وداعاً حليم بركات المُفكِّر الموسوعيّ والمُناضل الأصيل
من الكفرون إلى دمشق، فبيروت، ومنها إلى الولايات المتّحدة الأميركية، كانت رحلة الباحث والمُفكّر النهضويّ الموسوعيّ الدكتور حليم بركات، الذي أمضى حياتَهُ ولقاءاته مع الباحثين والمُفكّرينَ العرب والغربيّين، مُدافعاً عن عدالة القضايا العربية، ولا سيّما قضية فلسطين. كيف لا، وهو المُثقّف العُضويّ، حسبَ تعبير غرامشي، والمُثقّف المبدئيّ الذي آثرَ الانحيازَ إلى قضايا الأمّة في النهوض والتحرُّر؟
وهذا ما يظهرُ جليّاً في مشروعه الإبداعيّ والفكريّ، انطلاقاً من روايتَيهِ "القمم الخضراء" ١٩٥٦، و"الصمت والمطر" ١٩٥٨، وليسَ انتهاءً بعمله الفكريّ المُجتمعيّ التحليليّ الرائع "المُجتمع العربيّ المعاصر"، وهو العملُ الذي أمضى في كتابته ثلاثةَ عُقود، اشتغلَ فيها على الأبحاث والدراسات الاجتماعية والثقافية التي تتناولُ المُجتمعَ المعاصر وما طرأ فيه وعليه من تَغيُّرات، معَ تقديمه تفسيراتٍ بنائيّةً، مُركّزاً بها على دراسة البنية الطبقيّة والاختلاف في أنماط المعيشة، ونظراً إلى أهميّة الأُسْرَة ودورها في بناء المجتمع، فقد ركّزَ اهتمامَهُ في الفصل الثامن من الكتاب عليها، لأنها نواةُ المُجتمع وصُلْبُ نُشوءِ المُؤسّسات الاجتماعيّة الأُخرى وتَطوُّرها، وقد ابتدأ الفصلَ بمقولة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "لا تقسرُوا أولادَكم على أخلاقكم، فإنهم خُلِقُوا لزمنٍ غيرِ زمنِكم"، وهي قاعدةٌ مُهمّةٌ وأساسية في بناء الأُسرة والمُجتمع وجعله مُتماسكاً وقويّاً ومُواكباً للتَّغيُّرات ومُنسجماً معَ ما يُناسبُهُ من مبادئ عصره وأخلاقيّاته.
ويُؤكّدُ الدكتور حليم في بحثه فائقِ الأهمّيّة ضرورةَ الاعترافِ بوجودِ مُختلفِ النزاعات والتّوجُّهات التي تتجاذبُ العربَ، بينَ الوحدة والانكفاء الذاتيّ، بينَ التقليدِ والحداثة، بينَ المُطلَق المُقدَّس والنسبيّ العلمانيّ، بينَ الغربِ والشرق، بينَ المُستقبل والماضي، بينَ الخاصِّ والعامّ، بينَ الانتماء إلى الجماعة والانتماء إلى الأمّة.
لقد رحلَ الأديبُ والمُفكّرُ الباحثُ حليم بركات بعدَ تسعينَ ربيعاً من العطاء والفكر والإبداع، وبعدَ أن أرسى بنهجه ومسيرته وعِلمِه قواعدَ الانتماء والوطنيّة، وهو ما يظهرُ بوضوحٍ وجلاءٍ في كتابه: "الهوية أزمة الحداثة والوعيّ التقليديّ"، كما كانَ حليم بركات الأُنمُوذجَ الأبهى للمُثقّف الطليعيّ بعِلمِه وانفتاحه المُتحرّر من قيود الدِّين والطائفة والمذهب، والمُخلِص لوطنه ومبادئه وانتمائه الوطنيّ الأصيل أينما كان.
نعم، لقد فقدت الساحةُ الفكريّة والإبداعيّة رمزاً باذخَ البهاء والعطاء من رموز الوطنيّة، رمزاً يحقُّ لمن عرفَ سيرتَهُ ومسيرتَهُ وإنجازاتِهِ ومُؤلّفاتِهِ أن يقول: "رحلَ المُفكّر الحليم، وبقيتْ بركاتُ فكرِهِ وثمارُهُ مكتبةً مُتنقّلةً تفخرُ بها الأمّة".