُقربها إلى ذوق المتلقى. يشير يوسف نجم إلى ترجمة نجيب الحداد لمأساة هرناني ل ﭬيكتور هوجو، والتي نقل فيها الحداد أجواء المسرحية من البيئة الأسبانية إلى البيئة العربية الأندلسية، فعرَّب اسماء الشخصيات بحيث يصبح هرناني حمدان، ويتحول دون كارلوس ملك أسبانيا إلى عبد الرحمن ملك الأندلس، و دونيا سول إلى الأميرة شمس. فضلاً عن تعريب الاسماء وتعريب الإشارات والعادات التاريخية بحيث تلائم البيئة العربية، قام الحداد بتغيير نهاية المسرحية المأساوية التي يموت فيها هرناني (حمدان) منتحراً بالسم إلى نهاية سعيدة يتزوج فيها حمدان من الأميرة شمس . في أحيانٍ كثيرة كان التعديل يحدث علي أيدى صاحب الفرقة، أو الممثلين، فيشير رمسيس عوض مثلاً إلى خبر في جريدة الوطن بتاريخ 10 نوﭬمبر 1915 عن قيام جوق أبيض وحجازي بتمثيل مسرحية شهداء الغرام، وهي ترجمة نجيب الحداد لمسرحية روميو وچولييت، "بشكل جديد يمثل أهم أدوارها حضرة الأستاذ الشيخ سلامة حجازي وتظهر في الفصل الرابع حفلة زفاف چولييت موقعة نغماتها علي الآلات والطرب برئاسة الأستاذ سامي أفندي شوا وفرقته" .
فى هذا السياق يمكن فهم الأسباب التى دفعت مترجمى ذلك الوقت إلى إدخال تعديلات على بناء الحبكة فى النصوص الأصلية، تلك التعديلات التى تشكل آليةً من آليات الإنتاج واسع النطاق. يبدو إذاً أن العرف الاجتماعى المصرى لم يكن ليقبل فى ذلك الوقت أن يموت ذلك الشاب المغدور بعد كل مالقيه من عنت على أيدى عمه ورجالات قصره، وبعد كل ما جازت فيه نفسه من عذابات نفسية جرَّتها عليه أحاديثه مع والده من جانب، ومحاوراته، بل مجاهداته مع نفسه من جانب آخر. هذه النهاية كانت حتماً ستكون صادمةً لعرفٍ اجتماعىٍ لديه تصور معين عن معنى العدل. من ناحية أخرى، تتصادم هذه النهاية مع مخزون الحكايا والقصص الشعبى الذى تربى عليه المصريون فى ذلك الوقت، وهى قصص غالباً ما تنتهى نهاية سعيدة، يفوز فيها البطل الخيِّر بمراده، بينما تجازى جماعة الأشرار عن أفعالها. يمكن القول إن التصور الأخلاقى الكونى عن ماهية العدل تجسد آنذاك جمالياً فى مخزون القصص المتاح، وهو ما لم يكن مقبولاً تجاهله من جانب منتجى الثقافة الرائجة.
مترجمو المسرح الأوائل فى مصر: ملاحظات حول المسار الفكرى والمهنى
لا تكتمل قراءتنا الاجتماع-ثقافية للأداء الترجمى الخاص بمترجمى المسرح الأوائل، ومترجمى شكسبير على وجه التحديد، دون النظر فى مسارهم trajectory الفكرى والمهنى، وهو ما أثر في فاعليتهم داخل حقل ترجمة المسرح، و فرض عليهم خيارات لغوية وجمالية معينة.
يستخدم بورديو مفهوم "المسار" بديلاً عن مفاهيمٍ من قبيل "حياة المؤلف" أو "وعى المؤلف"، وهى مفاهيم طالما استخدمها نقاد الأدب التقليديون فى محاولةٍ منهم لربط العمل الأدبى بالذات التى أبدعته، على نحوٍ يقيدون به معنى العمل الأدبى الذى هم بصدده بحادثٍ فى حياة المؤلف أو بفكرةٍ أو مذهبٍ أو مبدأ يرونه مُشكِّلاً لوعيه، حاكماً لأفعاله، ومُوَلِّداً لأفكاره. يستبدل بورديو بالسكونية التى تنطوى عليها هذه التصورات مفهوم المسار الذى يعرفه بأنه سلسلة المواقع التى يتخيرها ويحتلها الكاتب – أو مُنتِج الثقافة بشكلٍ عام - نفسه عبر مراحل زمنية متتابعة، يطرأ خلالها على الحقل الثقافى الذى يعمل فى إطاره تغيرات متلاحقة . فى هذا الإطار إذاً يصبح المسار الخاص بمترجم الأدب مثلاً هو سلسلة الخيارات التى يتخذها داخل حقل الترجمة الأدبية، والتى تشمل النوع الأدبى الذى يترجم فيه فى لحظةٍ معينة، وانتقاله من نوعٍ أدبى إلى آخر، واختياره لكُتاب بعينهم، كما تشمل استراتيجيات الترجمة التى يتبناها، وتغيرها من لحظةٍ إلى أخرى إما لنضوجٍ مهنىٍ أو رضوخاً لمتطلبات ناشرٍ ما، أو مراعاةً لشفراتٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ أو جماليةٍ طارئة. يتأثر مسارمترجم الأدب – مثله فى ذلك مثل أىٍ من مُنتجى الثقافة فى حقول الإنتاج الثقافى المختلفة – داخل حقل الترجمة الأدبية بمساراته المختلفة داخل الفضاء الاجتماعى الأوسع، ذلك أن انتقال المترجم من طبقة اجتماعيةٍ إلى أخرى بفعل ما يجد من تغيرات اقتصادية قد يؤثر على اختياراته داخل حقل الترجمة الأدبية، وعلى مدى خضوعه لسياسات نشر الترجمة. كذلك الحال مع قناعاته السياسية والأخلاقية، فالكاتب الذى كان يراه بالأمس معبراً عن قناعاته، ومن ثم يعتبره جديراً بالترجمة قد يرى فيه عكس ذلك اليوم. بالقياس أيضاً يمكن الحديث عن مسارٍ لمترجم النصوص المسرحية، وهو يشمل انتقاله من ترجمة نصوص مسرحية توضع على خشبة المسرح إلى ترجمة نصوص مسرحية للنشر، والتغيرات التى تطرأ على اختياره لدار نشر أو فرقة مسرحية يقدم لها ترجمته، كما يشمل التغيرات التى تطرأ على اختياراته من الكُتاب والنصوص التى تعبر عن اتجاهات فنية معينة. لا يمكن فهم مسار أى مُنتجٍ للثقافة, أو المترجم كما فى حالتنا، إلا فى علاقته ببناء الحقل الذى يعمل فى إطاره، وفضاء الممكنات الذى يتيحه فى لحظةٍ من اللحظات، ونوعية رأس المال الذى ينبنى عليه الحقل، رمزياً كان أو اقتصادياً، كما لا يمكن استيعاب حركية هذا المسار دون اعتبارٍ للسلطة الرمزية التى يحوزها مُنتِج الثقافة فى لحظةٍ من اللحظات داخل الحقل، ودون النظر فى حقول إنتاج ثقافى أخرى يعمل فى إطارها؛ فقد يكون مترجم الأدب أو المسرح عاملاً بالصحافة الأدبية، أو أستاذاً بالجامعة، أو مترجماً فى مؤسسة حكومية. إن استكناه اللحظة الاجتماع-ثقافية التى أفرزت منتَج ثقافى ما تستوجب اقتفاء الخطوط الواصلة بينه ومسارات الفرد الذى أنتجه فى علاقاته بالحقول المختلفة التى يتحرك فيها.
الثابت تاريخياً أن النسبة الغالبة من مترجمي المسرح الأوائل، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الفرق والممثلين، كانوا من الشوام الذين وفدوا إلى مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعملوا، بالإضافة إلى الترجمة للمسرح، بترجمة وتأليف الروايات (القصصية)، كما عملوا بالصحافة. أتى هؤلاء إلى مصر وقد درجوا علي معايير وجماليات معينة للترجمة اختلفت إلى حدٍ ما عن معايير الترجمة التي كان رفاعة الطهطاوي قد أرساها وأشاعها في مصر. يشير ساسون سوميخ (1991) إلى وجود نسقين مختلفين لكلٍ من معايير الترجمة السائدة في الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمعايير السائدة في مصر في الفترة ذاتها، وذلك في سياق مقارنته بين ترجمة بطرس البستانى لرواية دانييل ديفو روبنسون كروزو المنشورة في بيروت عام 1861، وترجمة رفاعة الطهطاوي لرواية فنيلون مواقع الأفلاك في وقائع تليماك التي انتهي من ترجمتها وقت نفيه في السودان عام 1851، وإن لم تنشر إلا عام 1867 في بيروت أيضاً. أرسي رفاعة الطهطاوى من خلال ترجمته، كما يشير سوميخ، معاييراً للترجمة translational norms تستلهم السمات الأسلوبية المميزة للكلاسيكية الجديدة neo-classicism، التي سادت كتابات القرن التاسع عشر، ومنها التراكيب المسجوعة، والإكثار من استخدام المترادفات، واقتباس الشعر القديم والمأثورات داخل النص النثري، وعدم التمييز بين لغة الحوار ولغة السرد. علي النقيض من ذلك أرست ترجمة بطرس البستانى ل روبنسون كروزو معاييراً مغايرة للترجمة؛ فعلي الرغم من استخدام التراكيب المسجوعة في لغة السرد، إلا أنها كانت محدودة إجمالاً بالمقارنة مع ما نجده فى لغة تليماك. كما أن لغة السرد عند البستاني تتميز في سماتها بشكل ملحوظ عن لغة الحوار، أضف إلى ذلك إختلاف اللغة التي تتحدثها الشخصيات، فلغة كروزو تختلف عن لغة فريداى، اللتان تختلفان بدورهما عن لغة السرد . أزعم أن المترجمين الشوام الذين نزحوا إلى مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حاولوا التوفيق بين ما درجوا عليه من معايير الترجمة السائدة في بلادهم، وتلك التي كانت سائدة في مصر في ذلك الوقت، وهذه اللغة التوفيقية هى التى جعلت ترجماتهم تبدو وكأنها هجين من اللغة التراثية ولغة الحياة اليومية. من ناحية أخري فإن نظرة علي المسار الذى اتخذه هؤلاء المترجمين وما لعبوه من أدوار داخل المجتمع المصرى وداخل المجتمعات التى أتوا منها تؤكد هذا الميل إلى استخدام لغة الحياة اليومية جنباً إلى جنب لغة الكلاسيكية الجديدة التي كانت سائدة في مصر آنذاك فى كتب المقامات المعروفة وقتذاك. عمل معظم هؤلاء المترجمين بالصحافة، كما أنشأ بعضهم الصحافة الأدبية التي تمثلت في ذلك الوقت في مجلات أسبوعية تنشر الروايات المترجمة مسلسلةً علي حلقات أسبوعية، ونصف شهرية. وكان لنشر الروايات المترجمة مسلسلةً فائدة جمة، إذ أتاح ذلك للمترجمين علاقةً حميمة بجمهور القراء مكنتهم من التعرف بقرب على حاجاتهم، وأذواقهم . يذكر طانيوس عبده فى مقدمة ترجمته لرواية باردليان لميشيل زيفاكو تجربة نشر هذه الترجمة مسلسلةً فى مجلته الأدبية الراوى (وهى غير مجلة الراوى الشهرية التى صدرت فى مصر فى الأول من مارس عام 1888) التى كان قد بدأ فى اصدارها بعد عودته إلى بيروت لفترة فى عام1907و ذلك قبل إعادة نشر الترجمة فى كتاب ؛ يتحدث عبده عن علاقته بجمهور القراء الذى كان ينتظر صدور الحلقة الجديدة من الترجمة بالقول:
أذكر أنى حين بدأت أنشر فى مجلتى الراوى سنة 1907 رواية باردليان كنت أنشر قسماً منها كل نصف شهر، فكان كثيرون من المشتركين لا يطيقون الصبر إلى موعد العدد القادم فيكتبون إلى يسألوننى عن مصير أبطال الرواية حين يكونون فى خطر، حتى إن غير واحدٍ منهم كانوا يسألوننى بالتليفون. وأذكر أنى طبعت منها يومئذ عشرة آلاف نسخة وهذا أبعد حدٍ لطبع الروايات فى ذلك العهد، فنفذت بجملتها قبل أن يمضى ثلاثة أشهر على الفراغ من طبعها. وقد كان لى من ذلك أعظم مشجِّع...فلما نفذت الطبعة الأولى من السلسلة جعل كثيرون من القراء والمكاتب يطلبون إلىَّ إعادة طبعها وأنا أستمهلهم لإنشغالى بطبع الجديد ولكثرة نفقات المشروع حتى أتيح لى العودة إلى مصر .
كان نشر الأدب المترجم في الصحافة لتقديمه إلى جمهورٍ واسعٍ من القراء دافعاً لمترجمى هذه الفترة علي التخفف من اللغة التراثية، لا سيما أن عدداً غير قليلٍ من هؤلاء المترجمين كانوا يملكون الدوريات التى ينشرون فيها ترجماتهم، ومن ثم لم يكن من الوارد أن يقامروا بأرقام التوزيع والأرباح فى سبيل استخدام لغة تراثية لا يهضمها إلا شريحة محدودة من القراء. لم تكن حالة طانيوس عبده هى الحالة الوحيدة، فقد مارس معظم الشوام الذين قدموا إلى مصر فى أواخر القرن التاسع عشر الترجمة والصحافة فى الآن ذاته، مما كان له أعظم الأثر فى اللغة التى استخدموها فى الترجمة. يصف المنفلوطى الشيخ نجيب الحداد، الذى أسهم اسهامات بالغة فى ترجمة المسرح والأدب القصصى فى مصر، كما أنشأ جريدة لسان العرب، وكتب وترجم فى العديد من الصحف الأخرى – يصفه بأنه "مترجم من أقدر المترجمين على الترجمة السهلة الفصيحة السائدة" . كانت الفصحى السهلة السائدة علامةً على اسهامات مترجمى هذه الفترة، ومعياراً من معايير الترجمة لديهم، بل وجزءاً من مشروعهم؛ فى صفحة المقدمةالخاصة بمجلة الراوي يحدث طانيوس عبده قارئه عن المجلة ببضع أبيات منظومة منها:
أرسلت كتابي منظوماَ
خبباً يتدرج كالنثرِ
وجعلت كلامي مفهوماَ
مؤتماً بالشعر العصرى
ونبذت اللفظ المرحوما
فليحي علي أيدى غيرى
وخلاصة ما أبديه لكم
في نثري هذا أو شعرى
أني أخلصت بخدمتكم
فاقرأ عن مشروعي تدرِ
بعد أن يقرر عبده شكل اللغة التى يُخرج بها مجلته فى شبه عقدٍ بينه وقارئه، يأخذ فيه على نفسه أن ينبذ كل مهجورٍ من اللغة مستبدلاً به "العصرى" منها، يواصل حديثه المنظوم إلى قارئه، مطلعاً إياه على محتوى مجلته، مؤكداً له على أنه فى كل مايختار وما يترجم لا يدفعه سوى رغبات ذلك القارئ:
أنشأت مجلتى المثلى
وحبست عليها أوقاتى
سيراً وأحاديثاً تتلى
ما فيها غير روايات
لتكون فكاهة من يقرأ
ونديم الذاهب والآتى
ونقلت بها مايعجبكم
عن أشهر كتاب العصر
واخترت لها مايطربكم
من كل حديث كالخمر
كانت "خدمة"حاجات جمهور جديد من القراء هي "مشروع" طانيوس عبده، ومعه معظم المترجمين الشوام، فقد شهدت الفترة منذ 1881، وطوال العقود الأولي من القرن العشرين، كما يذكر صبرى حافظ (1993)، تزايداً في أعداد المتعلمين الذين تلقوا تعليمهم بعيداً عن المؤسسة الدينية،و الذين أكمل معظمهم تعليمه الجامعي في الجامعة الأهلية التي تأسست عام 1908. هذا الجمهور الجديد لم يكن ليقنع بالجماليات السائدة في أدب نهاية القرن التاسع عشر، وانما كان في حاجة إلى جماليات جديدة، بلغة وحساسية جديدة، وهو ما أثر بدوره علي شكل الترجمة التي أنتجها المترجمون الأوائل، ومنهم طانيوس عبده.
على سبيل الخاتمة....
هذه المحاولة لإعادة قراءة ترجمة هاملت لطانيوس عبده بوضعها في سياقين: حقل المسرح المصري في بدايات تشكله، وحقل الترجمة عموماً في علاقتها بالمجتمع في ذلك الوقت – هذه المحاولة ليست سوي خطوة مبدئية في مشروع بحثي طموح يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ ترجمة مسرح شكسبير، ومآسيه خاصة، في مصر علي نحو يعكس تعقيد ظاهرة الترجمة للمسرح، ومن ثم الحاجة إلى مناهج وزوايا نظر جديدة إلى الترجمة. ولعل هذا المشروع يدفعه حلم بأن يثمر هذا الجهد البحثى جهوداً متتالية تنتظمها مؤسسة بحثية تعنى باستحياء ذاكرة الترجمة، فتبعث الحياة فيما ذوى منها، وتجدد النظر فيما ألفناه منها بالاعتياد، وتجعلنا أكثر وعياً بما فعلناه بالترجمة، وما فعلته هى بنا، فنستعيد جزءاً حيوياً من سيرتنا.
مانشسترفي 18 أغسطس 2005