نجــــم مـــن نحـــاس
كــان نجم صالونات أدبية في عقده السادس، أنيقاً، سخياً على كل جديد في عالم الأدب والفكر والفن، يبحث عن اللوحات القيمة ليقتنيها، يشتري كتباً ومراجع نادرة. كان فخوراً بمكتبته وقد جلّد كل كتبه تجليداً فنياً أنيقاً وبلون موحد، البني الداكن....
كان كالقبطان الماهر، يدير الحديث مع أشخاص متناقضين متنافرين، فيقيم توازناً بين تنافرهم ويبدو كأنه يصالحهم، وكان دائم الحديث عن مواهبه الأصلية والمخزونة في أعماقه كالدرر النادرة.
لا أنكر أنه استوقفني واحتل مساحة واسعة من تفكيري، وأثار تساؤلات عديدة في نفسي. لم يكن مفهوماً تماماً، شيء ما في حياته لم يكن يقنعني، ترى ما هو؟! لم أكن أعرف سبب إحساسي، ورغم كونه شديد اللباقة معي، يهتم بكل كلمة أكتبها، ينقدها، ويوجهني، ويقول دوماً: سأُطلقك في عالم الأدب، سأكون وراء نجاحك، ورغم أن كلامه هذا لم يكن يرضي غروري فقط، بل يتخمه ويشبعه لوقت طويل، إلا أنني كنت متشككة، وكنت أخجل من شكي وألوم نفسي على مشاعر الخيانة تلك...
كان مرسوماً بدقة لا أستطيع أن آخذ عليه أي مأخذ، في ثقافته وتعامله مع الناس ولباقته وشغفه بالقراءة، ونقده وتحليلاته التي تنم عن ذكاء وسعة اطلاع، لكني كنت أحسه كالممثل الناجح الذي يتقن دوره بدقة، ويبدع في الأداء، ولكن كيف هي الشخصية الحقيقية، لمؤدي الدور -للممثل-؟ لا أعرف تماماً لماذا هذا الإحساس الخائن تجاهه، ما كان ينهزم أمام توبيخي المستمر له بل كان يزداد إصراراً وتمرداً على صحة آرائه....
بعد انقضاء فترة الألفة بيننا، وكنت أعتبره أخاً وصديقاً، وموجهاً لي بحكم سنه وثقافته الواسعة والكتب القيمة التي كان يرفدني بها، صرت أتجرأ وأسأله لماذا لا يكتب؟ ولا ينشر ، مع أنه ذكر لي أنه في بداية شبابه كانت له محاولات رائعة في الكتابة، وأن اسمه كان يكتب بجوار أسماء كتاب صاروا مشهورين الآن، وحصدوا جوائز... وكنت ألّح مندهشة وأسأله: لماذا لم تكمل وكل السبل مفتوحة أمامك؟ ألا يكفي أنك لا تعاني أية أزمات مادية، وأسرية، فزوجتك امرأة عاقلة متفهمة، وأولادك ناجحون، وأنت تتحدث عن الجواهر المخزونة في أعماقك، فلم لا تخرجها إلى السطح، وكان يتململ في بزته الأنيقة ناثراً عطره الفخم في الجو حوله ويقول مؤكداً:
– أوه مستوى ما أكتبه مختلف، أرفع من كل ما يكتب حالياً.
فأصر على تأكيدي: إذاً يجب أن تكتب، لنقرأ الأفضل والأمثل، لنتتلمذ على يديك.
فيبتسم كما يبتسم والد من تصرف أحمق لابنه الصغير ويقول: ولكن كتاباتي جريئة جداً، ناقدة إنها كالضوء الساطع تبهر العيون.
فأقول وأنا مصممة على أن أصل إلى قناعة راسخة: إذاً هل تخشى الرقابة؟!
فيرد وهو ينفث دخان غليونه: نعم، إلى حد ما.
وأقول: ولكن ألا تلاحظ أن هناك كثيراً من القصص والمقالات التي تنتقد واقعنا بجرأة وتسعى لتطويره نحو الأفضل.
– أجل، لكن كتاباتي تفوقها كثيراً، كثيراً جداً.
– ولكن حرام أن تدفن جواهر ثمينة في أعماقك، ولا تظهرها للناس، ألا يمكنك أن تصوغها بأسلوب ألطف مثلاً، على نحو يمكن أن ترضى عنه الرقابة.
فيرد من عليائه: ولكنك لا تستطيعين تخيل مستوى كتاباتي، إنها لا تشبه أية كتابة، إنها نسيج وحدها، كما أن جملي عميقة كثيفة، ستحتاجين وقتاً طويلاً لفهمها وللغوص في أعماقها السحيقة، وأحب أن أنوه لك بأنني كثيراً ما ألجأ للرمز، فهذا يضيف سحراً على الكتابة، كما أنه يوصل أهدافي وغاياتي للناس بتأثير أكبر.
وأقول وأنا مصممة على أن أصل معه لنتيجة تقنعني، بعد أن آمنت بحقيقة جواهره التي صرت أتحسر عليها أكثر منه: لكن حرام، يجب أن تتواصل مع الناس، غير معقول أن تدفن جواهرك هكذا.
كان يبتسم ويقول لي: لا يهم يكفي أن أكتب لنفسي.
وأؤكد بحماسة الشباب وأقول: لا، الكتابة رسالة، وقضية، والكاتب يجب أن يعبر عن هموم الناس ومشاكلهم، ويدلهم على الطريق بكتابته.
وبعد إلحاحي اللجوج، قرر أن يعطيني بعض درره، صفحات قليلة مكتوبة بخط يده الجميل المنمق وأحسست بغبطة عارمة، أخيراً سأقرأ فكراً مميزاً وأدباً لا مثيل له، سأطلع على جواهره الثمينة المخزونة.
أعطاني ثلاث صفحات، ووجدتني أقفل الباب، وأجلس لأقرأها بقدسية، وحواسي كلها متحفزة ومتنبهة، ووبخت نفسي لأنني لم أفهم شيئاً، وقد أنهيت الصفحة الأولى كلها، وتساءلت بذهول ما هذا الذي أقرؤه، عناكب، وسحالي، وأفاع وعقارب، وصراصير، وجرذان وفئران، كلمات غريبة نهش وافتراس وابتلاع واقتناص، أين أنا؟ هل أقرأ في علم الحيوان وبالذات قسم زواحف الصحراء، وتذكرت كلامه أن كتابته رمزية، قلت حسناً: اعصري مخك يا فتاة وركزي، أين أنت من رجل مثله واسع الاطلاع، لم يترك كتاباً إلا قرأه، وناقش به، لأقرأ مجدداً صفحاته وبتركيز أكبر، وقرأت الصفحة الأولى دون أن أحقق فهماً أكثر، وقرأت الصفحة الثانية التي توالدت فيها العناكب والأفاعي، وزحفت الصراصير أسراباً، وطلع سرب الجراد ليلتهم البساتين الخضراء، وخرجت الأفاعي من أوكارها لتلتهم الأرانب والدجاج والصيصان.
وما كدت أصل إلى نهاية الصفحة الثالثة حتى أحسست برعشة قوية تهز جسدي رعباً من الزواحف، حتى خطر لي أن علي أن أسرع إلى المستشفى ليعطوني لقاحاً مضاداً لسم العقارب والأفاعي، وأخذت أجيل النظر بحذر في زوايا الغرفة عساني أجد عقرباً أو صرصاراً، أهب لقتله قبل أن يتكاثر ويصير ألف صرصار أو ألف عقرب تهم بافتراسي، ورميت الصفحات جانباً وضغطت على صدغي بيدي وأنا أغمض عيني بشدة وأتساءل بخيبة: أهذه هي الجواهر المخزونة، والرموز المبدعة؟ هل أنا تائهة في صحراء مرعبة، أم أقرأ أدباً مميزاً؟!
وأعدت طي صفحاته الأنيقة، وأعدتها إلى ظرفها، وأنا أرجو لها الراحة الأبدية فيه، وحمدت الله على أن صاحبها لا يجدها أهلاً للنشر لأنها فوق مستوى القراء بكثير!!.