همسات في قارعة النسيان
لم تكن تعرف كم من العمر قضته، وهي تزيّن نفسها أمام المرآة، تنخّلت أجمل فساتينها، اِصطفت بين الألوان وكأنها تنتقي ورودا من حديقتها الصامتة. هذا اليوم غير عادي، طال انتظاره في دهاليز اليأس، أربع سنوات من الترقّب، أربع سنوات من العشق المستتر، أتى أخيرا.
تجلس في ردهة البيت، بعد ساعات وقفتها أمام المرآة، آملة أن يأتي العيد دون تمهيل حتى تستقبله ببشاشة، كما كانت تفعل كل عام دون أن يأتي، فهل يأتي اليوم؟ وتضمّه أخيرا إلى صدرها، معبّرة عن اشتياقها وحنينها إليه. هل يأتي اليوم لتشبع جوعها السرّي.
انتظرت طويلا بزوغ نوره المباغت. لم يكن اليوم عيدا يحتفل به جميع البشر، لكنه كان فقط عيدها الخاص، ترصّدته طويلا.
لم تعِ كم من العمر مضى، لكنه لم يأت اليوم أيضا، لم يأت هذا العام أيضا. بين رنّات الهاتف، تطير بأجنحة الأمل علّه يكون هو، علّه يخبرها بتأخّر الطيارة، ربّما لم يجد تذكرة لهذا اليوم. لكنه في كل رنّة كان غائبا، وبعد كل رنّة وأخرى تحمل في جوانحها نفس اللّهفة، و نفس الأمل. كانت كل الاتصالات للسؤال عنه، وكانت بين كل تلك الأسئلة ضائعة، تحاول إيقاف نزيف قلبها، متشبثة بالأمل. رغم أن احساسها، ينبئها، بأن العيد لم يعد عيدا، وإنّما ذكرى لسعادة خيالية، نقشت أحرفها فوق صدرها البارد، بعد أن جرّدها البعد من جميع العواطف التي كانت تجرفها بعنفوان، وترميها بين أحضان الحبّ.
« لم يأت، ولم يتّصل، هل وقع شيء؟ ربّما سقطت الطّيارة..يا إلهي ما هذا الجنون»
تفتح التلفزيون، لا شيء في الأخبار..
«لما تخلّف إذن؟»
شرّعت نوافذ روحها، بقيت عمرا تنتقل من غرفة إلى أخرى، من نافذة لأخرى، من حين لآخر تتفقّد الطعام
"كل شيء جاهز.."
تعبر آخر مرّة قرب المرآة، تتوقف هنيهة، تضع أحمر الشفاه، ثم تمضي متجاهلة تراسيم وجهها، وقّعت عليه السنين بتجاعيد تشهد على ما مضى من العمر في العدم و الوحدة. تقترب من المائلة التي حضّرتها بروحها النقية و الحب، تتأمّلها
"كلّ شيء هنا "
تضع رتوشها الأخيرة عليها، تأخذ علبة كبريت تشعل الشموع، مهيأة نفسها لليلة حب ترتوي من عطش السنين.
أخيرا يُقرع الجرس
"أخيرا..أخيرا "
كعروس بحر تسبح نحو الباب، دقات قلبها تتراقص، عيونها باتت تلمع كالنجوم في يوم من أيام الرّبيع، الحب و الشوق أعادا إليها شبابها، كانت أشبه بحورية البحر بثوبها الأزرق نصف عار. تفتح الباب على عجل، تتوقّف بانبهار، تستتر الابتسامة فجأة من على شفتيها، و هي ترمق ساعي البريد بعيون الخيبة، دون أن تقول شيئا، سارحة بخيالها محدثة نفسها
"لم يكن هو"
"غير ممكن، ربما هي أكذوبة أبريل فقط..أجل هي كذلك "
تاهت في التفكير وعيناها قابعتين على ساعي البريد دون أن تدرك أي محطة ترسو فيها، وهو بقي مبهورا بجمالها، يتأمّلها بعيون عطشانة، عابرا على كل نقطة من جسدها، غير أن كل شيء فيها تجمّد.. أصبحت مشلولة الذهن و البدن..تصحو على صوت ساعي البريد الذي يقول
"سيدتي.."
تجيب بصوت مرهق
"آسفة.."
يمد ساعي البريد برقية إليها و يقول
"هذه لك على ما أظن"
تأخذ الرّسالة برفق..تنظر إلى العنوان..ثم خلف الرّسالة حيث كتب عليها عنوان زوجها في المنفى..تهزّ رأسها أن نعم، ثم تغلق الباب دون وعي..
تفتح الرّسالة على عجل، و هي تقف أمام مائدة العشق التي صنّفتها ليوم غير معهود، تقرأ أول السّطور..ثم تمضي مباشرة إلى الأسطر الأخيرة.. تعاود قراءتها عدّة مرات في صمت و هدوء..ثم بصوت عال
"حبيبتي الغالية..لكم اشتقت إليك..لكن ظروفي لن تسمح لي بالمجيء مرّة أخرى، لا يمكنني أن أخفي عليك أكثر من هذا، القدر انتقى لنا سبيلا آخر غير ما تمنيناه لأنفسنا، هنا الحياة صعبة للغاية، الوحدة مميتة، لا يمكن للغريب العيش وحده دون أوراق ثبوتية، و لا يمكنني العودة إلى الوطن قبل أن أحقق كل ما أريده،لا يمكنني بلوغ هدفي إلاّ بالارتباط بأجنبية، و قد التقيت بها و تزوجنا منذ عامين، آسف على اعترافي بخيانتي، لكني أحبّك رغم كل شيء. أتمنى لو تنتظريني، عامين فقط، تُسوّى وضعيتي و نلتقي لنحيي حبّنا، و نعوّض سنين العطش و الجوع.
أحبّك ..قبلاتي .."
لم تكن مستغربة مما كتب في الرّسالة، و كأنها كانت تنتظره. بقيت ساكنة للحظة ثم مدّت الرّسالة إلى الشمعة التي كانت تنير المكان و أحرقتها، ثم تناثرت بقاياها في أرجاء الغرفة، و بذلك أحرقت ما تبقى من أملها
أطفأت الشموع. و في ظلام المقر أفلتت من عينيها دمعة، مسحتها بكبرياء، قبل أن تقع من عشّ غفلتها.