الثلاثاء ١٤ آذار (مارس) ٢٠١٧
بقلم حسن عبادي

يعدو بساق واحدة

قرأتُ رواية "يعدو بساق واحدة" للكاتب الفلسطيني سامح خضر، الصّادرة عن مؤسسّة "الأهلية" للنشر والتوزيع الأردنيّة وهي تحوي في طيّاتها 270 صفحة، لوحة الغلاف الرائعة للفنان الدانماركي ماريو ماغن، أهداها إلى أبيه سبَب عودتِه وإلى كل هؤلاء الذين ما زالوا يحلمون أن تطأ أقدامهم ... هنا.

سامح خضر روائي فلسطيني من مواليد القاهرة لأب فلسطيني وأم مصرية، يشغل حاليا مديرًا لمتحف محمود درويش في مدينة رام الله وصدرت له لاحقًا رواية أخرى بعنوان "الموتى لا ينتحرون".

إنها رواية تُصوّر حالة عائد فلسطيني، ابن للاجئ لم يُحَضّر للعودة التي حلم بها ليل نهار ليصطدم بواقع جديد غير مهيأ لاستيعابه وبدون الجهوزيّة البُنيوية لتخفيف حدّة هذه الصدمة.

العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين لا تقتصر على العودة للمكان فحسب، فبعد العودة للوطن تبدأ رحلة البحث عن الهوية، وهذا ما حاول سامح وصفه في روايته، حين يتساءل قاسم – بطل الرواية: "لماذا عدنا؟ لا أخفيك أن مفهوم الوطن لدى المغترب أفضل كثيرا منه لدى المقيم فيه، كان الوطن بالنسبة لي جميلا حد المثالية، والآن صار حبي له مضطربا"!

قاسم العائد الى غزة المحاصرة والسجن، الغيتو، الاقتصادي والاجتماعي والجغرافي، التي تعاني من ألتكلّس الفكري ومفارقاتها بين فلّاح ومدني، بدوي ولاجئ، مواطن وعائد، ناهيك عن حروباتها الدينية، يحب نسرين و"يهرب" إلى رام الله بدل الهجرة إلى كندا مع صديقه عبد الرحيم ليتحطم حلمه في ظل الانتفاضة الثانية عند اصطدامه بالتشرذمات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافية التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني.

يصوّر سامح المعاناة التي يعيشها الفلسطينيّ المُقيم والعائد ويقول إنها واحدة، ولا زالت الهّويّات الصغيرة والضيّقة – بل القاتلة كما سمّاها أمين معلوف- هي: القرويّ، المدنيّ، اللاجئ، الغريب، العائد تجبره على فكرة الرحيل فيكتب : "الرحيل هو الموت دون قبر، اُنظر إلى الراحلين، هم يَتركون كلّ شيء ويذهبون في طريقهم دون أن يأخذوا معهم سوى الذكريات، والذكريات هنا قد تكون داء الراحل الذي لا شفاء منه، الرحيل مرادف الموت، فالموتى أيضًا يتركون مُقتنياتهم ويرحلون بلا شيء، الرحيل يوجع كما يوجع الموت، ربّما لا يتعذب الميت، ولكن الراحل يتعذب كلّ يوم وحيدًا، يتعذب بالذكرى، ويتعذب بالحنين".(ص89).

يذكرني سامح ببطل رواية "حصرم الجنة" لعاطف أبو سيف الذي يحلم باللحظة التي ستخفق فيها أجنحته فوق بحر غزة فالحلم المشترك هو الهجرة والرحيل إلى أي مكان.

بعد ذهاب قاسم إلى رام الله يتغير عليه المكان وتتوالى الأحداث، وأهم حدث هو الانتفاضة الثانية، فلم نعد نسمع بعائلة أبو قاسم في الرواية، حتى أنه لم يشاطرهم أفكاره ولا يعلم عنهم الكثير، ومضت سنوات الانتفاضة دون أي ذكر للعائلة في غزة، أو حتى مكالمة هاتفية من أو إلى والدته المصرية ليشاطرها مشاعره كمهاجرة مثله لتكن قطيعة مطلقة.

يشتغل قاسم الجامعي معلما/عاملا في المطاعم/بائعا في الأسواق/تنظيف مدخل العمارة والدرج وغيرها تحت الخناق الاجتماعي والاقتصادي بدون أمل لأن "المفلس كما المكفوف، لا يعلم متى سينتهي ظلامه".

حلم قاسم يكشف عريّ رام الله الذي أنتجته أوسلو، رام الله الجميلة التي تغيّرت معالمها كثيرا، استفز هذا التغيير قاسم، ليس لأنه ضد التطوير ولكن لأنه يرى أن هذا التطوير لا يقوم على قاعدة الوطن والتنمية الحقيقية له، رام الله المتخمة بالمباني والمقاهي والأبراج، وبأناس غادروا مدنهم وقراهم ومخيماتهم واتجهوا صوبها، مدينة تختنق بكل أصناف منظّمات العمل الأهلي التي تصرف بغير حساب على أمور لا علاقة لها بشأن الوطن، يصفُها الروائي باسم خندقجي في روايتِه الأخيرةِ "نرجس العزلة" بدكاكينٍ مختصةٍ في التنمية المستميتة لتصبحَ سلعًا وطنيةً رابحةً راتبها الشهري بالدولار أو اليورو أو كذبة، "في زمن المشاريع ذات الربحية التي تَستَثمِر في المعاناة الفلسطينية... في زمنِ الذين يفتخرون بشهاداتِ ووصفاتِ البنك الدولي"، كوادر من أحزاب وطنية ويسارية انسلخت عن أحزابها لتفتح دكاكين تلهو بها عما كانت تشتغل به قبل أوسلو أو تتحول الى مليشيات تحرس تلك الأبراج.

يعاني قاسم في رواية سامح خضر ويواجه صراعًا وتحدّيًا مريرًا بين الوطن/المنفى والحلم بالعودة ويقول: "الفلسطينيّون في المنفى يَخافون بالفطرة. يخافون من الأمن، ومن فقدان الوظيفة، ومن فقدان الإقامة، ويخافون من النسيان، ومن ضياع الأوراق الثبوتيّة، يخافون من الوُشاة، ومن التطوّرات السياسيّة حتى في الدول التي لا يَسمع عنها البعض، وقبل كلّ شيء، يخافون على حلم العودة من الضياع". (ص21)

بطل الرواية ولد في الشتات لوالد فلسطيني، فهل هو فعلًا فلسطينيّ ؟ جاءني ما قاله الباحث الفلسطيني فيصل درّاج: " من هو الفلسطيني؟ لا الأصول ولا الجغرافيا ولا التاريخ تمثّل شيئًا ذا بال في تعريف الإنسان الفلسطينيّ، طالما أنّ فلسطين الفلسطينيّة القديمة قد دُمّرت ملامحها، وأنّ فلسطين الفلسطينيّة القادمة مشروع مُستقبليّ. يفرض هذا التصوّر تأكيد أمريْن: أنّ الفلسطينيّ هو الذي لا ينتمي إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي، بل إلى القضيّة الفلسطينيّة، من حيث هي قضيّة ثقافيّة سياسيّة، ففلسطين بالمعنى المجازيّ هي ما عاشه أهلها منذ عام 1948 حتى اليوم، وفلسطين بالمعنى الفعليّ هي تجربة الفلسطينيّين، والموزّعة على الشتات والمنفى والصبر والمُجالدة والكبرياء والتضحية، وعلى إتقان تجربة الانتظار في جميع الفصول، الذي يعني أنّ الظلم الذي لحق بالفلسطيني لن يدوم".

السلطة لم تبن بنية تحتية وركيزة اقتصادية متينة لاستيعاب العائدين وغيرهم ممن قدم إلى رام الله، فمصادر دخلها الذاتية شحيحة وغير كافية لتغطية نفقات كوادرها وأجهزتها وحاجات المجتمع مما أدّى لخلق فجوة بنيوية يجري ملؤها عبر التمويل الدولي المشروط وتداعياته وأهمها السكوت الجماعي لعدم بناء تلك البنى ألتحتية من قِبَل سلطة أوسلو، تماشيا مع أهداف شخصية وذاتية لهذا السكوت، مما أدى الى استيعاب المقاتلين العائدين و"خريجي" سجون الانتفاضة الأولى في أجهزة الأمن التابعة للسلطة و"خريجي" سجون الانتفاضة الثانية حرّاسًا للمتاجر والأبراج الحديثة وترك باقي شرائح المجتمع مُحتاجين!!

فهو ينتمي إلى الجيل الجديد، جبل "العائدين" الذي عليه أن يعاني ويناضل علّه يحصل على جزء من تلك "الكعكة" وقد لا يحصل مما يجعله يشعر باغترابٍ كبير في غزة ليتواصل هذا الاغتراب في رام الله في فترة الانتفاضة الثانية والحصار والخنق.

يصوّر سامح بين السطور واقع مؤلم مرير ، مُحصّلته أثرياء يزدادون ثراءً وفقراء يزدادون فقرًا وقضية تذروها رياح التغيير، حلم رام الله صار كابوسًا، فنحن في زمن أصبحت الخيانة فيه وجهة نظر!
ينهي سامح روايته برسالة قاسم إلى صديقه عبد الرحيم بوصف رحلته، فيقول: "رحلتي مثيرة ووقت طويل استغرقني لأعلم أنني فلسطيني... وكأن هناك شيئاً ما يختلف في هويتنا دون سائر الهويات والجنسيات الأخرى، كأن هويّات الآخرين هبة، وهويّتنا اكتساب، ولتكتسب شيئًا عليك أن تكون جديرًا به". (ص 270) هذه النهاية التي بها الكثير من التعب في البحث عن الهوية والوطن.

يتطرّق سامح في روايته لقضيّة المواطنة والوطنيّة، صراع البحث عن الهويّة "في مجتمع لا يعطي لأبنائه إلا بعد أن يحرمهم من الكثير"، صراع المكان (غزة، الضفة الغربية والمنفى)، الحياة في الوطن ما بعد العودة، وكالة الغوث دورها وتداعياتها، المعاناة والتغلّب عليها والبطولة.

يحاول الكاتب تصوير تخبّطات عائدي أوسلو حين عودتهم من المنفى إلى الوطن المنشود وتحطيم الحلم عند اصطدامهم بأرض الواقع المرير وخيبة الأمل.

الرواية جديرة بالقراءة لأنها تُنذر بالعاصفة قبل هبوبها، إنذارًا يكفي ليهزّ كل شيء فينا، إنذارًا يدق الناقوس كي يوقظنا من سباتنا وليفتح أعيننا على حقائق مروّعة نتاج خيبة العودة بعد تفاؤل المنفى!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى