تشظّي الرّوح
علّق على صدري وسام العار والخيانة.. منذ ولادتي.. لم أفهم يوما لما أنا هنا في هذا الوطن الذي ليس وطني..كيف لي أن أنشأ في أسرة مقسّمة روحها بين الحقيقة والخيال رافضة الاعتراف بخسارتهم منذ البداية. حاولت كثيرا قراءة ما تخفيه عيونهم لكن عبثا أحاول.. لمحت فقط الخوف والحزن والشوق.. دون أن أدرك.. خوف من ماذا؟ حزن على ماذا؟ وشوق لأي شيء؟.
ارتباط اسمي باسم أبي فقط في الأوراق الثبوتية.. من ينبئني بجنسيتي الأخرى غير الفرنسية.. رغم انفصال والدي عن اسمه الأوّل منذ سنوات وصار يدعى «موريس».. واختار لي اسم «بوب» بدلا من أبوبكر لتفادي العرقية وتخوفا من سخرية الأطفال مني في المدرسة.. ولم يكن ذلك مانعا في حقيقة الأمر والواقع.. كانوا يجدون دائما سببا لنعتي ونعت أصدقائي من العرب بأسوئ الصفات العنصرية، حتى لا ننسى أبدا أصلنا العربي.. وكأنها كانت عقوبة نزلت علينا من السماء..حتى يعاقبنا بها الله على أخطاء ارتكبناها دون إدراك ولا وعي منا.. كنت أخجل دائما كوني عربي..رغم أني في قرارة نفسي أبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة معلّقة..وتثقل كاهلي..حول عائلتي أنا..إلى أي وطن أنتمي..؟ هل يمكنني أن أكون فرنسيا وجزائريا في نفس الوقت؟ هل أنا فرنسي أوّلا أم جزائري؟
سألت أبي يوما عن سبب اختياره لي لاسم بوب بدلا من أي اسم آخر عربي قال
– ستشكرني عندما تكبر
– لكني فقط أرغب أن أفهم لما غيّرت اسمك، وأعطيتني اسما أجنبيا؟
- نحن في عالم لا يعطي الفرصة للأجانب حتى وإن دفعت حياتك فداهم.. تبقى أجنبيا.. خصوصا إن كنت عربيا مثلنا.. لا مكان لاسم أبوبكر ولا سعيد وموسى.. ولا محمّد في هذا البلد
– لما جئت إذن إلى هنا؟ لما لم تبقى في بلدك؟
نظر إلي نظرة يأس..أحسست بأني فتحت جراحه كلّها بسؤال واحد..وكأني نبشت أرضا كانت جرداء لقرون.. وعدت به إلى 55 سنة خلت حيث ما يزال شابا في السابعة عشر من عمره ثم قال بمسحة حزن
– كل شيء حدث بسرعة ولم نع ما كنا نفعله لم أفهم من كلامه شيئا، ربّما حاول اختصار مسيرة حياته في جملة حتى لا أكثر عليه من الأسئلة، لكني كنت فضوليا.. رغم تيقني أن هذا الحديث يؤلمه كثيرا
– أبي..لما لا تحدّثني عن الجزائر..؟ لما لا أتذكّر أننا زرناها يوما منذ ولادتي..؟.
أنا متشوق لرأيتها..ألا تشتاق إليها أنت أيضا..؟
بقي صامتا للحظات ثم نهض من مكانه وقال
– حان موعد صلاة المغرب يا بني علي الذهاب إلى المسجد خرج والدي في ذلك اليوم قبل موعد الصلاة بنصف ساعة.. دون أن يدعوني للذهاب معه كما كان متعودا.. ربّما لأنه يخاف من أن أواصل النقاش العقيم الذي يرفض الغوص فيه.. والذي قد يؤدي إلى انتفاض جراحه القديمة والجديدة دون سابق انذار بعد أن دفنها بداخله لأكثر من نصف قرن.
لم أكن أفقه سبب تكتّم والدي عن هويته.. رغم أن الكثيرين من الجزائريين الذين نراهم على شاشة التلفزيون يفخرون بجنسيتهم ووطنيتهم.. ومعلوماتي البسيطة عن ثورة التحرير مصدر للفخر والغبطة.. كل التخيلات رسمتها في عقلي الصغير.. دون أن أستطيع استنباط ما يكمن في صدر أبي الذي لا يقوم بشيء سوى الصّلاة.. قليل الخروج من البيت المنعزل عن الدنيا.. وكأننا نعيش في بلد غير فرنسي.. البلد الذي احتضنت عائلتي في رعان شبابهم.. لكنها أبدا لم تشعرنا يوما بالارتياح.. وكأنها ترفضنا.. وكأنها كانت مجبرة على تحمّلنا.. لتوفي دينا ما كان عليها..كنت أرى ذلك في نظرات الفرنسيين الحقيقيين إلينا.. نظرات الحقد والاستخفاف والاحتقار.. رغم أنّنا لا نظرّ أحدا ولا نسيئ لأحد..رغم أنّنا نحب الجميع.. ونحاول دائما الرّضوخ لمطالبهم لكني عرفت بعد ذلك أنها كانت تلك عقلياتهم.. يحبّونك عندما تكون لهم مصلحة معك ثم يرموك رمية الكلاب عندما يقضون حاجتهم.. للأسف كنّا نحن نسير وفق أهوائهم.. كانوا كأحوال الطقس..بارد أحيانا وحار أحيانا أخرى.. شمس وثلج..لكنهم كانوا في أغلب الأحيان ثلجا وصقيعا.
كنت أشعر بكل ذلك لكني بقيت صامتا لعشر سنوات.. أبحث عن إجابات لأسئلة أصبحت تتعبني.. أحاول أن ألصق الكلمات التي تلتقطها أذني الصغير، خلال كل حديث يجمع بين أمي وأبي في خلوتهما، لكن حديثهما كان قليلا جدّا.. وكأنّ أمّي كانت تعاقب أبي على شيء.. حتى أنّهما لم يرزقا بأطفال غيري.. في ذلك الزمن قليلة هي العائلات التي تفكّر في تحديد النسل.
سمعت أّمّي تقول يوما.. وكأنها نسيت أوتناست أنّي أنام في الغرفة المجاورة التي تشبه القفار
– أنت السّبب.. أنت السّبب..لولم تكن طمّاعا لما وصلنا إلى هذه الحالة
– ألم ترضي، وكنت سعيدة عندما أعود محمّلا بالهدايا.. أكانت أمّك سترضى بتزويجك لي لولم تتأكّد من أني أستطيع أن أعيّشك عيشة الأميرات
- أي عيشة هذه..أتسمّي ما آلت إليه حياتنا عيشة..منذ خرجنا من الوطن لم أشعر يوما أنّي حيّة..لا طعم للأكل ولا للحياة..لوأستطيع اختصار الأيام والسنوات لأقرّب ساعتي.. لكن كل هذا غير ممكن...
تفجّرت مآقي أمي بالبكاء، كانت تلك أوّل مرّة أراها تبكي و تصرخ بكل ما لها من صوت في حنجرتها.. وقد انفجر بركان غضبها الذي بقي راكدا لسنوات طويلة. لم يكن كلامهما واضحا، لم أفهم إن كانا يتحدّثان عن الماضي أم الحاضر. لكنها كانت البداية، لكشف الستار عن حقيقة مرّة أكتشفها في حفلة عيد ميلادي الحادي عشر.
كفكفت أمي دموعها بعد أن رأتني، اقتربت إلي وقالت وهي تعانقني بقوّة
– آسفة يا بني..لم أتركك تنام في يوم عطلتك..
– كلاّ أمّي..لا تقلقي.. رغبتي في الذهاب إلى الحمام هي من أيقضتني
غادرت منحني الرأس.. وبقيت أمّي واقفة ترمقني بنظرات حزينة ويائسة، فيما جلس أبي على الأريكة يتمتم بكلام غير واضح..حتى سمعني أقفل باب الحمام سمعته يهمس لها..يصل إلي كلام متقطّع
– سوف أكسّر..أخبرتك أن لا تتحدّثي وهو.....سأرتكب جريمة يوما....
– تعوّدت عليها...فلا أشك باستطاعتك.....
خرجت من الحمام..ورأيت والدي يقترب من أمّي.. كان يرفع يده لصفعها..لكنه تراجع بعد أن رأتني أمّي ثم قالت
– هل ترغب يا بني في الإفطار..أم أنّك متعب تود العودة إلى السرير؟
– أنا فعلا مرهق أمّي..من الأفضل أن أعود إلى النوم كنت فعلا مرهقا ليس جسديا لكني مرهق الذهن والنفس..تعبت من التفكير..من كل هذه الأسئلة التي ليس لا أجد جواب
دخلت غرفتي..سمعت باب الكوخ الذي يسعنا منزلا يغلق بقوة..عرفت حينها أن والدي قد خرج.
استلقيت أنا على السرير أحاول طرد عبارات أمّي من آذاني..التي تصرخ بقوة وتأخذني إلى الجنون. أسئلة كثيرة في عقلي الصغير بقيت بدون إجابات، ولا يمكنني أن أسأل أمّي لأن والدي كان يقتلها لوأخبرتني بالحقيقة. تخيّلاتي أخذتني لأبعد تفكير.
هل قتل والدي أحدا ما في الجزائر وهوهارب الآن من العدالة؟
ما الذي حصل قبل أكثر من نصف قرن؟
حياتي باتت كلّها علامات استفهام..سبب تعاسة أمّي..وضياع والدي..السر الذي يخفونه عنّي ولما يخفونه..؟ ربّما ينتظرون أن أصبح شابا، أكثر وعيا وتفهما..لكني كبرت بما فيه الكفاية..عقلي أكبر من جسدي فلما لا يرغب أحد في إخباري بما يحدث.. يا إلاهي عقلي سوف ينفجر من التفكير والتخمين.
لكن اليوم المنتظر أتى أخيرا..والقنبلة انفجرت في غير موعدها ودون إخطار.. أتذكّر ذلك اليوم من أيام الرّبيع..الغيوم تملأ السّماء على غير عادتها..الجوكان كئيبا..كنت أنا خارج من المدرسة..سعيد لأن والدي سوف يأتي لاسطحابي معه، ككل عام منذ ولادتي لشراء كعكة عيد الميلاد..اليوم أحتفل بعيد ميلادي الحادي عشر..وددت ككل الأطفال دعوة بعض أصدقائي للاحتفال معي، الجميع كان سعيدا..كانت تلك أوّل مرة يرضى فيها والدي بعزم أصدقائي إلى البيت..كنّا دائما نخجل من عزم حتى أقاربنا.. لم يكن الأمر هيّنا بالنسبة لي..عزم أصدقائي واكتشافهم وضعيتنا المأساوية..لكني اخترت من بينهم من اعتقدت أنهم مثلي..رماهم القدر إلى هذا البلد الغريب دون وعي ولا إدراك. لكن المصيبة حلّت و صدمت عندما أمسكني أحدهم من رقبتي.. جرّني إلى الحائط...نظر إلي كالوحش الذي يمسك فريسته ويهمّ لابتلاعها وقال بلغته الفرنسية
– تعالى هنا يا ابن الحركي تجمّدت ركبتاي حينها.. حتى فمي تبكّم..وعقلي عدل عن التفكير..دقات قلبي لم أعد أحسّ بها..روحي انفصلت عن جسدي.. هل أنا ميّت أم حي..؟ هل ما سمعته حقيقة أم مجرّد أقاويل صبيانية.. يطلقونها على العرب مثلي في زمن العنصرية، للإطاحة بكبريائهم..
دفعته دون أن أشعر.. وقع أرضا.. خرجت أجري.. دون وعي مني وجدت نفسي جالس على ركبتي ألهث..أمام مدخل المدرسة..كان والدي واقف أمامي يحاول تهدئتي إذ أنبأه أحد زملائي من جنسية عربية وقصّته لا تختلف عن قصّتي كثيرا.. فقط كان هوابن شبه مجاهد من الكثيرين الذين تمتعوا بخيرات الجزائر بعد الاستقلال..دون معرفة حقيقتهم وما كانوا حقا أيام الثورة.. لكن أنا كنت ابن... لا يمكنني حتى نطق هذه الكلمة التي تشعرني بالتقيؤ والقرف.. لا يمكنني النظر حتى إلى والدي الذي يجلس على ركبتيه..يحاول تعزيتي على حياة الذل الجديدة التي منحها لي.. ربما كان يرغب في تعزية نفسه لما آلت إليها حياته بعد حرب التحرير..
لم أصدّق أبدا ما سمعته أذناي.. ما الذي يمكنني فعله في ذلك الوقت..هل أرحل بعيدا وأتنكّر لأهلي كما تنكّروا لوطنهم يوما..أم أصدّق إحساسي الطفولي البريء..وأفهم أخيرا ما كان مكتوب في عيوني والدي من يأس وألم..وأن الرّحيل إلى هذا البلد الذي لم يكن يوما بلدهم رغم أنهم يدّعون ذلك لتناسي معاناتهم لم يكن أبدا من اختيارهم.. وأن ما فعله والدي في ذلك الوقت كان أمرا مفروضا عليه..أتمنى لوأجد إجابات تريحني.. لما التاريخ لم يكتب عنهم غير كلمات ذل وخيانة واحتقار..لما لم تقل عنهم أنهم ضحايا لضعفهم ووهنهم وفقرهم.. وأن الاختيار بين الوطن والموت كان صعبا..
كيف يمكن للإنسان أن تنقسم روحه إلى قسمين.. قسم محب وآخر خائن..هل الحب والخيانة نفسهما في زمن الحرب؟ أم هناك كلمة أخرى أقوى من كل هذا كلّه.. وأن ما حدث في حرب 54 في الجزائر كان أمرا حتميا.. كم تمنيت في تلك اللّحظة لوأغيّر مجرى الأحداث.. لوأستطيع العودة بالزمن إلى أكثر من نصف قرن.. لكن الزمن يمضي بسرعة.. والقدر سطّر آخر كلماته.. والتاريخ كتب بأحرف من ذهب على الحيطان..لا يمكننا محوه أوتغييره.. كل شيء موجود.. فقط لوأستطيع أن أمحي مسحة الذل على وجه والدي.. الذي يرفض الحديث منذ ذلك اليوم..وبقي محبوسا في غرفته.. قرّر الموت في صمت اليوم..كما خرج من وطنه بعد حرب التحرير.. متمنيا دفنه في أرض وتراب جزائرية.. فهل يمكنه اكتساب العفوبعد موته ويرى أخيرا وطنه بروحه بدلا من عيونه..؟
وأنا بعده أجد نفسي تائها بين وطني بالدّم ووطني بالتبني.. أصارع يوميا إحساسي باليأس.. محاولا تفادي نظرات الناس..أنتقل من مدرسة لأخرى كلّما اكتشف أحد حقيقة حياتي..وأفتّش منذ صبايا عن وطن لروحي..