السبت ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٣
بقلم محمد الحوراني

كوليت الخوري... سيّدة الأناقة الأدبيّة

أديبةٌ مُفعمةٌ بالمشاعر والأحاسيس المُرهفة النبيلة. تتميّزُ بحضورها الثقافيّ الأدبيّ الآسر. مُهتمّةٌ بأدقِّ التفاصيل، وحريصةٌ على السؤال عن الأصدقاء والمُثقّفين والأدَباء ومعرفة أخبارهم والاهتمام بها. سيّدةُ اللُّغة والحرف، عاشقةُ اللُّغةِ العربيّة، ومتقنةٌ أداءَ الحروف بطريقة لا يُتقِنُها سوى فُرسانِ اللُّغةِ والقابضين على جمرتها الخضراء. مُرهفةُ المشاعر، شفّافةُ المنطق، وطنيّةُ الانتماء، عربيّةُ الهوى، قارئةٌ للأدب الغربيّ عامّة، وخبيرةٌ بالثقافة الفرنسيّة التي أجادتها وغاصت في بحرها.

تعلّمتُ كثيراً من ديبلوماسيّتها ومن (الأتيكيت) الذي تُتْقِنُهُ، في أثناء الزِّيارات واللقاءات معها في بيتها الذي اعتدتُ أن أزُورَها فيه بينَ الفينة والأُخرى معَ بعض الأصدقاء والزُّملاء من أعضاء المكتب التنفيذيّ في اتّحاد الكُتّاب العرب، أو غيرهم ممّنْ يَعشقُونَ أدبَها وثقافتَها وإنسانيّتَها وانتماءَها الوطنيَّ الرفيع. كيف لا، وهي الصَّدّاحةُ بالحقِّ.. الرافضةُ للعُدوانِ والظُّلمِ.. العاشقةُ للقِيَمِ الإنسانيّة الرفيعة؟!

سيّدةٌ مِنْ مقامِ النُّورِ وبهاءِ الحرفِ وعُمقِ المعنى. قامةٌ وقيمةٌ أدبيّةٌ يحقُّ لاتّحادِ الكُتّاب العرب خاصّة، وللثقافةِ السُّوريّةِ والعربيّة عامّة، أن تفخرَ بها. عاصرَتِ الكبارَ من الكُتّاب والمُثقّفين والمُبدعين مثل: "نجاح العطّار، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، نزار قبّاني، عبد السّلام العُجيليّ، حنّا مينه، محمّد الماغوط، غادة السمان..."، وكانتْ واحدةً منهم.

عميقةٌ في رُؤيتِها، بعيدةٌ عن النَّمطيّةِ والانغلاقِ في قناعاتها، مُتحرِّرةٌ وَفْقَ مفهومِها القائمِ على فلسفتِها للحياة وفهمها الذي لا ينسجمُ معَ نظرةِ أدعياءِ العلم والمعرفة.

في رائعتها "أيّام معَه" تقدّم أدبيتنا الكبيرة رُؤيتها العميقة للجُرأة والتَّحرُّر والتَّمرُّد الذي رأيناهُ عندَ (ريم)، والنّابع من كونِها شاعرةً وفنّانة، والفنّانُ الشاعرُ يحقُّ لهُ ما لا يحقُّ لغيره، فالشاعرةُ تُعطي انطباعاً عن الشَّرَف والأخلاق الحميدة، وتملكُ مُطلَقَ الحُرّيّة في ما تقومُ بهِ وتفعلُه.

(ريم) الشاعرةُ والمُثقَّفة عندَ كوليت الخوري، داعيةٌ إلى الأخلاقِ الجيّدة والصِّدق والنُّبل والشَّرف والنَّزاهة، والفتاةُ إذا ما تمتّعتْ بهذه الصِّفات أمكنَ وصفُها بالشريفة، ولو أحبَّتْ رجُلاً، أو كانتْ عشيقةً له.

أمّا المرأةُ الكاذبةُ الحسود.. الخبيثةُ فهي غيرُ شريفة، حتّى لو لم تكُنْ على أيِّ صِلَةٍ بأيِّ رَجُلٍ في الوجود.
هذه هي فلسفةُ الأخلاق والقِيَم عندَ الأديبة الكبيرة كوليت الخوري، وهي استمرارٌ لمدرسةِ جدِّها المُناضلِ فارس بيك الخوري، وأبيها الوطنيّ المُلتزم سُهيل الخوري.

قبلَ مُدّةٍ غيرِ طويلةٍ، ذهبتُ لزيارتِها في بيتِها، وتَحدّثْنا طويلاً عن الثَّقافة والأدَبِ السُّوريّ والمُثقَّفين داخلَ البلد وخارجَه. تحدَّثْنا عن الأديبة السُّوريّة غادة السمان، وعلاقةِ أديبتنا الكبيرة بالشَّاعرِ الراحل نزار قبّاني وعن رسائله إليها ورسائلها إليه، ثمّ اتّصلتُ بالأديبة السُّوريّة الكبيرة غادة السمان، وقلتُ لها: أجلسُ إلى جوار أديبةٍ تُحبُّكِ وتُحبِّينَها، فأجابَتْ على جناحِ الشوق: كوليت الخوري... هذا على الرغم من سنواتٍ طويلة على آخر اتّصالٍ بينهما. كانَ حديثُهما عابقاً بالشَّوق والحُبّ والذِّكريات الدِّمشقيّة الفوّاحة بالحبَق والياسمين.

لكِ الحُبُّ والعطاءُ المُتجدِّدُ أديبتَنا الكبيرة، أيَّتُها الفوّاحةُ شِعراً وروايةً وقصّةً ومقالاتٍ ودراساتٍ وذكرياتٍ سُوريّةً ودمشقيّةً أصيلة. لكِ طُولُ العمر، وأنتِ المدرسةُ التي نتعلّمُ منها أصالةَ الانتماء وصِدْقَ الكلمة والتَّمسُّك بالثوابت والقيم. لكِ التقديرُ، وأنتِ الرائدةُ في الحوار الأدبيّ القائم على احترام الرأي الآخر من خلال ما تَعلّمناهُ في جلساتِكِ الأدبيّة الغنيّة بالعلم والمعرفة والثقافة والإبداع.

كوليت الخوري! أيَّتُها العاشقةُ الباذخةُ حُبّاً وجمالاً وإبداعاً. ما أحوجَنا إلى صُراخِ أصابعِك، واستمراريّةِ هذا الصُّراخِ الإبداعيّ، لأنّنا مِثلُكِ لا نُحبُّ الصُّراخَ بحناجِرِنا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى