الخميس ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

هدية العام الجديد

قصة: جي دو موباسان

جلس جاك دو راندال، بعد تناوله العشاء بمفرده في المنزل، وأخبر خادمه أنه يمكنه الخروج، ثم توجه إلى مكتبه ليكتب بعض الرسائل.

كان ينهي كل عام على هذا النحو، يكتب ويتأمل. كان يستعرض أحداث حياته منذ يوم رأس السنة الماضي، الأشياء التي أصبحت الآن ماضية وميتة؛ وكلما ظهرت وجوه أصدقائه أمام عينيه، كتب لهم بعض السطور، تهنئة قلبية بمناسبة الأول من يناير.

جلس إلى مكتبه، فتح درجًا، وأخرج منه صورة امرأة. نظر إليها لبضع لحظات وقبّلها. ثم وضعها بجانب ورقة رسائل وبدأ الكتابة:

"عزيزتي إيرين: لا بد أنكِ قد استلمتِ الآن التذكار الصغير الذي أرسلته لكِ، والذي وجهته إلى الخادمة. لقد أغلقتُ على نفسي هذا المساء كي أقول لكِ——"

وهنا توقف قلمه عن التحرك. نهض جاك وبدأ يمشي ذهابًا وإيابًا في الغرفة.

منذ عشرة أشهر كان لديه عشيقة، لكنها ليست كغيرها. لم تكن امرأة تنخرط معها في علاقة عابرة، من عالم المسرح أو النساء ذوات السمعة المشبوهة، بل كانت امرأة أحبها وربحها. لم يكن شابًا صغيرًا، لكنه كان لا يزال شابًا نسبيًا بالنسبة لرجل، وكان ينظر إلى الحياة بجدية وبروح إيجابية وعملية.

وفقًا لذلك، بدأ بوضع ميزانية شاملة لعاطفته، تمامًا كما كان يفعل كل عام حين يعد ميزانية صداقاته التي انتهت أو تلك التي عقدها حديثًا، وكذلك الظروف والأشخاص الذين دخلوا حياته.

هدأ أول شغف الحب في قلبه، وبدأ يسأل نفسه بدقة تاجر يجري حساباته، ما هو حال قلبه تجاهها، وحاول أن يتصور ما سيكون عليه في المستقبل.

وجد في قلبه عاطفة كبيرة وعميقة؛ مزيجًا من الحنان والامتنان والألف التفاصيل الدقيقة التي تخلق روابط طويلة الأمد وقوية.

رنّ جرس الباب فجأة، فانتفض. تردد. هل عليه فتح الباب؟ لكنه قال لنفسه إنه يجب دائمًا فتح الباب في ليلة رأس السنة لاستقبال الغريب الذي يمر ويطرق، مهما كان.

أخذ شمعة من الشمع، ومرّ عبر المدخل، وأزال المزاليج، وأدار المفتاح، وفتح الباب. هناك، رأى عشيقته واقفة شاحبة كالجثة، متكئة على الحائط.

تلعثم: "ما بكِ؟"

ردت: "هل أنت وحدك؟"

"نعم."

"دون خدم؟"

"نعم."

"وأنت ألن تخرج؟"

"لا."

دخلت بملامح امرأة تعرف المكان جيدًا. وما إن وصلت إلى غرفة الجلوس، حتى سقطت على الأريكة، وغطّت وجهها بيديها، وبدأت تبكي بحرقة.

ركع عند قدميها وحاول أن يبعد يديها عن عينيها كي ينظر إليهما، وهتف:
"إيرين، إيرين، ما بكِ؟ أتوسل إليكِ أن تخبريني ما الذي يحدث؟"
ثم، بين شهقاتها، همست:
"لم أعد أستطيع العيش هكذا."
"العيش هكذا؟ ماذا تعنين؟"
"نعم. لم أعد أستطيع العيش هكذا. لقد تحملت الكثير. لقد ضربني هذا العصر."
"من؟ زوجكِ؟"
"نعم، زوجي."
"آه!"

شعر بالدهشة، إذ لم يكن يتصور أبدًا أن زوجها يمكن أن يكون عنيفًا. كان زوجها رجلًا من الطبقة الراقية، من رواد النوادي، عاشقًا للخيول، مداومًا على حضور المسرح، ومبارزًا ماهرًا بالسيف. كان مشخصا مشهورا، يتحدث عنه الجميع، ويحظى بتقدير في كل مكان، بفضل لباقته، على الرغم من عقله المتواضع، وغياب التعليم والثقافة الحقيقية التي تُعين على التفكير كرجل من الطبقة المثقفة. وأخيرًا، كان يمتلك احترامًا صارمًا للأعراف الاجتماعية.

كان يبدو مكرسًا لزوجته، كما ينبغي لرجل من أصحاب الثراء والنسب أن يكون. أظهر اهتمامًا كافيًا برغباتها، وصحتها، وملابسها، وما عدا ذلك، تركها حرة تمامًا.

كان راندال، بصفته صديق إيرين، يستحق المصافحة الودية التي يجدر بكل زوج مهذب أن يمنحها لصديق زوجته المقرب. ثم، عندما تحول جاك، بعد فترة من كونه صديقًا، إلى عشيق، أصبحت علاقته بالزوج أكثر وُدًّا، كما تقتضي اللياقة.

لم يكن جاك قد تخيل أبدًا أن هناك عواصف تعصف بهذا المنزل، فشعر بالارتباك بسبب هذا الكشف غير المتوقع.

سألها:

"كيف حدث ذلك؟ أخبريني."

فبدأت تحكي قصة طويلة، التاريخ الكامل لحياتها منذ يوم زواجها. أوضحت أن أول خلاف نشأ بسبب شيء تافه، لكنه تفاقم مع كل اختلاف جديد في وجهات النظر بين شخصيتين متباينتين.

ثم جاءت المشاجرات، والافتراق الكامل، الذي لم يكن ظاهرًا لكنه كان حقيقيًا. وبعد ذلك، أظهر زوجها سلوكًا عدوانيًا وشكوكًا وعنفًا. الآن، أصبح غيورًا، غيورًا من جاك، وفي ذلك اليوم بالذات، بعد مشهد حاد، قام بضربها.

وأضافت بحسم: "لن أعود إليه. افعل بي ما تشاء."

جلس جاك قبالتها، وركبتيهما متلامستان. أمسك بيديها وقال:

"حبيبتي، أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح لا يمكن إصلاحه. إذا كنت تريدين ترك زوجك، اجعليه هو المخطىء، حتى تحافظي على مكانتك كامرأة محترمة في المجتمع."

سألته بقلق وهي تنظر إليه:

"إذن، ماذا تنصحني؟"

"أن تعودي إلى منزلكِ وتتحملي حياتكِ هناك حتى اليوم الذي تتمكنين فيه من الحصول على الانفصال أو الطلاق، مع الحفاظ على كرامتكِ."

"أليس هذا الذي تنصحني به يُعد نوعًا من الجُبن؟"

"لا، بل هو تصرف حكيم وعقلاني. لديكِ مكانة رفيعة، وسمعة لتحميها، وأصدقاء يجب الحفاظ عليهم، وعلاقات عليك التعامل معها. لا يجب أن تفقدي كل هذا بسبب نزوة عابرة."

نهضت وقالت بغضب:

"حسنًا، لا! لا أستطيع تحمل الأمر أكثر من ذلك ! انتهى الأمر! انتهى!"
ثم وضعت يديها على كتفي عشيقها، ونظرت إليه مباشرة في عينيه وسألته:
"هل تحبني؟"
" نعم."
"حقًا وبصدق؟"
"نعم."
"إذن ابقيني معك."

صرخ قائلاً:

"أبقيك؟ في منزلي؟ هنا؟ يا إلهي، أنتِ مجنونة. هذا يعني خسارتكِ إلى الأبد؛ خسارتكِ بلا أمل في استرجاعكِ! أنتِ مجنونة!"

فردت ببطء وجدية، مثل امرأة تدرك ثقل كلماتها:

"اسمع يا جاك. لقد منعني من رؤيتك مجددًا، ولن أمثل هذه الكوميديا بالمجيء سرًا إلى منزلك. عليك إما أن تخسرني أو تأخذني."

عزيزتي إيرين، في هذه الحالة، احصلي على الطلاق وسأتزوجكِ."

نعم، ستتزوجني خلال... عامين على الأقل. حبك صبور للغاية."

"اسمعيني! فكري جيدًا! إذا بقيتِ هنا، سيأتي غدًا ليأخذكِ، كونه زوجكِ، وكونه يملك الحق والقانون في صفه."

"لم أطلب منك أن تبقيني في منزلك يا جاك، بل أن تأخذني إلى أي مكان تختاره. ظننت أنك تحبني بما يكفي لفعل ذلك. لقد أخطأت. وداعًا!"

استدارت وتوجهت نحو الباب بسرعة كبيرة لدرجة أنه لم يستطع الإمساك بها إلا عندما كانت قد خرجت من الغرفة:

"اسمعي يا إيرين."

كانت تقاوم وترفض الاستماع إليه. كانت عيناها مليئتين بالدموع وهي تردد بتلعثم:

"دعني وشأني! دعني وشأني! دعني وشأني!"

أجلسها بالقوة، وركع مرة أخرى عند قدميها، وبدأ يطرح عليها العديد من الحجج والنصائح ليجعلها تدرك حماقة وخطورة مشروعها. لم يغفل شيئًا اعتقد أنه ضروري لإقناعها، حتى وجد في حبه لها دوافع للإلحاح عليها.

ولكنها بقيت صامتة وباردة كالجليد. توسل إليها، ناشدها أن تستمع إليه، أن تثق به، وأن تتبع نصيحته.

وعندما انتهى من حديثه، لم تجبه إلا بقولها:

"هل تنوي أن تتركني أرحل الآن؟ أزل يديك لأتمكن من الوقوف."

" اسمعيني، يا إيرين."

"هل ستتركني أرحل؟"

"إيرين، هل قراركِ هذا لا رجعة فيه؟"

"هل ستتركني أرحل؟"

"أخبريني فقط، هل هذا القرار، هذا القرار الجنوني الذي ستندمين عليه بمرارة، لا رجعة فيه؟"

"نعم..دعني أرحل!"

"إذن ابقي. أنت تعلمين جيدًا أن هذا منزلك. سنرحل صباح الغد."

نهضت رغمًا عنه وقالت بنبرة قاسية:

"لا. لقد فات الأوان. لا أريد تضحية، ولا أريد تفانيًا."

"ابقي! لقد فعلتُ ما يجب علي فعله؛ قلتُ ما يجب علي قوله. لم أعد مسؤولًا عنكِ. ضميري مرتاح. أخبريني ما تريدينني أن أفعله وسأطيع."

استأنفت جلوسها، ونظرت إليه طويلاً، ثم سألته بصوت هادئ جدًا:

"حسنًا، إذن، وضح."

"أوضح ماذا؟ ما الذي تريدينني أن أشرحه؟"

"كل شيء—كل ما فكرت فيه قبل أن تغيّر رأيك. ثم سأقرر ما يجب أن أفعله."

"لكنني لم أفكر في أي شيء على الإطلاق. كان علي أن أحذرك من أنك كنتِ على وشك ارتكاب حماقة. وأنتِ تصرين؛ إذن أطلب أن أشاركك في هذه الحماقة، بل وأصر على ذلك."

"ليس من الطبيعي أن يغير المرء رأيه بهذه السرعة."

"اسمعيني، حبيبتي. الأمر هنا لا يتعلق بالتضحية أو التفاني. في اليوم الذي أدركت فيه أنني أحبك، قلت لنفسي ما يجب على كل عاشق أن يقوله لنفسه في مثل هذا الموقف:

’الرجل الذي يحب امرأة، والذي يبذل جهدًا لكسبها، والذي يفوز بها، والذي يأخذها، يدخل في عقد مقدس مع نفسه ومعها. هذا، بالطبع، في حالة التعامل مع امرأة مثلك، وليس مع امرأة ذات قلب متقلب وسهل التأثر.’

"الزواج، الذي له قيمة اجتماعية كبيرة وقيمة قانونية عظيمة، لا يمتلك في نظري إلا قيمة أخلاقية ضئيلة جدًا، بالنظر إلى الظروف التي يتم في ظلها عادة.

"لذلك، عندما تكون امرأة مرتبطة بهذا القيد القانوني، لكنها لا تحمل أي ارتباط عاطفي تجاه زوجها، الذي لا يمكنها أن تحبه، فهي امرأة قلبها حر، تقابل رجلاً تهتم به وتعطيه نفسها، وعندما يأخذ رجل لا تربطه أي صلات أخرى هذه المرأة بهذه الطريقة، أقول إنهما يتعهدان تجاه بعضهما البعض بهذا الاتفاق المتبادل والحر أكثر بكثير من قول ’نعم’ في حضور القاضي."

"أقول إنه إذا كان كلاهما شخصين شريفين، فإن ارتباطهما سيكون أعمق وأكثر صدقًا وأكثر نقاءً من أي رابطة قدسها أي طقس ديني."

"إن هذه المرأة تخاطر بكل شيء. وذلك لأنها تعلم ذلك، ولأنها تعطي كل شيء، قلبها، وجسدها، وروحها، وشرفها، وحياتها، لأنها توقعت كل البؤس، وكل المخاطر، وكل الكوارث، لأنها تجرأت على القيام بعمل جريء، عمل شجاع، ولأنها مستعدة، ومصممة على مواجهة كل شيء – زوجها، الذي قد يقتلها، والمجتمع، الذي قد ينبذها. لهذا السبب تستحق الاحترام وسط خيانتها الزوجية؛ ولهذا السبب يجب على عشيقها، حين يأخذها، أن يتوقع كل شيء أيضًا، وأن يفضّلها على الجميع مهما حدث. ليس لدي المزيد لأقوله. تحدثت في البداية كرجل عاقل واجبه أن يحذرك؛ والآن أنا مجرد رجل – رجل يحبك – آمري، وأنا أطيع."

عند ذلك ابتهجت، وأغلقت فمه بقبلة، وقالت بصوت منخفض:

"هذا غير صحيح، حبيبي! لا يوجد شيء خطأ! زوجي لا يشك في شيء. لكنني أردت أن أرى، أردت أن أعرف، ماذا ستفعل إذا تمنيت هدية من هدايا رأس السنة—هدية قلبك—هدية أخرى غير العقد الذي أرسلته لي. لقد قدمتها لي. لقد منحتني إياها. شكرًا! شكرًا! الحمد لله على السعادة التي منحتني إياها!"

(النهاية )

الكاتب : جي دو موباسان/ Guy de Maupassant: يُعد جي دي موباسان، الذي يُعترف به عالميًا كأب للقصة القصيرة الحديثة، من أبرز الكتاب الذين اشتهروا ببراعته في بناء الحبكات. وُلد في نورماندي وكان تلميذًا لفلوبر، الذي قام بتوجيهه في بداية مشواره الأدبي. كانت أولى قصصه، "كرة الشحم" (1880)، تُعتبر من روائع الأدب، واستمر في الكتابة بشكل منتظم، منتجًا من اثنين إلى أربعة مجلدات من القصص سنويًا، بالإضافة إلى أعظم رواياته، "بيير وجان". كان غنيًا ومشهورًا، لكنه أصيب بمرض الزهري وتم تشخيصه بالجنون في عام 1891. توفي موباسان في عام 1893، قبل أن يكمل عامه الثالث والأربعين، بعدما كتب لنفسه نعيًا: "لقد رغبت في كل شيء ولم أستمتع بأي شيء".

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى