نهر الرعب
عشر سنوات مرت على آخر طوفان اجتاحتنا المياه فيه وحفرت قنوات وأخاديد في عقولنا امتلأت شيئا فشيئا بالرطوبة والعفن والانتظار، متى يكون الموعد القادم لاأحد يدري ؟ هل سيكون الدمار كليّا أم جزئيا ؟ ولطالما هيأت نفسي للغرق والتورم إثر ابتلاع كميات المياه الهائجة، وفي أفضل الأحوال إن عشت للنهب والسرقة من قبل لصوص مدينة الأسياد.
لقد كانت سنوات إعادة تأهيل ما بعد الطوفان أقسى من الحادثة ذاتها، صدقني إن أصعب مهمة على الإطلاق هي أن تُقنع طفلا بأنه سيستيقظ غدا ليجد والديه بجانبه، أو أن تُجبره على شرب كأس الحليب بعد أن تأذت معدته بسيوف الحصى والرمال والمياه القاتلة، هذا عن الصغار في بلدي، ولاعتب إذا كنت أنا والكثيرون أمثالي ننام ونحن نمسك بطرف السرير أو بالطاولة بدون إرادة منّا ونظل نتحرك ونخبط بأيدينا وأرجلنا حتى نستيقظ ونحن على الأرض، من مات غرقا تعذّب ثم ارتاح، أما نحن الناجين فلازلنا نتعذّب وباختصار نتحسّر على الماضي ونعاقب الحاضر ونظلم المستقبل، لكن وقبل أن أفقد احترامي لإنسانيتي وللبشرية على الإطلاق، وفي لحظة إنصاف للمستقبل الذي قد لايكون بمقدار مانتوقعه من سوء، انتابتني نفحة حب للحياة ونظرت لأولادي وزوجتي وصورة والدي المعلقة على الحائط " أبو مخلص " شيخ العطارين في البلدة والله لقد سمعته يقول : هيا
تلفّتُ حولي متسائلا : إلى أين تريدني أن أذهب ؟
أجاب : إلى حيث يجب أن تكون.
ومن فوري توجهت لمحل العطارة لأفتحه من جديد، ولأتابع ممارسة مهنة أجدادي، ولكن ياللأسف فالمحل أنقاض حجارة على أنقاض بشر، وبالرغم من أنه قد تمّ تنظيف المدينة من سنين إلاّ أنّ المأساة ظلت تعضّ على شفاهها، ولاأحد يستطيع تنظيف حلقها من الشتائم والسباب واللعنات على الظلم، وعلى الخوف، وعلى تعنت النهر والمدينة المجاورة.
وبمواجهة رائحة الموت المنتشرة حولي لم يكن أمامي سوى العطور، كنتُ بحاجة إلى كل تلك الكميات من الزهور والأوراق والنباتات لأستنشقها دفعة واحدة، فيتحسّس أنفي وتسيل الدموع من عينيّ على من قضى غرقا، وخلال أسابيع جهزتُ معملا صغيرا وهو عبارة عن غرفة في منزلي تشرف مباشرة على النهر وطلبتُ من عملاء والدي في الخارج تأمين كميات من الزيوت المستخلصة من أزهار كثيرة منها اللافندر والياسمين وزهر البرتقال والقرنفل والنرجس وغيرها، وبدأتُ أعمل من جديد وأخلط الزيت العطري المركّز مع الماء المقطر والكحول ثم أضيف مادة الفوّاح التي تنثر العطر في الأجواء، وكل هذا وفق أسرار وفنون الصنعة التي أتقنها لأحصل في النهاية على أنواع غريبة وفخمة من العطور أعرضها على زوجتي المتميزة بحاسة شمها، ومن ثم أقوم بتصديرأغلبها للخارج، حتى إني طوّرت نفسي وأنتجت زيوتا صناعية مشابهة للزيوت الأصلية، ولهذا ذاع صيتي في بلدي وخارجه، إلّا أني لم أنس النهر لحظة ولم أنس ما فعلته مدينة الأسياد بنا ـ تخيّل إذا طاوعك عقلك ـ لقد فتحت السد الذي تتحكم به لتصنع أقذر طوفان يدوي تفوّقت فيه الطبيعة على البيئة، حصد الأخضر واليابس وأودى بحياة مدينة كاملة، مات من مات غرقا ومن نجا مازال يُجمّع أشلاءه وهو ينتفض من حلاوة الروح وهذا ما دفعنا إلى تدعيم جدران منازلنا وجعلها عالية قدر المستطاع، ولولا الشبابيك لاعتقدتم أننا نزلاء أحد السجون لكن ما باليد حيلة فهذا حكم النهر على الضعيف أو بالأحرى حكم مدينة الأسياد التي عاقبتنا لأننا تأخرنا في دفع الضريبة لها.
استمررت بالعمل في ظل هذه الذكرى التي تأبى أن تظل ذكرى، لقد جعلتْ قلبي يتزامن مع كل رجفة ماء غير طبيعية فيه، وكثيرا ما كنتُ أترك ما بيدي لأحدق فيه وهو مستكين وهادئ، إن الوحوش النائمة في قاعه إلى أجل غير مسمى لاتُطمئن، ومتى تدق بذيولها ناقوس الخطر لاأحد يدري ؟ ولكن بالرغم من تشوّش عقلي ومن أعمالي وأشغالي لم أتوان يوما وأنا في شرفتي من أن أفرغ محتويات زجاجة كبيرة من العطر الطارد للشياطين في حلق النهر.
ومع مرور الوقت تغلبت شيئا فشيئا على مخاوفي وازدهرت تجارتي بالعطور وصرتُ المُصَدِّر الأساسي للشرق والغرب ولم أبخل أنا وغيري من التجار والأغنياء في دعم خزينة المدينة فانتعش الاقتصاد وعادت للمدينة معالمها بعد طول غياب، واستمر الحال على ما هو عليه إلى أن جاءني في أحد الأيام وفد من مدينة الأسياد طلب مقابلتي أنا وبقية التجار، ولقد دار الاجتماع طبعا بعد التهديد والوعيد حول نقطة أساسية وهي احتكار تجارة العطور بشكل خاص وكافة أنواع التجارة بشكل عام لصالحهم بحيث يتم التصدير عن طريقهم باعتبارهم الوكلاء الحصريين عن مدينتنا، وأعطونا مهلة قصيرة وفي حال رفضنا فالجواب على الشكل الآتي : حصار ـ عقوبات اقتصادية ـ طوفان.
إذاً يبدو أن حالنا لم يعجب مدينة الأسياد وهاهي تُلوّح بأنياب وحوشها وسم أفاعيها، آنذاك انتابني القلق، ولم يعد باستطاعتي النوم، وأصبتُ بالتشنج في عضلات فكي السفلي وما أحلى الشلل بجانب ما عانيته، حتى كاد الخوف من أن يكون مصيري كمصير جاري يقتلني فقد تسبّب الخوف والقلق في فقدانه لعشر سنوات من عمره تلت نجاته من الطوفان المفتعل، مازال يقضيها على كرسي مع أن الطبيب أخبره أنه لا يعاني من أي مرض ويستطيع التحرك والمشي لو أراد، فعلاً صدق من قال " لا أعرف رفيقا أسوأ من الخوف " لقد حاصرتني المياه وأحاطتني من كل ناحية حتى بدأ النهر يتسرب من مسام جسدي، فابتعدتُ عن زوجتي وهجرتُ فراشنا خوفاً عليها.
وفي أثناء ذلك كانت تهديدات مدينة الأسياد تتزايد ولهجتهم تتصاعد وبالرغم من وحشيتهم هذه ومن حالة الضعف التي أعانيها، إلاّ أنني استطعت وعلى الدوام أن أردد على مسامعي مقولة " لا تقلق بشأن شيء لم يحدث وقد لا يحدث "، وإذا سألني أحدٌ كائناً من يكون : وكيف لن يحدث وهم عازمون على فتح المياه لإغراقنا ؟، سأجيب حالاً وبصوت تعلّق بحباله الصوتية حتى لا يغرق : إنها المهلة التي أعطونا إياها حيث عملت خلالها أنا وأصحاب الشأن في مدينتي بالخفاء طبعا، مع مقاولين من خارج البلد على حفر قناة يسيطر عليها سد يقع على خزان استيعابه ملايين الغالونات من المياه لتخزينه وتوزيعه على الأراضي الزراعية المنتشرة على مساحات شاسعة في القرى وخصوصا في فترات الشح المائي، بهذا أقنع شركاؤنا أسياد المدينة، كما أقنعوهم بصداقتهم، وعداوتهم لنا، وأنّ هذا السد هو مجرد استثمار للمياه، وبأنه في اللحظة التي تُقرر فيها مدينة الأسياد فتح سدها ومعاقبتنا سيساندونهم ويتعاونون معهم بفتح السد الجديد وإغراقنا، بينما هم في الحقيقة وعلى أرض الواقع سيقومون بإفراغ هذا السد من الماء لاستقبال المياه القادمة وإنقاذنا، ولكن مع كل ذلك ومع كل إجراءات الأمان التي اتخذناها كنتُ متوترا وخائفا : ماذا لو كشف أمرنا ؟ وهل سنتمكن من تشغيل بوابات السد بحيث لا يزيد منسوب المياه فوق السد ؟ ماذا لو كُسر أحد أنابيب التصريف وتدفقت المياه من أسفل السد أو من خلاله؟ أو لو انهار السد بكامله لا سمح الله، ألن تذهب عندئذ كميات المياه والطين لتستقر في جوفنا ؟ وأخيرا عندما تتعب وتملّ مني ] ماذا وهل ولو [كانت ترفع أيديها معي ومع أهل مدينتي ونبدأ جميعنا بالدعاء : يا إلهي أبعد عنّا الهزات الأرضية أو طيف أي زلزال.
وعبثا حاولت أن أنظف عقلي وأن أثق بالسد الجديد وبالاحتياطات والجهود المبذولة، وكم عذبني ضميري إزاء الأفكار السيئة التي راودتني لأنها لو تحققت فعلا سأكون قد جذبت الخراب لمدينتي دون قصد.
في تلك الليلة، الليلة الأخيرة للمهلة تدفق أهل المدينة عليّ لشراء أنواع من العطور المركزة الخاصة بالموتى وهي ذات رائحة ذكية ورخيصة الثمن بنفس الوقت دهنوا بها أجسادهم ليلقوا وجه ربهم برائحة المسك والعنبر، وأوصوا بعضهم بأن يتعطّر بها من ينجو، قبل صلاته على من فقد من أحبته.
مرّ الوقت أبطأ من سكين يحز عنق نعجة وسط قرقعة التوابيت وحشرجة الانتظار، مزقني رهاب الماء الذي عانيته وأعانيه، من الشرفة إلى الداخل والنهر لايزال هادئا، كنتُ أجلس قليلا ثم أذهب لألقي نظرة عليه، جمعتُ كل الأقراص المهدئة التي أتناولها ورميتها له سائلا إياه : ستقوم بمعاقبتنا أيها المتواطئ ؟ غداً عندما سيرتفع ضغطك أتراه سيكون أعلى من ضغط دمي الآن ؟ ومن منّا سينفجر.
ولم أكد أنهي جملتي حتى أمسك بي النهر وسحبني لكي أستقر في بطنه، حاولت بدوري إغراقه بسكب براميل من العطور فيه وأنا أصرخ : مت يا صاحب الرائحة النتنة، وبكل ما أملك من خوف وأمل قاومته، لم أخف لحظة من الغرق، بل من الاستسلام للغرق، ومن ذلك الشعور بالتضاؤل، صرختُ لعلني أنفّس عن غضبي فيخف وزني وأطفو على السطح، لكن الزبد هو الذي طاف، قلتُ في نفسي : لابأس فالزبد يدل على أني حاولت على الأقل أن أصرخ، ووجها لوجه نظرتُ في رمله وطينه وحصاه مباشرة وقلت :
لكني أعدك بأكثر من الصراخ أنت وأسيادك.
أغمضتُ عينيّ لأجنبهما رؤية النهر وانتقامه، يكفيهما الشعور بالألم و لأدع الرؤية وشأنها، لكن فضولي أبى أن يحقق ما أردت، وبالرغم مني جعلني أفتح عينيّ، ويا لهول ما رأيت : كان النهر صامتا كأخرس، هادئا كمشلول، انتهى الليل والنهر هادئ وها هو الفجر لم ينس مدينتنا، ومن ثم الصباح، ولا شيء سوى الهدوء الذي يسبق الهدوء، فيا للعجب ماذا حدث إذاً؟ وهل تراجعت مدينة الأسياد عن تهديدها ؟ أم أنهم نفذوا ما نووا عليه فباءت خطتهم بالفشل ونجحنا ؟ هل غرق الجميع ما عداي، أم أني معهم في قاع النهر ؟ ولو أنّي متُّ فمن ذا الذي يتكلّم الآن ؟ لابد أنها روحي تسحب كلماتي معها وهي في الرمق الأخير، لكن مهلا يبدو أنه لاهذا و لا ذاك صحيح فأنا هو من يتكلم الآن، ويستمع، ويجيب، ويُعلن بكل فخر :
لم نخف من الأعداء، فخافوا منّاتمسكنا بمدينتنا، فتمسّكت بنالم نهرب منها، فلم ولن تهرب منّا