ابتسامة دائمة
والدي هاشمُ عبدُ اللهِ طبيبٌ مشهورٌ في مدينةِ دمشقَ، ليسَ بسببِ براعَتِهِ في الطِّبِّ فحسب، إنَّما لأنَّهُ يخصِّصُ يومين في الأسبوعِ لمعالجَةِ الفقراءِ مجّاناً، إنَّه مبعثُ فخري واعتزازي، لكنْ لطَالما كانَ يثيرُ فضولِيَ جوابُه المعتادُ لأيٍّ شخصٍ يسألُهُ عنِ اهتمامِهِ الأوَّلِ في الحياةِ أَلا وهُوَ: "شراءُ ابتسامةٍ دائمةٍ لوجهِ أُمّيّ" على الرَّغمِ منْ أنَّ جدَّتي العجوزُ لا تغيبُ الابتسامةُ عن وجهِهَا أبداً. في أحدِ الأَيَّامِ طفحَ الفضولُ أرجاءَ نفسي، فسألتُهُ عن سرِّ جملَتهِ المعتادةِ، توقَّعتُ أنْ يتذرَّعَ بكثرَةِ مشاغِلِه، لكنُّهُ حطّمَ توقُّعَاتي، وأَجلسَني في أحضانِهِ يربِّتُ بحنَانهِ المعهودِ على رأسِي، يسرحُ بعينيه إلى ماضٍ بعيدٍ قائلاً بصوتٍ رخيمٍ دافئٍ:
في السَّابعةِ من عُمري، مشيتُ متشبِّثاً بيدِ أُمِّيّ خوفاً من زَحامِ الشَّارعِ في السُّوقِ، تكسُو ملامحَ وجهي علاماتُ الحزنِ، بينما عيناي تسترقانِ النَّظرَ إلى واجهاتِ المحلَّاتِ الَّتي تستعرضُ أشهى الحلويَّاتِ، أَحسَسْتُ بغصَّةِ ندمٍ تكادُ تفتكُ بحنجرتي لأَنَّني رافقْتُها. حيثُ كانَ البُؤسُ مخيِّماً على نفسِي منذُ أيَّامٍ، بعدَ أنْ رفضتُ دعوةَ صَديقِي كريم لحُضُورِ عيدِ ميلادِهِ الَّذي لا يفوِّتُ والداهُ الاحتفَاءَ بِهِ كُلَّ عَامٍ، فهُما يُجاهدانٍ لِيَجعَلا ولدهُمَا مبتهِجاً وسطَ حفلٍ يضمُّ مَا لَذَّ وَطابَ منَ المَأكولاتِ، ومَا غَلا ثمَنُهُ منَ الهَدايا والثيابٍ. أطرَقْتُ أَرضَاً أتفحَّصُ مقدِّمَةَ حذائِيَ المهترئة، وابتلعتُ لُعابي بصعوبةٍ لأَمنعَ دموعي منَ الانسكابِ. فقدْ أجبرَتْني أُمِّيّ علَى مُرافَقَتِها إلى الطَّبيبِ بعدَ أنْ اقترَضَتْ مبلَغاً منَ المَالِ منْ جَارتِنا، لتتخلَّصَ من أَوجَاعِها الَّتي لَا تَهدَأُ ليلةً واحدةً . حينَهَا سَألتُ نفسي بحسْرَةٍ :لمَاذا لَمْ أحْظَ بعَائلةٍ مُترفةٍ سَعيدةٍ كَعَائلةِ كَريم؟ لِمَ مَاتَ أبي، وتَركَنا نُعَاني قَسوةَ هَذا الفَقرِ؟ لِمَ تلخَّصَتْ طُفولَتي بالعَيش مَعَ أُمٍّ كَئيبةٍ قلَّمَا أجِدُ على وَجهِهَا ابتسامةً؟ أَفقتُ مِن شُرودِي عَلى صَوتِ أُمِّي وَهِيَ تَحثُّني عَلى الدُّخُولِ قَبلها إلَى فُرنٍ كبيرٍ، تَفوحُ رَوائِحُ المعجَّناتِ الشَّهيةِ في أرجَائِهِ. استَولَى عليَّ الذُّهولُ وَأَنا أُشَاهِدُها تَدفعُ ثَمنَ عُلبةٍ كرتونيَّةٍ مليئةٍ بقطَعِ الحَلوى الَّتي أُحِبُّها، ونَاولَتْني العُلبَةَ. سَحَبتني منْ يَدي إِلى الخَارجِ مُتجَاهِلةً ذُهولي، وأَخذتْ تَشُقُّ زَحَامَ المَارَّةِ دُونَ أَنْ تُجيبَني، تَركَتني أَتَخبَّطُ بحَيرَتي. بعدَ مسيرِ عَشْرِ دَقائِقَ ، دَلفَتْ إِحِدى المَحالِّ الَّتي تَعرضُ واجهاتُها الأَحذيةَ، وابتَاعَتْ لي حذاءً جديداً، جَعلَ هَذا المُوقفُ أنفاسي تتلاحقُ، ولمْ تشفِ غليلَ حَيرَتي واستِغرابي إٍلَّا بعدَ أنْ وصَلنا إلى البيتِ، عندَها رَأيتُ ابتسامَةً رائعَةً تَرتَسمُ عَلى وجْهِها، لَم أَرَها منْذُ وقتٍ طويلٍ، كانتِ ابتسَامَةً تَنُمُّ عنْ سعادةٍ وارتياحٍ ، وَقالتْ لي بعدَ أنْ أحَاطتْني بذِراعَيْها: كانتْ آلامِي تَتفاقَمُ كُلَّمَا شَعرتُ بأَلمِ حِرمَانِكَ مِمَّا تَشتهي يَا بُنيَّ
أخَذتْ شَهيقاً، وتابعتْ: انظرْ يَا هَاشمُ ، لقدْ أَصبحتُ في أَحسنِ حَالٍ .
صَمتَ أَبي لِبُرهَةٍ، لقدْ تكهَّنتُ أنَّ سببَ صَمتهِ يعودُ إلَى امتلاءِ عينيهِ بالدُّموعِ، تَابعَ حديْثهُ مُحاولاً أنْ يتَماسَكَ: صَارَ هَدفي منذُ ذلِكَ اليومِ أنْ أشتريَ لأُمِّي ابتسَامَةً تدُومُ أبداً بعدَ أنْ حفرتْ ابتسامَتُها آثاراً لا تُمحى في أعْمَاقي، فهِيَ اشترَتْ لِي سَعادتي بدموعِ قَهرِهَا. وعَاتبتُ نفسي أَيَّاماً كثيرةً لأنَّني قارنْتُها بغيرِهَا منَ الأُمَّهاتِ، وَحمَّلتُها وأبي مسؤوليَّةَ فقرِنا، وسوءَ أحوالِنا، كَالكثيرِ مِنْ أبناءِ هَذا الجيلِ الَّذينَ يتوقُونَ لينعَموا بالرَّاحةِ وَالرَّفاهيَةِ على أكتَافِ وَكواهِلِ الوالدينِ. فَالإنسانُ يَا ابنتي يجبُ عليهِ أنْ يسعَى ليَصنعَ غَدَهُ بِشكلٍ أفضلَ، وأَكبرُ وصْمةِ عارٍ يقترفُها أَلَّا يمتلكَ إِنجازاتٍ يفخرُ بهَا، ويكتفي بمَا أَنجزَهُ الآبَاءُ والأَجدادُ.
عانقتُ والدي، ولثَمتُهُ على جَبينهِ بحرارةٍ، لقْد زادَ فخري بِه ليسَ كأبٍ وطبيبٍ فقط، وإنَّما كإنسانٍ، ورُغم ذلكَ حفَّزنِي كلَامُهُ كَي أَجتهدَ أكثرَ، وَأُحاولَ بناءَ مستقبلي لأشتري لَهُ ولأُمِّيّ سعادةً ترسُمُ ابتسامَةً دائمةً على وجْهَيْهِمَا.
= انتهت =