نبذ الإبداع واغتيال العقل
الأسوار تعلو وتزداد صلابة، وتضيق الأماكن حولنا فتتحول إلى ما يشبه الزنازين الرطبة المتخمة بروائح العفونة والدماء المراقة على الدوام.. ويجعلنا هذا الحصار أقرب إلى الجنون حيناً، والتشبث بحلول خلاص واهية هي أقرب إلى السراب أحياناً أخرى، فندخل في دائرة مغلقة تمتد من الولادة حتى الممات من غير أن نجد فرصة التنفس بحرية ولو لفترة طارئة!
هذا الحصار المجلَّل بالأسلاك الشائكة، والمدعَّم بسيوف أبناء الكهوف الذي تربّوا بدلال كبير في أحضان الجهل صغاراً، حتى خرجوا عن السيطرة كباراً، وباتوا يجوبون الأزقة والشوارع كالأشباح ليعيشوا في الأرض قتلاً وتدميراً، غير عابئين بشيء سوى تدمير كل ما أنتجته الحضارة!
ولأن العقل في كثير من البلدان العربية مغيَّبٌ تماماً اليوم لكثير من الأسباب، فقد صار العقلاء مثل طريدي قبائل الجاهلية لا مكانَ لهم في بلدانهم، يهيمون لعلهم يجدون فيها فرصة التفكُّر والتفكير بما يمكن أن يقدموه للبشرية من إسهامات علمية وإبداعية مختلفة.. لكن الأسوار تعلو أكثر، والحصار يشتد حولهم بشدة حتى يكاد يطبق على أنفاسهم!
وتدل الإحصاءات واستطلاعات الرأي التي تجريها بعض المؤسسات المتخصصة على حالة اليأس والقنوط التي وصل إليها المتنورون العرب (كباراً وشباناً) من التغيير أو النجاة من براثن الوحوش المتربّصة بهم على جانبي نهر الخوف الذي يعبرونه، إذ إن أكثر من سبعين في المئة منهم يتمنون مغادرة بلادهم إلى أماكن أخرى تحترم العقل والفكر والإنسان، وتفتح أمامهم آفاق البحث والابتكار في أجواء من المحبة والأمان والسكينة، بعيداً عن رُهاب الخوف الذي يلاحقهم في حلِّهم وترحاله ليل نهار، وبعيداً عن المصادرة والتهديد وتكميم الأفواه.
هذا التوجّه العام، يؤكده أيضاًَ رفض معظم الشباب العرب "المحظوظين" الذي تتاح لهم فرصة السفر إلى الخارج للدراسة، الرجوعَ إلى أوطانهم حتى لو حُرموا من العودة إليها نهائياً، إذ إن لسان حلاهم يقول: لماذا نريد العودة؟ ومن أجل ماذا؟ هل تريدون لنا أن نعود لننضم إلى طوابير العاطلين عن العمل على امتداد أرصفة الشوارع؟ أم تريدون منا أن نعود إلى مجتمعات تعدّ أنفاسنا على مدى الساعات، وترصدنا عيون الجلادين فيها بمختلف انتماءاتهم؟
لكن ما الذي أوصلنا إلى هذه الحالة من اليأس والإحباط؟ وما هي الأسباب التي جعلت الكثيرين منا يبحثون عن حلولهم الفردية؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات المؤرّقة، متشعبة وتحتاج إلى الكثير من الدقة والجرأة والوضوح والشفافية، إلا أنها وبعيداً عن الدخول في التفصيلات التي تحتاج إلى مساحة أكبر من هذا الحيز، تتلخص بجملة قصيرة كافية وافية: إننا نغتال العقل ونمقت الاجتهاد، ونكمم الأفواه، ونكره الإبداع والتطوير! وباختصار أشد: إننا نخشى الشمس والنور، ونفضل الغموض والعتمة.
إذاً، ما الحل لمواجهة هذه الحالة المتردية التي نمر بها منذ قرون مضت، وما فتئت تتفاقم سوءاً حتى وضعتنا في ثلاجة التاريخ، فيما قطار الحضارة والمعرفة والتطور والإبداع يسرع نحو المدى؟.. إنه يكمن في احترام العقل وإعطائه الموقع الذي يناسبه، وتدمير الكهوف المظلمة وفتح بوابات الزنزانات الرطبة أمام أشعة الشمس المضيئة.