الجمعة ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم هيفاء بيطار

يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش

يكفي أن يحبك قلبٌ واحدٌ، هذا ماكانت تردده في غرف روحها العميقة جداً، لصغيرها الأبله ذي السنوات الأربع، وهي تحتضنه في عيادة طبيب الأسنان، وتمسح لعابه الذي يسيل من فمه المشتور. كانت لاتستطيع مواجهة نظرات الناس الوقحة والصريحة المحدقة إلى صغيرها المعتوه، الذي يثير الدهشة والسخرية والتعليقات الهامسة وأحياناً المسموعة. تتحولُ النظرات لطعنةٍ عميقة في قلبها المتضخم بحب هذا الصغير المسكين البريء من جنونه وتخلفه.

أفلت صغيرها من ذراعيها المتصالبين أمام صدره، واتجه بخطوات متعثرة، لكأن مفاصله متخلعة صوب طفل صغير يماثله في العمر، وقف أمامه وهمهم بصوتٍ اجتهد أن يجعله كلمات لكنه كان أشبه بالجعير، أجفل الطفل السوي والتجأ إلى حضن أمه صارخاً بجزع: ماما، ماما أبعدي هذا الطفل البشع عني.

طمأنت أم الطفل السوي صغيرها قائلة وهي تربت على كتفه: لاتخف، لاتخف، لن يؤذيك.
قامت الأم ذات القلب المطعون بحربة منذ أربع سنوات، تعيد صغيرها المجنون إلى أسر ذراعيها، تبتلع دموعاً تعوّدت طعمها المر وتتساءل في سرها: لماذا تأخر الطبيب؟ أما كان قد حدد لها موعداً تمام الساعة الخامسة والنصف؟

ركنَ المجنون الصغير بين ذراعي أمه، لكنه أخذ يصدر همهمات وحركات عشوائية لا إرادية من أطرافه، فيما أمه تدفن وجهها في شعره الأسود الكثيف هاربة من حصار النظرات.
لم يخطر لها يوماً أن تكون أماً لطفل مشوهٍ، متخلف ومجنون كما شخص له الأطباء. اللعنة على الأطباء. كم تكرههم، ما ابنها إلا ضحية لأخطائهم وللظروف، هذا ماتؤمن به. ولدته طبيعياً، سمعت صراخه الأليم وهم يفصلونه عنها، ضمته بحنان إلى صدرها وشعرت كيف تفجّر الحب فجأة من صدرها كانفجار خزان كبير.

لسوء حظه كان اليرقان الذي أصابه بعد أيام من ولادته شديداً صبغه بالبرتقالي الداكن، كان يجب نقله فوراً إلى الحاضنة، لكن الحاضنات الثلاث في المشفى كانت معطوبة. وقد رأتها بنفسها كيف تسرح فيها الصراصير الصغيرة، صرخت بقرف: صراصير في حاضنة للأطفال؟
ردت الممرضة بلا مبالاة: إنها معطلة منذ أكثر من عامين.
أخذ الصغير يختلج بقوة، رامياً ذارعيه خارج جسده، كأنه يتخلص من شيء ثقيل يرزح على صدره، وتدور عيناه في محجريهما إلى الوراء، لتتحولا إلى بياض تام. كان دماغه قد تأذى بشدة حين عثروا أخيراً على حاضنة في مدينة تبعد ساعتين ونصفاً عن مدينة الوليد.
انهارت الأم حين أكد لها طبيب الأعصاب أن دماغ ابنها قد تأذى أذية كبيرة لعدم إدخاله الحاضنة... صرخت ملتاعة وهي تتلوى ألماً كدجاجة مذبوحة: والله نحن نعيش على كف عفريت، نعيش في هذه الحياة الحقيرة بقدرة قادر.

لم يخطر لها في يوم من الأيام أن تكون أماً لمعتوه، المجانين الذين كانت تصادفهم في الشارع لم تكن تعيرهم أي اهتمام، لكأنهم ليسوا بشراً، إلا إذا أجبرها المجنون أن تلتفت إليه بسبب تصرفاته المضحكة والخرقاء، فكيف وقد تحولت إلى أم لمجنون صغير، لمعتوه برئ من علته.
الأسرة كلها تمنّت للصغير الموت، وهو لم يتجاوز الشهر من عمره، زوجها الذي كانت تحكي لصديقاتها عن أن أروع صفة لديه: الحنان، كان يصرخ متألماً: لاأريد ولداً مشوهاً. ليته يموت، ليته يموت. كانت تخاطبه هامسة كأنها تحدث نفسها: لكنك والده! فيرمقه بألم وغيظ ويقول: لكن انظري إليه، أهذا طفل!

فتضمه بحنان شديد إلى صدرها، كأنها تتمنى لو تعيده إلى رحمها، وتسكب على يديه دموعاً غزيرة وهي تبوح له وحده بأنها تحبه بجنون، وبأنها لاتستطيع أن تتمنى موته أبداً.
طوال شهور نسيت أخاه الأكبر -صار الصغير المشوه هاجسها، لم يمش حتى السنتين والنصف، ولم يتعلم النطق. الأب تعايش مع الجرح بأنجح وسيلة: تجاهَلَهُ، أهمله ونفاه إلى الضواحي القصية من حياته، صاباً كل اهتمامه على ولده السليم.
وحدها الأم كانت تشتري للمعتوه ثياب العيد، ولا تمل من غسل ملابسه التي يلوثها عامداً مذعناً لشياطين تتلبس روحه، تأمره أن يعفّر نفسه في التراب وأن يسكب محتويات صحنه على ثيابه ورأسه. كانت تضرب ابنها السليم حين يضرب أخاه المجنون، وتهدده بحرمانه من حلوياتها التي كانت تحضرها خصيصاً للمجنون الصغير.
أجهدت نفسها في تعليمه الكلام، رغم أن كل الأطباء نصحوها أن لافائدة في جعله ينطق، لكنها توصلت مع الأيام إلى جعله يهمهم، وكانت وحدها قادرة على ترجمة تلك الهمهمة. كان زوجها يتضايق من شدة اهتمامها بالصغير المتخلف، ويشاجرها لإهمالها أسرتها، مؤكداً لها أن الرحمة الحقيقية للجميع أن يموت هذا المسخ.
لم تكن تستطيع تخيل خلو حياتها منه، إنها تحبه بجنون، تحسه قطعة منها، هذا المعتوه الصغير، الذي يفاجئها في لحظات خاطفة كيف يرنو إليها بعينين تفيضان وجداً. ما أجمل عينيه قبل أن يغفو، ماكان ينام إلا وهو يطيل التحديق إلى وجهها، فتحس بالتحوّل البطيء والتدريجي لملامح وجهها، تحس بالحنان يرفرف حولها كفراشاتٍ من نور.
ذات يوم سالت دموعه من شدة تحديقه إلى وجهها، وحين كانت تبتعد كان يُصدر أصواتاً متألمة تضطرها للعودة إليه. وحدها كانت دنياه، دنياه الغنية بالحب والتي لم يستطع ذوو العقول المحدودة المتباهون بصحتهم العقلية أن يدركوا كنه حب المجانين للعالم.
لم يصدقها أحد من أفراد أسرتها حين كانت تصف لهم حساسية الصغير العالية ورقته وذكاءه الخاص.. ذات يوم حين كسر المزهرية من الكريستال، ضربه والده بقسوة وهو يهزه من كتفيه النحيلتين قائلاً: الله يلعن الساعة التي شرّفت بها إلى الدنيا، والله لقد جعلت حياتنا جحيماً، لكني لا ألومك، بل ألوم التي تفوقك جنوناً : أمك.

يومها التجأ بخطواته المتعثرة، ومشيته المخلّعة إلى حضن أمه، رمى نفسه في حضنها وهو يرتعش خوفاً كجرو صغير أفلت لتوه من انقضاض وحش مفترس عليه.
كان يبكي ويهمهم بأصوات مخنوقة مبهمة أشبه بالخوار، واللعاب يسيل بغزارة من فمه، ضمته إلى صدرها، رشفت دموعه بشفتيها، مسحت لعابه بكم فستانها، هدهدته حتى غفا.. كانت تتجاهل نظرات زوجها الغاضبة، وحين لم يعد يطيق صبراً هزّها من كتفها قائلاً: ماعادت عيشتنا عيشة، أفكر أن ألحقه بمدرسة للمتخلفين عقلياً.
 صرخت: لا، لن أسمح بذلك مادمت موجودة.
لكنه خرّب نصف أغراض المنزل، وهو لم يكمل الرابعة من عمره بعد.
قالت باكية: لا، أرجوك، يستحيل أن يعيش في مصحٍ للمعوقين.
صرخ: لماذا؟
لم تستطع أن تجيب في الحال، لكنها تمكنت بعد لحظات من جمع شتات نفسها، قالت وهي تحس أنها تسيل حباً كماءٍ مقطر يغسل الصغير: لأنني أحبه أكثر من أي شيء في الدنيا. انطفأ الرجل، وهلة. شعر أن كلماتها خدّرته كالبخور. كان يشعر بالخدر كلما استنشق بعمق رائحة البخور. هل كانت كلمات زوجته متشكلة من بخار روحها المتألمة؟
صارت فائقة الرقة مع مجانين الشوارع، تتساءل بشفقة: ماذنبهم؟
كانت تفكر طويلاً بمنطق جدتها في تفسير وجوه البشر المشوهين والمتخلفين: لكي يتمجد اسم الله. لم تكن تقبل هذا المنطق أبداً، ترد بسخطٍ على جدتها: لكن الله لايحتاج كي يتمجد اسمه أن يخلق بشراً غير أسوياء يتعذبون ويعذبون أسرهم معهم. لكن الجدة تصر على تفسيرها، وتستشهد بآيات من الإنجيل، حين سأل أحدهم يسوع المسيح: أي ذنب اقترفه هذا المسكين المسكون بالشياطين، حتى يكون مجنوناً؟
قال المسيح: لا لذنب اقترفه، بل ليتمجد اسم الله.

انفتح باب غرفة الانتظار فجأة، أطلَّ الطبيب، نظر في ساعته معتذراً لها قائلاً: أنا آسف، لم أتوقع أن حالة السيدة معقدة هكذا.
كانت سيدة مفرطة الأناقة، تخرج من غرفة الفحص، تضغط قطعة من القطن بين فكيها، وحين لمحت الطفل شهقت ورسمت بآلية علامة الصليب على صدرها. تحفزت الأم وصفعتها بقوة بخيالها، لكنها حملت الصغير ولحقت بالطبيب إلى غرفة المعاينة.

كان يدير لها ظهره، يغسل أدواته، ويقذفها في صينية معدنية بجانب المغسلة قال لها: خير، هل عاد الضرس نفسه يؤلمك؟
قالت: أقصدك هذه المرة لأجل الصغير.

تعوّدت على نصال الألم تنهالُ بلا رحمة مخترقة قلبها، كلهم يذهلون حين تعتني بابنها المعتوه، كانت تصرخ أحياناً، لكنه روح، روح.
كانت لهجته تعني تحديداً: هل يستأهل هذا المسخ عنايتك؟

لم يسمح المعتوه الصغير للطبيب بفحصه، إلا وهو في أحضان أمه، أخذ وجه الطبيب يزداد قتامة وهو يمعن في جوف فم الصغير، قال للأم بعد أن انتهى من فحصه: تشوه شديد في الفكين والأسنان، الحالة صعبة جداً، ومكلفة للغاية أرى أنه من الجنون التفكير بتصحيح تشوه فظيع كهذا..
سألت وكأنها لم تسمع كلامه: ما الكلفة يادكتور؟

حدّق الطبيب إلى وجه المتيمة حباً وقال: الكلفة كبيرة، لو أردتِ أحسبها لك. لم يكمل لأن بقايا وجدان ذكرته أنها أمْ.
قالت: المال لايهم، سأتدبر الأمر.

رفع الطبيب كتفيه لامبالياً وقال: كما تشائين، لكن من واجبي أن أقول لك حرام هدر المال.

خرجت من عيادة الطبيب تحمل ابنها، كانت ذراعه اليسرى تحيط بعنقها وتعبث بشعرها، وذراعه اليمنى نصف المشلولة تنسدل مرتخية على صدرها. كان حاجز صدره النحيل ينقل إلى صدرها إيقاع دقات قلبه، تناغم إيقاع القلبين مع إيقاع خطواتها وعَتْ بعمق كيف يتوحد قدرهما بالحب، الحب صليب، صليب جميل. انتظم إيقاع القلبين وطغى على ضجيج الشارع وصوت المذياع الملعلع. تحوّل الإيقاع إلى كلمات مبهمة أخذت تزداد وضوحاً مع تسارع خطواتها. كان قلبها يغني بسرور باكٍ: يكفي أن يحبك قلب واحد كي تعيش. ياصغيري البريء، ياطفلي الرائع.

توقفت عند إشارة المرور. تنبهت إلى أنه أغفى على كتفها، قبّلت وجنته المنداة بلعابه، أحست أنها ترشف عسلاً. دمعت عيناها وهي تتمنى له أحلاماً سعيدة.

من مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم صدرت عن اتحاد الكتاب العرب عام 1999


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى