هل تودون زيارة مملكتى؟
هل ترغبون بزيارة مملكتي، فأنا أسميها مملكة فكل بيته بالنسبة له مملكة على الرغم من فقدانه لكل ما يمت للمملكة الحقيقية بصلة، نعم إنها مملكتي ذلك البيت المتواضع الذي آخذ فيه زاوية صغيرة تدعى غرفتي الخاصة التي تحتوي على سرير صغير وخزانة لا بأس بها ومكتبة صغيرة أركن فيها كتبي الغالية جداً على قلبي، وبالمناسبة لم تكن لدي مكتبة، وبقيت كتبي سنوات طويلة مرمية على الأرض حتى إحدى نساء المملكة التي تتميز بتخلف مرضى طلبت مني أن أرمي هذه الكتب، تصوروا؟ تريدني رمي كتبي، عالمي الرائع الذي أنفقت عليه الكثير، وكان نصف ما أنفقت دَيناً من الأصدقاء والأقارب حتى يكون بحوزتي تلك الكتب؛ المتنفس الوحيد لي في منزلي، عفواً في مملكتى...!!!
دعونا من الكتب الآن، واسمحوا لي أن أصف لكم مملكتي، إذا رغبتم بزيارتها ستفاجئون أنها تقع وسط حي شعبي فيه الكثير من الأطفال، وفي المملكة عدد الأطفال لا يقل عن عددهم في الحي، فهل تعلمون كم طفلا لدي؟؟ إنهم ليسوا أولادي بل أولاد أخي، وأخي وأخي وأخي وأخي وأخي. نعم لدي ستة أخوة، وكل واحد منهم أنجب عدداً من الأطفال، فاحسبوهم رعاكم الله. أو لأقل لكم تعالوا لزيارتي وادخلوا غرفتي وسأغلق الباب، باب غرفتي الخاصة، وهنا المفاجأة حيث ذلك الباب سينفتح وينغلق مرات عديدة حسب عدد الأطفال، فما بالكم لو فتح الطفل الواحد الباب مرتين أو أكثر ثم أغلقه. وليس هذا وحسب بل ستكون هناك العديد من الطلبات من قبل الأطفال؛ وقلة منهم من يخجل في طلبه؛ فهذا يريد خمس ليرات، وذاك يسألني ماذا جلبت له من الخارج، فأنا كنت في عملي وأتيت وكأنه مطلوب مني أن أجلب أي شيء للأطفال.
وهل أحدثكم عن الطفل محمد الذي سرعان ما يأتيني إلى غرفتي عندما يشعر أنني فيها ليفتح الباب بسرعة جنونية وعندما يُفاجأ أن أحداً في زيارتي يحاول إغلاق الباب بهدوء.. أنتبه إليه وأنظر بخلسة فأراه يشير لي بأصابعه الخمسة أنه يريد خمس ليرات، وعلي الإذعان كي أضمن غيابه حتى يذهب الضيف، ولا أخفيكم أنني أعطيه لأُفاجأ بنقرة لطيفة على نافذة غرفتي في اللحظة ذاتها لأن محمود ذلك الطفل الشقي يكون يناديني بصوت منخفض، أسمعه، طبعاً فيطلب الطلب نفسه وعلي الإذعان مرة أخرى، وبعد ذلك سيقف الأطفال الآخرون طوابير على الباب يريدون ذات الشيء (الخمس ليرات).
ذات مرة لم أكن أمتلك نقودا على الإطلاق، وحدث أن الأطفال يريدون كل واحد خمس ليرات، ومن أين آت بها فهي ليست واحدة بل عدة خمس ليرات، فماذا أفعل؟ حتى هم تملكهم استغراباً أني لا أمتلك نقود، فكل واحد منهم يظن أن الخمس ليرات يجب أن تتوافر لدي حتى تصبح ملكاً لكل واحد منهم على الفور، لم يكن لدي؛ وهذه كارثة بالنسبة لهم ماذا سيفعلون لا بد من حل ولو تعلمون من وجد الحل، إنه محمود ذلك الطفل الشقي الذي دخل غرفتي ونظر حوله وكم كانت أعداد الجرائد كبير في الزاوية المقابلة للمكتبة فسألني هل تريدين هذه الجرائد، نظرت إليه بدهشة وسألته لماذا تسأل؟؟؟
أجابني: آخذهم وأعطيهم لصاحب المصبغة في الحي المجاور ويعطيني نقود فأوزعها على أخوتي وأولاد عمي.
دهشت لذلك الاقتراح ورضخت للأمر ووجدته حلاً مناسباً لحل معضلة هي كارثة بالنسبة لأطفال منزلي، عفواً مملكتي.
طرائف مذهلة ستلمسونها عندما تزورون مملكتي وأولها أن باب المملكة لا ينغلق نهاراً ولا حتى ليلاً، وكأنه باب بناء حديث وفيه شقق كثيرة وجميلة وأصحابها يجب أن يكون الباب الرئيسي لشققهم مفتوحاً لأنه باب الجميع، هل تعلمون لماذا يبقى الباب مفتوحاً ليلاً نهاراً لأن مفتاحه لا يوجد مع أحد من السكان القاطنين، ليس لأنه ضائع، بل لأن قفل الباب فجع ذات مرة بكسر المفتاح فيه منذ نحو سنوات عديدة لا أذكر عددها، وصدقوني إلى الآن لا يزال قفل الباب مفجوعاُ ومتألماً لأن بقية المفتاح ضربت القفل في الصميم. هذا الباب الخارجي طبعاً، ولندخل بضع أمتار لنجد باباً خشبياً ستطرقونه طويلاً حتى يتم فتحه رغم الأعداد الكبيرة الموجودة في الداخل، إلا أنكم ستنتظرون طويلاً وليس، هذا وحسب بل ستسمعون أصواتاً تقول: قومي أنت افتحي الباب، فترد عليها الأخرى: لماذا لا تقومين أنت، لتتدخل الأم وتبدأ مسبّاتها فتطلب من ابنها الصغير: قم وافتح الباب فيرد عليها: والله لن أفتحه لماذا لا يقوم غيري ويفتح الباب وهكذا حتى يُفتح الباب في النهاية.
إنكم ستحسدونني لا شك أنني أعيش داخل مملكة فيها من الروعة الشيء الكثير، لا بل من الطرائف الشيء الكثير.
والآن دعوني أصف لكم قفل باب غرفتي الخاصة، إنه مدهش لأن (ماسكة) الباب تقع على الأرض باستمرار، إذ بمجرد وضع كف اليد عليها فهذا كاف لرميها على الأرض، وهذا.. لا أخفيكم أنه يُتعب أعصابي، وأرجو ألا تصفوني بالمهملة بالنسبة لهذا الأمر لأنني قمت بإصلاحها مرات عديدة لكن عدد الأكف التي تلمسها يومياً يُعرضها للخراب فتركتها لشأنها لأنني مللت، وبصراحة أكثر فالنقود نفدت بالنسبة لهذه الحالة لأنها خسارة في النهاية.
ما علينا ادخلوا غرفتي وأتمنى أن تزوروا هذه الغرفة في فصل الشتاء حيث المدفأة الرائعة المدهشة التي بحوزتي، تصوروا فمنفذ الدخان ليس مصوباً على السطح كما هو متعارف عليه في الغرف الأخرى، بل اضطررت إلى ثقب الحائط المطل مباشرة على الحي وصنعت منفذاً للدخان، وربكم يعلم عندما يهب الهواء في الشتاء ماذا يحدث؟؟؟ صوت قنابل في غرفتي وغطاء المدفأة العلوي كم يقفز من مكانه ليصبح على الأرض، وكم تعرضت لإحراج عندما يكون في زيارتي أحد الناس أول مرة، لكن أخذت على الأمر وكذلك الأمر بالنسبة لمن أخذوا يترددون علي غرفتي، وأظنكم أنتم سترون في الحدث الجلل هذا طرفة ليس أكثر، طرفة مثيرة للضحك الممتع، وأرجو ألا تؤجلوا زيارتكم إلى فصل الصيف تعالوا في الشتاء لتروا العجب من مدفأتي العجيبة التي باتت حديثاً ممتعاً لدى الكثيرين ممن يزورونني، ولا أخفيكم أن هذه المدفأة أحبّت بل وتحب في كل فصل شتاء أن تزيّن الحيطان المحيطة بها بلون رمادي تكسي به كل حائط، ولكنها أنانية بعض الشيء لأنها تزوّد الحائط الذي بجانبها مباشرة بزيادة كبيرة من اللون الرمادي ليصبح أسود قليلاً.
حتى الجمادات تتميز بأنانية مفرطة بعض الشيء أحياناً.
اتركوني من المدفأة ودعوني أصحبكم باتجاه مكتبتي التي صنعتها بنفسي من الحديد الرخيص الثمن وثبتها على الحائط، كتب كثيرة لدي: سياسية، اقتصادية، علوم، روايات، قصص قصيرة، دراسات ونقد، كل شيء، لكن أي كتاب سيتناوله أحدكم ويتصفحه، لا بد، بل يجب عليه أن يغسل يديه بعد تصفحه مباشرة لأن أصابعه ستصاب بالغيرة من الحيطان لأنها ستتلون، ليس بلون رمادي، بل بلون أسود، اعذروني هذه الحقيقة لكنكم ستجدون كتباً رائعة ستعذر للون الأسود تعلقه على أصابعكم، فهذه المؤلفات الكاملة لبلزاك إذا أحببتم، وذاك الركن لنزار قباني، وتحتوي مكتبتي أيضاً على المؤلفات الكاملة لمحمود درويش، وثمة ركن خاص جداً للكاتب حسن حميد: كتبه، مقالاته، دراساته.. وكل شيء استطعت الحصول عليه لهذا الكاتب الذي أحترمه جداً. وهنا روايات من الأدب العالمي ومسرحيات عديدة عالمية وعربية ومحلية. والكثير الكثير ألا تستحق هذه المكتبة بما تحتويه بأن تمنّ عليكم ببعض من السواد على أصابعكم.
وبعد كل هذا الجهد فلا بد أن أقدم لكم شيئاً وذنبكم على جنبكم في حال طلبتم فنجان قهوة فالقهوة عندي لن تشربوها سوى بفناجين مختلفة فهذا قد تعرض لكسر بسيط ويمكن أن يستأنف اللون الأسود على أصابعكم لأن القهوة ستتسرب ببطء من الكسر المؤلم للفنجان، وربما تحتاجون أصابعكم كلها لتحملوا الفنجان الآخر لأن أذنه قرفت منذ زمن طويل ربما لأنه ينصت لأحاديثنا فقرفتها له، وعفواً يجب أن أقدم لكم الماء مع القهوة طبعاً هذه العادة غير موجودة لدي وإذا عطشتم وأردتم رشف الماء فسترشفونها من عدة أشياء صحن صغير أو من وعاء القهوة فلست أمتلك كأساً زجاجية لهذا الشأن
عفوا لست لأني فقيرة لا أستطيع شراء كأس ماء، بل لأننا في اليوم الواحد نضحّي بالعديد من الكؤوس، فنحن نحتفل بعيد الأضحى يومياً في مملكتنا. وإياكم ثم إياكم أن تطلبوا مني أي منكر، لأن هذا الشيء ممنوع في مملكتي، فثمة ديانة متسلطة على الناس في تلك المملكة تمنع اقتناء هذه المشروبات، وعلى الرغم من شغل عدد كبير من شبان المملكة في أماكن تقدم هذه الأشياء وبيني وبينكم لا أعرف إذا كانوا يتعاطونها أم لا. المهم أنها مرفوضة في غرفتي الصغيرة ولكن يمكن تهريبها واحتسائها بحذر ولا تنسوا أنني موقع مملكتي وسط حي شعبي ونسيت أن أخبركم أن نصف أهل هذا الحي يعملون في التهريب فلماذا لا نجاريهم مرة واحدة على الأقل لن نضر أحداً بتهريبنا لزجاجة نبيذ واحتسائها والتحليق في جو إلهي رائع، هل سنضر أحداً بالطبع لا...
ويمكنكم الإحساس برعب حقيقي لأنكم ستسمعون أصواتاً عالية آتية من خارج غرفتي الخاصة لأن أحد الحاشية في المملكة سيكون غاضباً جداً وسيبدأ بكسر كل ما يقع أمامه وما عليكم سوى الإنصات والدهشة، نعم، الدهشة، و ستسمعون مسبّات مخزية أرجوكم أن تصمّوا آذانكم كي لا تسمعوها أو... لا أدري ماذا أقول لكم... انسوا.....
هل تودون زيارتي سأنتظركم وهذا عنوان مملكتي: حي البؤس، الزاوية المهملة، مملكة: طرائف من الأحياء الفقيرة.
مشاركة منتدى
17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008, 13:31, بقلم بسمة الدمشقية
اسمحيلي سيدتي ان ابدي اعجابي بماقراته ...شدتني العفوية في السرد ...الوافقية الصادقة ....الاسلوب
الجميل.
ولكن ما شدني كثيرا وتبسم له قلبي ايضا ...بانك احيانا تتكلمين عن اشياء اشاركك فيها....فاسعدني
ذلك .واعتبرته بشرى خير لي مادمت اهوى الكتابة وازاولها
تحياتي ....وتقديري ...وخالص احترامي
19 كانون الأول (ديسمبر) 2008, 00:30, بقلم ابرق الرغامة
يالها من مملكة جميلة وملكة رائعة في هذا القصر الصغير ، الذي لا يحتاج الا الى برواز صورة ، متمنيا ان اكون صاحب الصورة
30 كانون الثاني (يناير) 2012, 02:31, بقلم رياض علي
مملكة ذات جمالية فريدة .. أحببتها دون أن أزورها .. وتدفأت من دفء مدفأتها .. و قرأت ما رأيته على تلك الرفوف الحديدة ..
وصف رائع أستاذة مريم ..
لك ِ جل احترامي
رياض علي