هذيان مقبرة
فجأة ً
دخلت ُ في اللوحة .. لم أتشكـّـل بعد ُ .. كنت ُ وراء الألوان بلا وزن أدور كذرة ماس ٍ تاهت بين المجرات .
نبضي يتراذذ ُ لينبت الصمت و الصوت و الصدى .. جحافل من الشهـُـب تزنـّـر أشلائي , و العدم يخاصر البقاء مثل شريط المورثات الحلزوني . البُـعد ُ المفقود من الكون يرى معي الناس أشباحاً , هياكلَ عظمية , أحلاماً محترقة , و أجساداً جوفاء .. الشمس طبلٌ إفريقيّ . و الإيقاع العظيم يفتن الغياب , فأندلع ناراً تتملص من رحم الماء الأزلي . الأشواك العملاقة تتملــّـص من بياض اللوحة . الغابات تسبح في النهر . و الضباب جرس ٌ صغير تلهو به طفلة تخرج الآن من بصيرة الآتي .. تتلفـّـت الحيرة , تقطف موجة ً و ترتدي معنى .. حركة ستحضر ترشق هواجسي على مشهد آخر من اللوحة الهلامية , فأراه قبراً يمشي بين النجوم .. أعانق الشاهدة لعل قبلتي تصل إلى جبينه المتعرق . يفتح عينيه غير الموجودتين . يدمع التراب . الجمجمة مركونة قرب حلم لا ينام لأنه على ما يبدو لن ينتهي من التحديق في المجهول . تقترب مني جاذبية اللغة , فأنكمش نقطة ً في مدار متصوّف يدور , يدور حولي أنا الدائرة حولي و فيّ ..
بروق .. رعود .. شطحات .. و خطفة يلمع من خلالها وجهه .. الروح تنسحب من حجارة القبر , من الأعشاب التي ستكون في ربيع قادم .. الروح تحضنني .. كم هو دافئ حضنك يا أبي .. ألمس الحجارة .. باردة تماماً .. مرتجفة تماماً .. لكنها محمومة مثلي .. الحمّـى ريحان و زيزفون و صفصاف .. و جسده يتضخم سحابة بنفسجية تغطي المقبرة . عظامي ترعش الموتى , فينطق الحصى :
" سبحان الحي الذي لا يموت " .. السحابة تحط ّ في اللا مكان تاركة ً أجنحتها الشفيفة حواجز بين العالم الانكيدوي و العالم الجلجامشيّ .. نزيف هائل يعيد الطوفان .. مخيلتي سفينة , و الحمامة قلبي .. أستخرج السؤال , و أجعل الموت حياة لا تشبه الحياة .. تتراصّ الألوان .. تنكمش .. تزول .. تتماهى اللوحة معي و بي .. الموسيقى ترن ُّ في فج ّ عميق من الرؤيا .. الشاهدة بحر ٌ لا هادئ لا صاخب .. الشاهدة أنا , و أنفاسي معارج بين سماء و سماء .. كنت ُ وضعت ُ المجهول خاتماً في إصبعي و نسيت ُ أن أفركه في اللحظة الخارجة عن الزمن .. و حين ذكـّـرتني الإشارات , اصطدمت ُ بنفسي , فتلامس المجهول بمجهولـه
انصعقت الكلمات .. من آنها , اختفت اللوحة في كهف الأسطورة , و تمرأت الأرض بدمائي فاعشوشب الوقت وراء الوقت , و تاهت الإيماءات في اللهب .. أنين النار جروحي , و هذا الاتساع المجرد بعضي .
لن تنساه جدران بيتنا الذي هدم الآن ليصير مبنى عالياً , و ستذكره الياسمينات الميتة منذ ربع قرن .. ربما لأن بياضها كلماته , أو ربما لأن روائحه أول الرموز إلى الدلالة .
ألتفّ عليّ .. المقبرة ساهية في أمر ما , و الموتى يتهامسون عن أحوالي .. هل كنتُ جنيناً بين شاهدتين ؟ أم ما زلت ُ روائح بلــّـورية ما إن تلامس التراب حتى يتحول إلى ورود مسحورة .. ؟
بياض قديم يخرج , لتوّه ِ , من اللا مكان ..
هيكله العظمي يكتسي لحمه السابق . عيناه تنفتحان على آخر رشقة للزمان .. لا بصعوبة , و لا بسهولة , يخرج من القبر .. يده الحنون تمسح شعري . تزيح الدموع .. يبتسم .. فتنعكس البسمة من روحي . يحضنني صدره و قبره .. تحضنني السماء :
ـ الله يرضى عليك ِ ..
قالها فابترد قلبي و بكت معي أمواج ستكون ..
منذ أول زمان للزمان , و البحر يعج ّ بأحلام المراكب , بينما النوارس فتحمل معها خبايا الكلام لتزفها إلى الرمال هناك , ستنبت الخرافة كوخاً في جزيرة لا مرئية . قد ينوح القصب , لكنه سيظل مشتعلا ً بآلامي ..
يده تمسح دمعاتي , فنبتسم :
ـ لا تحزني , فالله موجود ..
تنطفئ الحمّـى قليلا ً . أرتاح كالخرافة المنعزلة , أحضنه قائلة :
ـ أبي , أنت تعلم بأني جئت لوداعك , و أنتظر دعاءك بالتوفيق .
ـ وفقك الله في الدنيا و الآخرة يا غاليتي . لكن , كوني على حذر من هذا الشخص .. فأنا لا أريدك أن تستمري في حياتك الزوجية معه .. إنه خبيث , لئيم , حقود , يريد تحطيمك و يفرح بتعاستك .. افتحي بصيرتك أكثر يا ابنتي .. بأمان الله ..
لم يسمع الرجل الممسوخ ما قاله أبي لكنني حدقتُ فيه أكثر .. حدقتُ كما لم أفعل من قبل .. فرأيته الجحيم الذي يلتفّ حولي كتنين رهيب .. اقشعرّت روحي و كلماتي .. استعذت بالله من الشيطان و منه .. بالفعل , لم أكن مقتنعة به زوجاً , لكنه ظل أكثر من ثلاث سنوات يقنعني بنفسه .. يظهر بمنتهى اللطف و الحنان
والحميمية .. يذكر بلاط بيتنا كم مرة قبّـل قدميّ لأقبل به .. و ما إن وافقت و بدأت حياتنا بزواج على الأرصفة في انتظار وعوده التي لن تأتي , حتى تقشر جلده الصناعي , و بدأت أفاعيه السيكوباتية بلدغي ليلا ً نهاراً فقط .. و كلما نجحت أكثر منه في الإبداع , كلما هاج جحيمه مذعوراً .. ربما لو كنتُ في فلسطين مع المناضلين لشعرتُ بأن معاملة إسرائيل أرحم منه .. كنتُ واهمة فأنا أحببتُ فيه فلسطين التي لا يستحقها .. الله وحده يعلم كم لاقيت منه عذاباً , ظلماً , ابتلاء , الخ .. فكل مسيرة حياته معي في السنوات الماضية هي أكثر من جهنم .. ربما أستحق ما حدث معي لأن الله , ذات حلم و رؤيا , أراني روحه ذئباً , و لم أعتبر .. كنتُ أقف على هضبة .. و كان الحلم من كل حلم يأتيني .. و كان هو أسفل الهضبة المعشوشبة المشجرة .. كان في ما يشبه واد أجرد .. يستغيثني بلا صوت .. أمد يدي و أرفعه .. الآن أنا و هو على الهضبة .. و حين أنظر إليه , أراه يقف بجبروت , و أرى قرب رأسه روحه و قد تصيّـرت رأسَ ذئب يقف قرب كتفه الأيمن .. تتخطفني المعاني .. فأصحو لتمحو براءتي آثار الحلم ..
و ها هي اللحظة تستعيد ما محت ..
ـ أبي .. أنا نادمة على كل شيء .. يائسة من كل شيء .. مهاجرة مجهولا ً إلى المجهول .. لا حول لي و لا قوة إلا بالله ..
ـ ...
يتفلـّـت القبر مني .. يتسرب أبي إلى التراب .. تعود المقبرة إلى أسرار هدوئها .. و معزوفة نارية تتفلـّـت من الأقاصي , مني , و من كل شيء ..
الرجل الذئبي يستغرب خشوعي و تقبيلي لرأس أبي و قدميه من خلال الحجارة .. يفتح يديه لقراءة الفاتحة .. الورود المنثورة على القبور تسبّـح و تستغفر .. الأثير يبتهل .. و روحي تترك في الفراغ أثراً لنص لم يُـكتب بعد .. خطواتي دون رغبة تقترب من بوابة المقبرة .. نسيتُ جسدي في باطن الأرض , و غادرت .. لستُ هنا و لست هناك .. و البرزخ يتسع .. و على الرصيف المقابل حيث ننتظر سيارة أجرة , رأيت رأس أبي يرتفع بسرعة , يتضخم بسرعة , و من فوق سور المقبرة , يقول :
ـ الله و رضاي معك ..
إذن , لست في غربتي وحدي .. هنا , داخل المسافات , و خارج الأمكنة , ما زال صوته متأرجحاً يدعو لي .. و خصلات شعره تلوح كحكاية سكرى .. بينما الرجل الذئبي ما زال في تلك البلاد لا يكفّ عن إحراقي ..
اللهب حولي يقول للهب : كن ثلجاً و كلاماً ..
المقبرة سفينة تسبح في دمي ..
و أنا , بعد هذه القصة , سأصير موسيقى النار المنفية وراء النار ..
هل تسمعون ما يتشكل في اللوحة ؟
هل ترونني جنيناً في الأرحام ؟ اللوحة أمي و المقبرة و اللغة .. فمن أين يبدؤوني مجهولي ؟
مشاركة منتدى
4 تشرين الأول (أكتوبر) 2007, 18:16, بقلم يونس عفنان
لا أعرف ماذا أسمّي هذا النص ؟ شعر ؟ نثر ؟ مقال ؟ نحت ؟ رسم ؟ سحر ؟ أعصار ؟
لكنه ذكرني بالمعركة ! لأن الكلمات و الجمل و الصور الرائعة تنهمر دون توقف كالرصاص بحيث تظطرك للأنجناء...
لقد أنحنيت دون مبالغة حتى كاد رأسي يدخل في شاشة الكمبيوتر.
أنه أبداع يستحق الأنحناء .