الاثنين ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم محمد الحوراني

الهُويات المتعددة والهُوية الوطنية الجامعة

لا يمكن لهُوية شعب من شعوب العالم ترجمة قدرتها على المواجهة الفاعلة إلاّ باستعدادها للنقد الذاتي، وهو نقد يؤدي إلى إعادة تركيب العناصر المكونة للهُوية، بما يتيح تطوير ما هو إيجابي فيها والتخلص من السلبي، الذي تم اختباره في التحدي والتعاطي المجتمعي، وبرهن عن عجزه وفشله، كما أن قدرة الهُوية على تعديل العناصر المكونة لها هو الذي يجعل منها هُوية تاريخية تقبل التحدي، وترد عليه باستجابة صحيحة قادرة على مواجهة التحديات، وعندما ترفض الهُوية التجديد فإنها تظل هُوية راكدة خارج الزمن رافضة للتنوع الثقافي والحضاري.

ولهذا فإن بعض الهُويات التي عُدَّتْ نفسها غالبية، اعتنقت خطاباً استئصالياً إقصائياً، في كثير من الأحيان، ضد الهُويات المتعددة التي حاولت التعبير عن نفسها وثقافتها وتاريخها ضمن أنساق اجتماعية أو ثقافية قائمة على التعددية والتنوع، وهو ما دفع الهُويات الصغيرة أو الفرعية إلى التقوقع على نفسها، والانغلاق ضمن إطار مجدد، وأدى لاحقاً إلى تخندقها وتكتلها حول أفرادها، ورفضها لأي محاولة للانخراط في محاولات تشكيل الهُوية الوطنية، لا بل إن خوف الأقليات الفرعية - سواء أكانت دينية أم مذهبية أم عرقية - أدى إلى تهديد بعض الدول، وربما اقتطاع أجزاء منها وإلحاقها بدول مجاورة ومعادية أحياناً.

وهذا ما كان ليحصل لولا إهمال بعض السلطات والأنظمة لموضوع الانتماء والهُوية وابتعاد الدولة عن مسؤولياتها في كونها دولةً وطنية تقوم بدورها في حماية الهُويات المتعددة ومشاركتها في الحياة السياسية وتعزيز حضورها مجتمعياً وثقافياً.
إن مجتمعاتنا بأمس الحاجة لتعزيز العلاقة بين الهُوية والانتماء وإبعاد الخوف عن أبناء الهُويات المتعددة، وهو ما لا يتحقق إلاّ بوجود دولة وطنية قوية تساهم في تهيئة المناخ لإدخال الجميع في حركة تأسيس وتطوير وإعمار الدولة بفعالية من خلال المشاركة القوية والفاعلة والمبدعة. وإذا كان بعضُهم يرى أن الانتماء نسق عام، فإن الهُويات أنساق فرعية على النسق العام أو ضمنه، وقد مرت علينا عقود غاب فيها النسق العام ليس من الثقافة بل من الوعي المجتمعي عموماً، وهو ما ينسحب على معظم المؤسسات الثقافية والتربوية والتعليمية والإعلامية.

فالمشكلة ليست في الانتماء المستند إلى الثقافة، بل في الوعي المستند إلى الهُوية، والثقافة لا تتجدد من داخلها فقط، كما أن الوعي لا يتجدد من داخل الثقافة لأن هذا مرتبط أيضاً بقدرة الدولة الوطنية على تصحيح العلاقة بين الهُويات الأساسية والفرعية.

من جهةٍ أخرى فإنّ هُوية أيّة أمّة أو مجتمع تتمثل بالصّفات التي تميِّز هذه الأمّة عن غيرها من الأمم، لتعبِّر عن شخصيتها الحضارية. والهُوية بهذا المعنى تشتمل على ثلاثة عناصر رئيسة؛ أولها العقيدة التي توفر رؤية الوجود، وثانيها: اللسان الذي نُعَبِّر من خلاله عن كوامن النفس، وتراث الأمة الثقافي الضارب في عمق الحضارة، وثالثها: اللغة بما تحمله من ثقافة وفكر يميزان شعباً ما عن غيره من الشعوب، يضاف إلى ذلك التاريخ بما يحمله من عناصر الثقافة المختلفة التي تسهم إسهاماً أساسياً في صناعة الهُوية، فلا هُوية دون تاريخ. وحين تتوفر هذه العناصر فإنّها تخلق الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، وهو شعور يضمن استمرارية الجماعة ويحفظ كيانها، وعندما تختفي أو تتلاشى تبدأ الجماعة في مواجهة مصير قد يؤدي إلى التفكك والتناحر، لأنّ الهُوية هُويات متعددة في الأساس، منها الثقافي والديني والأيديولوجي والعرقي، ولعل أخطرها ما يقوم على التطرف ورفض الآخر، وصولاً إلى نمو الهُويات القائمة على الحدّية في المواقف تجاه الآخرين، بسبب ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتجريدهم منها بحجة أنّهم أصحاب هُويات مزيّفة، وهذا ما يقود إلى "موت الجميع كأغبياء، بدل أن يتعلموا العيش كإخوة" حسب مقولة "مارتن لوثر كينغ".

من هنا يمكننا القول: "إن هُوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد وتفصح عن ذاتها؛ دون أن تخلي مكانها لنقيضتها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة، وهي بهذا المعنى كالبصمة بالنسبة للإنسان، يتميز بها عن غيره، وتتجدد فاعليتها، ويتجلّى وجهها، كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس والحجب، دون أن تخلي مكانها ومكانتها لغيرها من البصمات"، حسب رؤية الباحث محمد عمارة. من جهة أخرى فإن الانتماء يشكل المفهوم اللازم للهُوية الاجتماعية؛ إذ إنّه يؤكّد حضور مجموعة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد، التي تتغلغل داخل أعماق الفرد فيحيا بها وتحيا به، حتى تتحوّل إلى وجود غير محسوس وكأنّه الهواء يتنفسه ولا يراه، وبالتالي فالانتماء هو الجواب على سؤال الهُوية وهو أساسها، كما أنّه يمثل مجموعة الأواصر التي تربط الفرد بجماعته، أو عقيدته أو لغته، وحسب الباحث زكي نجيب محمود فالولاء: "دمج بين الذات الفردية في ذات أوسع منها وأشمل، ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءاً من أسرة أو من جماعة أو من أمة أو من الإنسانية جمعاء".

نستطيع القول: إن هاجس الهُوية لم يفارق المثقف العربي منذ نشوء الدولة العربية الحديثة والتخلّص من الاحتلال، كما لا يمكننا إنكار أن الهُوية أصبحت مشكلة عند عدد من المفكرين والسياسيين في الوطن العربي، وهي مشكلة أبعدت الاستقرار والتضامن عن الأقطار العربية، وجعلتها لقمة سائغة على مائدة المحتل والطامع بموقعها وخيراتها، وهي دول كان بإمكانها تشكيل قومية اقتصادية قائمة على الهُوية الوطنية، وعلى المشتركات فيما بينها، "صحيح أننا قمنا بنهضة لغوية وأدبية كبيرة، وسعينا مراراً إلى نهضة قومية، إلاّ أننا دخلنا فيما سمي (صحوات) دينية مختلفة الطابع، عندما أخفقنا في تحقيق القومية العربية الجامعة، وفي كلِّ مرة وظّفنا جانباً ضرورة إقامة النهضة العلمية والتقنية والإنتاجية وفق رؤية المفكر اللبناني جورج قرم، كما نسينا تماماً هذا الجانب الأساسي من الوعي القومي، وهو الجانب الاقتصادي في تأكيد الهُوية.

وتؤكد تجارب الشعوب كلّها في التاريخ أن النجاح العلمي والاقتصادي هو الركيزة الأساسية للوصول إلى الثقة بالنفس، وبالتالي الثقة بالهُوية الجماعية. وهذا ما يتطلب من الجميع الاشتغال على استحضار ذاكرتنا الحضارية وثقافتنا العريقة، وهي ثقافة قائمة على التنوع العرقي والقومي والمذهبي، الذي يتطلب القطيعة مع جميع المراحل والحقب المظلمة في تاريخنا، وهو ما لا يتحقق إلاّ ببناء استراتيجية ثقافية حضارية قائمة على فكر نهضوي متعدد الجذور والثقافات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى