موضوعات شائعه فی أدب البحرین المعاصر
ملخص المقال:
الموضوعات الشعریة الشائعة فی البحرین هی : الطبیعة ، المراة ، الوطن ، والانسان وهناک إلی جانب هذه الموضوعات ، موضوعات فرعیة أخری ، ولکن الموضوعات الأربعة المذکورة أخذت بنظر الاعتبار لدی شعراء البحرین المعاصرین بشکل واسع لسبب ما وأصبحت موضع إهتمامهم. نعم لقد أصبح البحر والنخل اللذان هما من أبرز مظاهر الطبیعة فی البحرین ، بسبب شغف شعب البحرین بهما ، من البواعث التی جعلت الشعراء البحرانیین یبدون رغباتهم فیهما ، کما أن المرأه البحرانیة بسبب المشقات والصعوبات التی کانت تعانیها تُماشی الرجال وبعد تأسیس جمعیة ( نهضة فتاه البحرین ) فی الخمسینات ، أصبحت من الأغراض الشعریة الرئیسیة فی البحرین.
هذا وأن الشعور العمیق بالوطن والنضال من أجله والتطورات الساسیة التی وقعت هناک، کان – أیضا ً– من العوامل المؤثرة فی إبلاء الشعراء إهتماماً بالغاً بهذا الموضوع ، وأخیرا ً بما أن الإنسان فی البحرین کان إمّا غواصا ً وأما فلاحا ً وبخاصة بعد إکتشاف البترول فی عام 1932 م. وبطاعة عدد کبیر من الناس ، حظی هذا الموضوع – کذلک – باهتمام الشعراء وتحوّل الی أحد الموضوعات الشائعة فی شعر البحرین.وتجدر الإشارۀ أخیرا ً الی أن الهدف من هذا البحث هوإلقا ء الضوء علی شعر وقریض البحرین وتعریف الذین لا تتوفر لدیهم معلومات عن هذا الشعر ، علی الموضوعات الشعریة المعاصرة فی هذا البلد.
الکلمات الرئیسیة : التجربة الشعریة المعاصرۀ ، الأدب البحرانی ، الوطن، الإنسان.
تمهید : امتازت البحرین عبر مراحلها التاریخیه المختلفة ، عما حولها من دول المنطقة ، بتنوع مصادرها الإقتصادیة واختلاف سبل المعیشة فیها فالغوص بحثا ً عن اللؤلؤ ، الزراعۀ والتجارة وصید الأسماک کانت تعمل جنباً الی جنب منذ أقدم العصور ، علی تحریک عجلۀ الحیاة الإقتصادیة فی البحرین ، ومد الإنسان بالقدرة علی مواصلة الحیاة وبناء الحضارة علی أرضها. « فإذا کانت الیابان تباری المحارة فتحط من قدرها ، فالبحرانیون یشمرون عن ساعد الجد لیضاعفوا فی الجزیرة مواردها الزراعیه » [1]
ویضیف مؤلف کتاب ملوک العرب : « أما سکانها الذین لا یغوصون ولا یرکبون لرزقهم البحار فهم یزرعون الأرض ، والذین لا یزرعون یتاجرون » [2] کان هذا عام 1922.أما بعد اکتشاف النفط عام 1932 وتدفقه عام 1934 فقد حلت الصناعة النفطیة محل صناعة اللؤلؤ والغوص علیه بعد إضمحلالها، [3] فأنقذت بذلک البلاد من أزمۀ اقتصادیة محققۀ. ومع تعقّد الحیاۀ الإقتصادیة وتطورها ، أضیف الی مواردها الإقتصادیۀ الخدمات والسیاحة والتصنیع (الألمونیوم ).
والبحرین ، زیادۀ علی ذلک ، تمتاز بموقعها الجغرافی « فهی تمثل محطه رئیسیۀ علی طریق التجارة العالمی » [4] ولا عتدال مناخها وتوافر المیاة فیها ، ولجمال طبیعتها وهدوء أجوائها ، أصبحت البحرین محطة لأنظار الطامعیین والغزاة الذین تعاقبوا علیها منذ فجر التاریخ حتی مطلع العصر الحدیث ، عند ما غزتها فلول الإستعمار الأوربی فی مستهل القرن السادس عشر المیلادی ، کما کانت البحرین فی العصر الإسلامی الوسیط ملاذا ً للثورة والخارجین علی الدولة العباسیة ومرتعا ً لثوراتهم ونشر أفکارهم السیاسیة مثل ثورتی الزنج والقرامطة ، لبعد البحرین عن الحاضرة الإسلامیة. [5]
وعلی الرغم مما لتلک الصراعات الدامیة والحروب والاطماع الخارجیة والفتن الداخلیة من آثار سلبیة دفعت باعداد هائلة من السکان الی الهجرة خارج البحرین فی موجات متعاقبة، فإنها فی نفس الوقت عمقت تجربة الإنسان البحرینی ووسعت آفاقه ومدارکه الفکریة والسیاسیة وجعلته اکثر التصاقا ً بالأرض والوطن من الناحیة النفسیة والعاطفیة مما عمق الحس الوطنی والنضالی لدیه. ولم یکن الإنسان البحرینی سلیل ذلک التاریخ الطویل فحسب، إذا لم یکن وجوه علی تلک الأرض طارئا ً أوموقوتا ً ، وإنما هوالوجود نفسه ممتزجا ً بأساطیر الخلق الأولی منذ فجر وبدایة الأزل. إن الأرض التی یعیش علیها هی (دلمون ) نفسها.... التی التقی فیها ( انکی ) اله المیاة ﺑـ ( نینهر ساجا ) آلهة الأرض فأنجبا من زواجهما ( تینساء ) آلهة النبات [6] أو.... الحیاة. ومن یومها أصبحت ( دلمون ) أرض الخلود التی لا تغرب عنها الشمس. « فما زالت أ صداء الشاعر السومری القدیم الذی أبحر الی جزیرة الخلود (البحرین حد یثاً) فی حنین طاغ وحب متفان للأرض ، تترد :
دلمون أرض نقیة طهور
لا ینعق فیها غراب
ولا یزأر أسد
ولا تشیخ فیها إمراة أورجل
« ولتصبح دلمون میناء للعالم کله » [7]
وتظل ( دلمون ) أغنیۀ الشاعر البحرانی فی کل زمان.
إن ما یمیز البحرین حقا ً عما حولها من دول الخلیج الفارسی هوتجربة الإنسان الحضاریة نفسها ، التی جعلت وجوده البشری والعاطفی والفکری متواصلا ً عبر المراحل والعصور ومتصلا ً بالأرض وطنا ً مهما نزح عنه وطال غیابه أوامتدت هجرته من ربوعه.
ومن أجل تلک التجربة العمیقة الجذور وبسببها ، خاض الإنسان البحرانی بحرا ً من العذاب الیومی المتواصل فی سبیل لقمة العیش ، وهویزرع الأرض ، أویهیط الی أعماق البحار ، أویتعرض لأشد أنواع القهر والظلم من شرکات الاحتکار.
وبسبب عمق هذه التجربة وقسوتها ولدت بذور الحرکة الوطنیة فی البحرین مبکرة (أول هذا القرن ) ، وکانت أول أمرها تلقائیه فی تفجرها لم تخضغ للتنظیم. ( ابراهیم خلف العبیدی ، الحرکة الوطنیة فی البحرین ، مطبعة الاندلس ، بغداد ، 1976 م ، ص 165 ). هذه التجربة الإنسانیة نفسها ، علی الرغم من کثرة ما کتب عن البحرین من مقالات وکتب ، أحیطت بتعتیم شدید خاصة فی العصر الحدیث ، بسبب احکام القوی الإستعماریة وقبضتها علی المنطقة وعزلها عن العالم سنین طویلة ، خوفا ً من منافسة القوی الأخری علی ثرواتها. وهی بالطبع مجهولة من العرب أکثر من غیرهم من الأمم ، لإنشغالهم بقضایاهم الوطنیة. فأمین الریحانی ، الرحالة والمفکر العربی ، یعترف بهذا الجهل عند زیارته للبحرین لأول مرة عام 1922 : « ما أخطأت الظن مره ببلاد عبرت بها مثل خطأﻱ بالبحرین. أما وأنی أمقت الادعاء فلا أحاول إخفاء جهلی وهوجهل عام یکاد یشمل کل أدباء العرب ، أنی اعترف عنی وعنهم ». ( أمین الریحانی ، ملوک العرب ، الجزء الثانی ، الطبعة الخامسة، دار الریحانی للطباعة والنشر ، بیروت ، 1967 م ، ص 207 ). ولم یکن جهله جهلاً بموقعها أوتاریخها أوحضارتها القدیمة ولکنه ، لا شک ، جهل بتجربة الإنسان الفکریة والثقافیة والإجتماعیة ، التی کانت دائما ً هدف التعتیم الإستعماری المسیطر. والتجربة الأدبیة هی محورهذه التجربة الإجتماعیة والفکریة ومر آتها العاکسة ، إذ یکفی إنها کانت دافعاً من دوافع وجود التعلیم والأندیة الثقافیة وسائر الأنشطة الفکریة والإجتماعیة فی البلاد ومنطقة الخلیج کلها. [8] فالشیخ ابراهیم بن محمد الخلیفة « وهوشیخ الأدباء والشعراء فی البحرین » کما سماة الریحانی ، کان الرئیس الثانی لمجلس المدارس. [9]
کذلک الشیخ محمد بن عیسی الخلیفة ( الوائلی ) ، وبعدهما الزائد صاحب أول جریدة فی البحرین وهوشاعر معروف ، ثم الأدیب ابراهیم العریض والشاعران عبد الرحمن المعاودة ورضا الموسوی ، کلهم اشتغلوا با لتعلیم وفتحوا المدارس ودعوا الی الاصلاح الإجتماعی والثقافی ، مما انعکس علی أسلوبهم الشعری والأدبی.
ولأن تجربة الشعراء المعاصرین فی البحرین قد رافقت الإنسان فی سعیة ونضالة وتفاعلت معه فی أکثر المراحل ، لذلک کان لابد من تناول هذه التجربة الشعریة والبحث فیها عن القیم الانسانیة المنظورة التی تغذت بها عبر تفاعلها الطویل فی أطر معاناة الإنسان.
أما «الطبیعة » و«المرأة » و«الوطن » فکانت کلها مضامین تتضافر وتتعانق فی نسیج التجربة الشعریة وتطورها لتجرّبها نحور «الإنسان » أیضاً.
لذلک سنقصر الحدیث فی هذا المدخل العام علی ما یتصل بالطبیعه والمرأه والوطن والإنسان ، مرکزین علی الجانب الإنسانی فیها ، مما یتوازی مع طبیعة التجربة الأدبیة نفسها. أما فیما یخص الحدیث عن البحرین : تاریخها ، حضارتها ، أهمیتها الجغرافیة والإقتصادیة والسیاسیة..... فإننا نترک کل ذلک الی المراجع الکثیرة التی بسطت هذه الموضوعات بسطاً وافیا ً.
نص المقالة
1) الطبیعة
البحرین کما تسمی حدیثا ً ، هی مجموعة من الجزر الصغیرة المتناثره فی میاه الخلیج الی الغربی من الساحل العربی ، أکبرها جزیره المنامة وهی العاصمة ، والمحرق وهی أکبر مدنها ویربط بینهما جسر ، ثم جزیرة ستره. [10] وهذا الموقع الجغرافی فی حد ذاته موقع شاعری یفیض علی رأیه مشاعر السحر والجمال ویملأ قلبه بالفرح والبهجة.والطبیعة داخل الجزر أکثر سحراً وجمالا ً مما وصف الإنسان وإن کان جمالها ینطوی علی الألم الإنسانی الدفین ، وإن کانت المساحة الزراعیة تبلغ أقل من عشر مسامحة الأرض فإن الخضرة وأشجار النخیل والفاکهة وعیون الماء الطبیعیة تبدومنتشرة فی کل مکان مما یجعل البحرین منتجعا ً لأبناء الخلیج أوموطنأ دائما ً لعدد من العائلات التی تفضل الحیاة هناک. [11] وللنخلة والبحر ، مظهرین من مظاهر الطبیعة ، معنی خاص فی حیاة الإنسان البحرانی ولها مذاق متمایز فی نفسه ینطوی علی کثیر من المرارة والعذاب علی الرغم من الجمال الظاهر الذی تبدوعلیه النخلة والبحر ، یقول وزیر الحاکم الشیخ عیسی بن علی لرحالة البحرین فی مطلع هذا القرن عن النخلة : « إن الرسول محمد علیه الصلاة والسلام أوصی بإکرام النخلة لأنها کالأم » [12]
ویری الدکتور الرمیمی أن النخلة کانت « بمثابة محور الحیاة الزارعیة فی البحرین. فهی وفرت للسکان البلح بأنواعه ، وهوکان الغذاء الرئیسی الی جانب الأرز والسمک ، ولیس هذا فحسب ، بل إن هذه الشجرة قدمت لهم کل ما یحتاجونه تقریباً ، عدا الملابس. فهم استخدموا سعفها فی بناء المنازل ( البرستی ) وکذلک فی صناعة السلال ، کما أن الجاف منه استخدام فی الوقود وجذوع هذه الاشجار استخدمت فی صناعة الاثاث وفی البناء ، وأعود سعفها استخدمت لبناء مصائد الأسماک ، حتی الجبال کانت تصنع من لیف شجر النخیل ». [13] والنخلة قدیمة قدم الإنسان علی أرض البحرین ، ولقد رسمت النخلة علی أقدم أختام دلمون. [14]
وإذا کانت النخلة بالنسبة للانسان البحرانی هی الأم الحقیقیة التی لم یکن لیستطیع أن یعیش بغیرها ، فإن البحر هوأبوه الشرعی ومانحة الخیر والرزق والحیاة ، وإن کان أبا ً قاسیاً ، متجهما ً غداراً فی أکثر الأحوال ، یسلب أبناء ه الراحلة والصحة ویبعدهم عن الأهل ویعرضهم للمهالک فی سبیل لقمة العیش.
ولیت عذاب الغواص ینتهی بإنتها ء علمه الذی یستمر شهورا ً طویله رهن الموت والهلاک بعیدا ً عن أهله وبیته ووطنه. ولیت معاناته المؤلفة تلک تبارحه بمبارحة البحر وأهوالة. ولکنها تظل تطاردة وتمشی معه کظلة الذی لا یفارقه لحظة ، بل إن دیونه تطل کالاشباح تطارد زوجته وأولاده حتی بعد موته ، فیتوارث عنه الابناء عبودیة العمل لسداد دیون الأب. وهکذا یتواصل العذاب وتتصل المعاناة.
من هنا تلتصق النخلة والبحر بتجربة الإنسان فی البحرین لا کمظهرین من مظاهر الطبیعة فحسب ، ولکن کعنصرین أساسین من عناصر تجربتة فی الوجود والصراع من أجل البقاء.
النخلة والبحر مظهران من مظاهر الطبیعة الجمیلة ، إلا أنهما ینطویان علی المرارة والعذاب. [15]
« ونقصد بکلمة الطبیعة عملیة الحیاة والحرکة العضویة بکاملها التی تسیر فی الکون ، وهی عملیة تشمل الإنسان ولکنها لا تکرث بنزواته أوتأثراته الذاتیة أوتغییراته المزاجیة». [16] هذا هوتعریف هربرت رید للطبیعة. وهوتعریف موضوعی یتناسب ومفهوم ( الطبیعة ) الذی نطرحة فی هذه الدراسة.
والشعر وسیله من الوسائل التی یقیمها الإنسان بین عالمه الخاص وعالم الطبیعة ، « ان الکلمة بالدرجة الأولی تمنح الشی ء الوجود ». [17]
أی تجعله موجودا ً فی حدود حیاة الإنسان حیا ً، متفاعلا ً معه ، وتصبح صفات ذلک الشئ وحرکته امتدادا ً لصفات الإنسان وحرکته إذ یصبحان شیئا ً واحداً، حیاًً، فی حدود تجربة الإنسان : الکلمة – الشعر. وفی اتجاه وعی الإنسان ودرجته ، یکون عمق وجود ذلک الشیء ودرجۀ تفاعله. لقد استطاعت التجربة الشعریة فی البحرین ، عبر معالجتها المختلفة لموضوع الطبیعة أن تربط بین الطبیعة والإنسان ، بین الکلمة الشاعرة والوجود ، کما استطاعت أن تربط بین الطبیعة والإنسان ، بین الکلمة الشاعره والوجود ، کما استطاعت أن تذیب الطبیعة المتفاعل والمتجادل مع حیاۀ الإنسان وطموحه.
أهم مظاهر الطبیعة التی دمغت شقاء الإنسان البحرانی عبر تاریخ طویل من العرق والدم، وارتبطت بوجدانه وکیانه : النخلة والبحر. إنهما رمزان مکثفان للإنسان المضطهد ، موسومان بعرقة ودمائه ، وممهوران بصک عبودیته واستغلاله. النخلة قامة انسان صابر أعجف ، مغروس فی ضمیره الأول منذ الأزل والبحر رداء من دموع یلبسه فی کل موسم الغوص. [18]
والتجربة الشعریة الناضجة تتسم بالوعی ، بالضرورة. والواعی أساسه الموقوف الفکری المتزلم والرؤیة الثوریة. وهما الرصید الذی یکشف به الشاعر البحرانی الأصیل عن المضمون الإنسانی للطبیعة : النخلة والبحر و.... حیث یکون جوهر تاریخ الإنسان. لهذا کان تعامل تجربة الشعر فی البحرین – فی المرحلة الواقعیة الجدیدة – مع الطبیعة تعاملا ً جدیداً ، مختلفا ً عما سبقة ، یتسم بالنضج النفسی والفکری والفنی : حتی غدت العلاقة بین الطبیعة والإنسان ، التی کان موضوع الطبیعة یرتقی نحوها عبر معالجات السابقة ، علاقة قویة متینة لحمتها التوحید الکامل مع الطبیعة والانصهار فی بوتقة ( المعالجة الفنیة ) الناضجة.
قال الوائلی : وهومن شعراء البحرین المعاصرین:
سقیا بأیام مضت کسحابة
ألقت علی البطحاء ثوباً أخضرا
هل تذکرین جلوسنا وحدیثنا
بالروض إذ غنی الهدیل وکرارا ً
والشمس تدنوللمغیب کأنها
دینار تبر شق بحراً أحمرا
حتی ادلهم اللیل وازدهرت به
زهر النجوم ورق صوتک وانبری [19]
تکون الارتباط فی هذه الأبیات بین الطبیعة والحالة النفسیة التی أثارتها محبوبة ، الشاعر کان یتذکر اللحظات الحقیقة التی مرت علیه مع محبوبته ، وهما هانئان بوصلهما فی أحضان الطبیعة.
یکون الشاعر عاشقا ً متیما ً بالطبیعة ، ادار لها مرآة نفسه فصورها فرحۀ مبتهجۀ أحیاناً وکتیبة قائمة أحیانا ً أخری ، حسبما یعتور حالته النفسیة من انفعال. ولأن الطبیعة حی یرسمها هذا الشاعر تکون معکوسه علی مرآة نفسه ، فان کانت المرآة مصقولة صافیة وصف الشاعر الطبیعة وصفا ً دقیقا ً بارعا ً یقرب من الأصل ویطابقه ، وإن کانت المرآة غائمة والنفس مهمومة بدت الطبیعة علی تلک الصفحة الغائمة باکیة حزینة. فحین یحس بالفرح یقول :
کانت زهور الروض فی عرسهارفاقة ترقص عبر البطاحوتشرب الفرحة من کأسهاوالنور من ضوء الشموس الوضاحوالطیر صداح کأن السماالهمه بالأغنیات الملاح
طاف بها الشاعر عند الشروق
والکون مسحوراً بأضوائه
والجدول النشوان لما یفیق [20]
مستغرقا ًفی حلم تائه [21]
فی کل لیل فی الهزیع الأخیر
یسیر کالتائه عبر التلال
ویرتقی یمرح فوق الصخور
والریح حیری فی سفوح الجبال [22]
2 ) المرأة
ولم تکن المرأة البحرانیة بعیدة أبداً عن حقیقة هذا الصراع. لقد کانت فی صمیمه. وأن أبرزتها التجربة الشعریة فی مراحلها الأولی وکأنها دمیمة جمیلة تستحق کلمات الحبّ وعبارات الغزل الرقیقة ، وأن رسالتها الوحیدة فی الحیاة هی الأمومة ، ومکانها الأول والأخر هوالبیت. لکن جمالها ورقتها لم تکن فی حقیقة تجربة الإنسان البحرانی إلا کجمال البحر والنخلة : جمال ظاهری ینطوی فی صمیمة علی عذاب المرأة وکبتها وعبودیتها المزدوجة للرجل والمجتمع معاً. ویقدم الدکتور الرمیحی هذه الصورۀ القائمۀ لحیاۀ المرأۀ فی الخلیج عامه « تذکر بعض المصادر التاریخة الحدیثۀ أن المرأة قد شارکت فی الغوص بنفسها الی جانب الرجل ، عند ما کانت تعوزه الحاجة والفقر الی ذلک العمل الشاق الخطیر». [23]
ولم تکن زوجة الغواص هی الوحیدة التی خاضت تلک المعاناة المزدوجة ، بل کان ذلک قدر کل نساء الطبقة الفقیرة اللواتی کان عملهن ضروریاً لسداد أود عوائلهن الکثیرة العدد إذ «تلجأ ( الاسرۀ فی الخلیج ) الی تشغیل نسائها فی مهن انتاجیة کالخیاطة ، الطحن ورعایة الماشیة ونقل المیاه فی المدینة. وشارکت المرأة فی الزارعة فی القریة : کما اضطرت ، لتردﻱ الاوضاع المعیشیة الی مشارکة الرجل العمل التقلیدی. وکما أسلفت تشارکة فی الغوص والبناء وهما من الأعمال الصعبة للمرأة. کما أن المرأة نفسها شریکة لأکثر من زوجة واحدة فی رجل واحد نتیجة الضرورات الإقتصادیة والمفاهیم الإجتماعیة السائدة ، مما زاد من تعاستها». [24]
ولم تتخلف المرأة البحرانیة الحدیثة عن مشارکتها فی الحیاة الإجتماعیة والثقافیة إذ دخلت مجالات العمل والانتاج المختلفة وانتزعت الکثیر من حقوقها الإجتماعیة وطالبت بحقوقها السیاسیة. وقد ساعدها التعلیم ، الذی بدأ مبکراً فی البحرین ، علی تحقیق شخصیتها ودخولها مجادلات العمل والحیاة العامة.
قد ظهرت الجمعیات النسائیة المنظمة فی البحرین فی الخمسینیات ، حینما أنشات جمیعة (نهضة فتاة البحرین ) عام 1955 م ، وهی أول جمعیة نسائیة منظمة فی الخلیج ، وکان اشتراک المرأة البحرانیة فی حوادث مارس 1965 م مبعث دهشة أحد المؤرخین للحرکة الوطنیة فی البحرین ، اذ جعلها ظاهرة تمیزت بها لأول مرة تلک الأحداث شبه المسلحة. [25]
وهکذا نری أن صوره المرأة البحرانیة القدیمیة القائمة قد تغیرت کثیراً ، وبخاصة إذا قارناها بصورة المرأة فی شخصیتها الجدیدة الواعیة المنفتحة اجتماعیاً، والمستقلة الی حد ما اقتصادیاً ، والمدرکة لواقع بلدها وقضایا الإنسان.
یقول الرمیحی : « کان دور المرأة فی المجتمع البحرانی قبل ظهور نتائج التحولات الإقتصادیة الجدیدة مقتصرا ً علی المنزل. وکان العمل الوحید الذی یمکن للمرأة أن تؤدیه خارج المنزل هوتنظیف السمک وبیعه بالنسبة لزوجات صیادی الأسماک، أومساعدۀ الرجل فی الحقل وبیع المحصول ، بالنسبة لزوجات الفلاحین. أما فی بقیه القطعات فکان عمل المرأة مقتصراً علی تدبیر أمور المنزل وتنشئة الأطفال. وکانت المرأة بصورة عامة تضع الحجاب ، وحریة حرکتها مقیدة بالمبادی التی تسود مجتمعا ً کان الرجل وما یزال ، یسیطر علیه ». [26]
إن الفرق واضح تماماً بین ملامح الصورتین ، ومما لا شک فیه انه انعکس أیضا ً علی التجربة الأدبیة – والشعر خصوصا ً – کحساسیة اجتماعیة وفردیة عبر مسار تطورها منذ بدایة القرن حتی الیوم. وربما کان لتطورالتجربة الأدبیة ونضوجها ووجود أکثر من شاعرة فی کیان الحرکة الأدبیة الجدیدة ( مثل حمدة خمیس ، ایمان اسیری منیرة فارس ، فوزیة السندی ، وفتحیة عجلان ومن کاتبات القصة القصیرة والروایة والنقد مثل فوزیة رشید منیرة الفاصل ). [27] تأثیر من بعض الوجوه علی تطور تجربة المرأة نفسها ، ودلیل علیه فی نفس الوقت.
اذ کانت المخیلۀ الشعریة ترتبط ارتباطا ً وثیقا ً بمظاهر الطبیعة ، فان العاطفة الانسانیة مهما بلغت دائرة اتساعها مرتبطة بالمرأۀ بشکل أوبآخر. بل لعلنا لا نغلوفی القول إن جعلنا المرأة منطلقا ً حیا ً للعاطفة الانسانیة ونبعاً من ینا بیعها الدافقة.
ولذلک لا یخلوأی شعرﺤﻲ ﻔﻲ العالم کله وعبر جمیع المراحل والأزمنة من عاطفة المرأۀ. ووعي الفنان بعاطفۀ المرأة واستسقاؤه من ینابیعها ، دلیل علی نضج عاطفته الانسانیة ووعیة العام. وهذا کفیل بوضع صورة المرأة فی اطارها الانسانی الصحیح ، وابراز دورها الطلیعی الحق الذﻱ یجب أن تؤدیه المرأة فی الفن والحیاة. لأن الحب وهوأشد المشاعر ذاتیة ، هوأیضاً أکثر الغرائز شمولاً.... هوغریزة حفظ النوع. [28]
وهذه القضایا والهموم هی المحک الحقیقی ، دائماً لعاطفة الشاعر نحوالمرأة ، الشاهد الأول الأساسی علی مدقها وعمقها. لأنها هی التی تمنحها البعد الانسانی والقیمة الفنیة الخلاقة. حیث یصبح حضور المرأة الاجتماعی دلیلاً علی صحة المجتمع الذی تتحرک فیه وسلامة البنی الفوقیة التی تنموفی اطارها.
حقیقة الأمر أن المرأة فی تجربة الشعر المعاصر فی البحرین لم تحتل المکانة الفنیة المرقومة إلّا فی المرحلة الشعریة الناضجة – المعالجة الفنیة – عند ما تکاملت شخصیة المرأة الاجتماعیة ونضجت شخصیتها العامة ، وذلک فی الربع الثالث من هذا القرن.
وأهم التجسدات الفنیة لهذه الشخصیةالناضجة التوحید الفنی والارتباط الرمزی للمرأة بأهم عناصر الحیاة والطبیعة : النخلة والبحر والوطن والانسان ، بحیث غدت هذه العناصر لا تکشف عن جوهرها إلا من خلال ارتباطها بالمرأة. [29] وصف المرأة یختلف عن وصف الطبیعة. فهناک اختلاف نوعی دقیق بین الاثنین ، فالطبیعة بالنسبة للانسان شیء ، ومظاهرها المختلفة الحیة والجامدة عبارة عن مجموعة من الاشیاء تربط بها رابطة نفعیة عامة ، فلا تختلف شجرة عن شجرة.... أما المرأة فکائن اجتماعی بالدرجة الاولی ، مهما اختلفت نظرة الرجل الیها عبر مختلف العصور. [30]
تتحرک عواطف الانسان ازاء الشجرة اذا کانت تلک الشجرة تذکّر بالمرأة وتوحی بحقیقتها شکلاً وموضوعاً. یقول احمد الخلیفة (من شعراء البحرین المعاصرین ):
طفت فصفت الطبیعة وانتشت
ان الطبیعة من جمالک شکر
والکائنات تموج فی أعراسها
وتسرّ من افراحها ما تضمر
ان العریض ( من شعراء البحرین المعاصرین ) وهویتتبع وصف تفاصیل جمال المرأة ورسم شکلها الخارجی ، انما کان یربط کل ذلک – وبیقظة تامة – بجمال الطبیعة وکانه یرید أن یعقد بینهما روابط وصلات لا تنفک ولان الشکل هومصدر جمال المرأة فی نظر العریض ، فانه یقف طویلاً عند المرأة لیصفها بدقة وتفصیل:
أنظر الی شفتیها هل تری زهراًیفترّ عن نقط کالطل وطفاءأنظر الی وجنتیها هل تری شفقاًیلوح من شعرها فی وسط ظلماءأنظر الی ناظریها هل تری ألقاکأنه صادر عن کوکب ناءما فی الطبیعة من حسن فمنعکسعن صدرها البض فی عینیک یا رائی. [31]
3) الوطن
ان الاحساس العمیق بالوطن والنضال من أجله والذی ساعد المرأة کما رأینا علی نضج تجربتها الاجتماعیة والحیاتیة العامة ، هو– فی حقیقتة الأمر – مما یمیز المجتمع البحرانی ویعطیه هذه القدرة والصلابة علی التواصل التاریخی والحضاری علی الرغم مما واجهه من حروب طاحنة وصراعات وفتن وأطماع وغزووعزل عن العالم ، ولعمق الاحساس بالوطن أکثر من وجه ، وقد تحدثنا عن الوجه الاجتماعی والوجه الاقتصادی فی مستهل هذا المدخل. وبقی الوجه السیاسی الذی هوفی اعتقادنا رکیزة ذلک الاحساس والمؤثر فیه معاً.
یقسم الدکتور الرمیحی التطور السیاسی الذی طرأ علی بنیة الوضع السیاسی فی البحرین الی ثلاث مراحل رئیسه هی:
مرحلة ما بین 1918- 1930 م التی شهدت زوال النظام التقلیدی وﻤﺠﻲ ء شکل من أشکال نظام الحکم العصری.
الفترة ما بین 1930- 1939 التی شهدت ظهور عدد من المطالب السیاسیة المهمة. السنوات التی تلت الحرب العالمیة الثانیة وحتی اعلان استقلال البحرین سنة 1971 م.
أما العوامل الرئیسیة الدافعة للتحول السیاسی فیلخصها ﻔﻲ : فکرة القیومة ، تقدم وسائط المواصلات ، الاتصالات ، التغایر الثقافی والتداخل الأجنبی. [32] وتستطیع أن نقتطف من تلک العوامل التی طرحها الدکتور الرمیحی فکرة القومیة العربیة ، لنری مدی تفاعلها مع مفهوم الوطن فی وعی الانسان البحرانی والتجربة الأدبیة. أن الوعی السیاسی اذن الی جانب العوامل الاجتماعیة والاقتصادیة التی ذکرناها قد عمق الاحساس بالوطن قضیة أولی یناضل من أجلها الانسان ﻔﻲ البحرین ولم یکن الوطن ﻔﻲ وﻋﻲ ذلک الانسان معزولاً عن قضیۀ الأمۀ العریبیۀ ومصیرها. [33]
اذن فان الاحساس العمیق بالوطن مما یمیز تجربة الانسان البحرانی ویشده الیه حتی وهوفی غربته منفیاً أومسافراً. فالتقارب العائلی المنتشر بین أسر المجتمع البحرانی والهدوء والأمن اللذان یسودان ربوع البلاد وبخاصة منذ بدایات هذا القرن والبساطة المتناهیة فی العلاقات الاجتماعیة ، وعراقة التواجد الاجتماعی وطمأنیة العیش وتوفر مصادره المختلفة، کل ذلک غرس الحب العمیق فی قلب الانسان البحرانی لوطنه والنضال من أجله وهوعلی أرضه ، کما غرس فی روحه الحنین الطاغی والتوق الدائم الیه وهوبعید عنه ، اضافة الی التسامح الانسانی والانفتاح علی مختلف الأجناس والأدیان والقیومات والطوائف الذین اتسم بهما المجتمع البحرانی ، اذ منحاه أفقاً انسانیاً أوسع مما عمق تجربتة الحضاریة والفکریة. [34]
« وقد کانت ( البحرین ) عبر تاریخها فی تجارة الؤلؤ مهبط الأغراب من جنسیات مختلفة ووصلتها طلائع التبشیر البروتستانی ، وبها الایرانی والهندی والافریقی والأروبی، فأصبحت مکاناً مناسبا ً لا تخاذها قاعدة للتبشیر البروتستانی فی الخلیج. عمان» [35] واثر هذا کبیر فی تأصیل صلته وشعوره النفسی بالوطن ، ویکون هذا مفتاح رئیسی فی التجربة الأدبیة الحدیثة.
ان الدارس لا یتوقع أن یلتقی بمعالجة کاملة أوشبه کاملة لموضوع الوطن فی معرض القصائد الاولی لتجربة الشعر المعاصر فی البحرین وذلک بسبب وقوع غالبیة هذه القصائد فی التقلیدیة الملتزمة بقواعد الشعر القدیمة ، وان هی لم تخل فی کثیر منها من النزعة نحوالمعاصرة والتجدید. ولم تکن تلک النزعة بالطبع واضحة متبلورة بقدر ما کانت تعلن عن نفسها بین الحین والآخر فی شکل ألفاظ عابرة ، ضمن السیاق والغرض التقلیدی الذی یوجه القصیدة والشاعر ونعتقد أن مثل تلک الکلمات العابرة فی شؤون المجتمع الجدید ویقظته ، کانت تشیر الی البذور الأولی لِلاِحساس بالوطن لذی الشعراء.
أوهی الهاجس المبکر عندهم للشعور ﺑـ « الصحوة الوطنیة » کما یحب الدکتور عبدالله المبارک أن یطلق علیها. [36]
یقول الشاعر الوائلی (من شعراء البحرین المعاصرین ) فی معرض تذکره لوطنه وأهله أثناء زیارته للحج :
تلک الجزیرة موطنی وبأرضهاقومی وأهل الفضل من إخوانیأبلغهم منی السلام وقل لهمعهدی فلا تذروه للنسیان [37]
إن هذا الورود الخاطف لذکر الوطن أوالشعور به هوفی مرحلة أولیة عند ما یثار الشعور بالوطن فی حالة الاغتراب عنه ، وهواحساس مبدئی یشعر به کل انسان فی أی زمان ومن أی وطن ولکنه یزداد عمقاً فی دلالته ومعناه کلما اتصل أکثر بهموم الإنسان من أی زمان ومن أی وطن ولکنه یزداد عمقاً فی دلالته ومعناه کلما اتصل أکثر بهموم الأنسان من خلال قضایاه المعیشیة ، فحین یضطر الشاعر الوائلی الی ترک وطنه ، نجد أن الإحساس بالوطن یتعمق لدیه وهویقول متذکراً إیاه فی الغربة:
قالت : حبیبی رعاک اللّه أﻱ هویدعاک تهجر أرضی قلت أوطاﻨﻲشبت بها فتنة الباغي فقام لهاشعبي وصحبي واخواني واعوانيقالت الی الحرب ساروا قلت رأیهمنیل العلا فاسألي أبناء عدنان [38]
وارتباط هذا الشعور إزاء الوطن بالمرأة لیس غریباً. فالشاعر یتذکر الوطن حین یتذکر الحبیبة ویحن الی عهده معهما. إن الوطن هنا لیس معنی کاملاً ذا بعد سیاسی ، بقدر ما هومجرد مکان من الأرض.
أما حین تفتح علاقة المرأة بالوطن طرفها الآخر علی الإنسان خاصة حین یکون الانفتاح عبر قضیة أساسیة من قضایاه ، فإننا هنا نجد معنی الوطن یتسع ، ویتعمق احساس الشاعر به، وإذا بالقصیدۀ سیل فیاض من تاریخ الوطن وبطولة إنسانه وانتصاراته. ففی قصیدة للوائلی نفسه بعنوان (أمیر وحسناء ) 39. یسرد الشاعر تاریخاً طویلاً للوطن والأمة ، وکانه یتفاخر به أمام تلک الحسناء التی ربما کانت قد سألته عن موطنه ، یقول الشاعر فی معرض حدیثه عن واقع الأمة العربیة:
لوأن اقطار العروبة ساهمتفیها لما لبست ثیاب حدادیا لیتهم فحوا لحفظ بلادهمفالحر للوطن العزیز یناديلکنهم قطعوا مسافة عصرهمبتشاحن وتطاحن وعنادفمتی تجدّ السیر أمة یعربوتصون ما ورثت عن الأجداد
4) الإنسان
الزراعة والغوص کانا – فی بینة المجتمع البحرانی – یشکلان الجذور الأساسیة لإنتماء الإنسان الکادح والبسیط الذی التصق بالأرض وناضل من أجلها لأنه لا یملک سواها ، وظل ینتزع لقمة العیش من بین أنیاب المخاطر والموت فی أعماق البحر وفی البر.
هذا هوالتحدید الدقیق والمنطقی لتجربة الإنسان الحقیقیة فی البحرین والتی حاولت القوی الإستعماریة طمسها علی مر السنین ، علی الرغم من کثرة ما قیل وکتب عن البحرین، إذ « یمکن تصنیف المجتمع البحرانی فی الربع الأول من القرن العشرین الی مجموعتین علی أساس الطبقات الإجتماعیة – الإقتصادیة. والمجموعة الأولی تتألّف من الأسرة الحاکمة وملاک الأراضی وتجار الؤلؤ وکبار التجار. أما المجموعة الأولی تألف من الأسرة الحاکمة وملاک الأراضی وتجار الؤلؤ وکبار التجار. أما المجموعة الثانیة فتتألف من غالبیة عامة الشعب غیر الواعیة سیاسیاً. وهذه المجموعة الثانیة کانت حتی ظهور مفعول القرارات أوالقوانین الإصلاحیة فی العشرینات ، تتعرض باستمرار الی أنواع شتی من الاضطها والظلم ، کما کان الحال بالنسبة للغواصین علی الؤلؤ والفلاحین ». [39]
کان إنتماء هذا الإنسان الکادح الی الأرض شیئاً مفروضاً علیه من الناحیة الإقتصادیة والنفسیة بسبب صعوبة ظروف معیشته ، فهوملتصق علی الرغم من أنفه بعلمه ومکان عمله ومن ثم بالعلاقات الإجتماعیة من حوله.
أما صعوبة عمله والمخاطر التی واجهها فی البحر فتعد عذاباً أسطوریا ً فریدا ً خاصه ذلک الإنسان بجسده الواهن وروحه المقهورة. ولهذا فلا عجب أن تفرز تلک البیئة ، لإرتباطها بوجدان الشعب ، طقوساً فلکلوریة خالدة وفنوناً شعبیة مرهفة کرقصة (المرادات) التی تستقبل النساء بها علی السواحل أسود البحر العائدین من رحلة الغوص وهن یرددن الاغانی والأهازیج فرحا ً بالعودة وکالمواویل التی کان یرددها الغواصون فی عرض البحر، وغیرها من الفنون التی ارتبطت بهذه الملحمة المأساویة التی عاشها الإنسان البحرانی علی مدی قرون طویلة. [40]
وترتب علی هذه المعاناة القاسیة وحیاة الظلم والعذاب الطویلة التی عاشها الإنسان الفقیر الکادح ( الغواص والفلاح ) عدة انتفاضات شعبیة ابتدأها الغواصون ( بهدتهم ) الأولی سنة 1919 م. والتی أسموها ( ثورة الخیر ) وقد قاموا بها احتجاجاً علی ظلم أصحاب السفن ( النواخذة ). [41]
ومنذ ذلک الحین توالت سلسلة انتفاضات الغواصین ( الهدات ) وبخاصة فی ما بین عام 1926 و1932 م. وفی الإنتفاضة الأخیرة ( 1932 ) التی کانت أشبه بالثورة وکانت منظمة الی حد ما فقد إجتمع ممثلون عن الغواصین وقرروا الاضراب ثم خرجوا فی مظاهرة صاخبة ، وخلال عبور المظاهرة جسر المحرق تصدی لها الجنود الانکلیز وأطلقوا علی الغواصین الرصاص فسقط أکثر من قتیل ترکت جثثهم علی الجسر مدة ثلاثة أیام عبرة للآخرین. وقد ارتبطت هذه الحادثة الدامیة بوجدان الإنسان البحرانی منذ ذلک الحین حتی یومنا الحاضر وبخاصة عند الشعراء الشعبیین الذین ینتمون الی تلک الطبقة. [42]
جاء اکتشاف النفط عام 1932 م. وصناعته فیما بعد لیفتح لها مصدراً جدیداً للعیش ، غیر من طبیعة عمل الغوص الخطرة واللا إنسانیة وزاد من دخله قلیلا ً، وإن لم یغیر من شقاء هذا الإنسان وعذابه وظلمه ، إذ ظل یعمل الساعات الطویلة مقابل أجر یومی زهید، کما ظل یتعرض للإهانات والذل حتی طفح به الکیل فقاد عمال النفط أول إضراب لهم عام 1938 م. أی بعد أربع سنوات من العمل المهنی ، وهوأول اضراب فی منطقة الخلیج. إن جمیع فئات الطبقة العاملة فی البحرین تنتمی جذورها الی طبقة الفلاحین والغواصین التی تحدثنا عن عذابها الطویل قبل قلیل. [43]
ففی بدایة الستینات بدأت تظهر بعض الأصوات الأدبیة الجدیدة وبخاصة فی مجال الشعر ساعدها علی الإنتشار عودة الصافة البحرانیة الی الصدور بعد فترة الصمت التی امتدت من 1956 – 1965 م. وفی عام 1969 م. أنشی أول کیان أدبی (بعد النادی الأدبی عام 1922 م ). وهوأسرة الأدباء والکتاب فی البحرین ، ورفعت شعارها الأدبی المتلزم : الکلمة من أجل الإنسان. [44]
إن الصورة الإنسانیة الوحیدة المنظورة التی انعکست بجلاء علی أدب البحرین وشعرها المعاصر هی صورة الإنسان البسیط ، المتعب ، الکادح ، إن أول ما یواجه الباحث من ملامح الإنسان فی بدایات تجربة الشعر المعاصر فی البحرین ، هوالخطوط السریعة المبعثرة التی لاتشکل صورة کاملة أوشبه کاملة لحقیقة الإنسان أوشخصیته.
بقی الشعر فی هذه المرحلة المبکرة أسیر الروح التقلیدیة للشعر العربی فی تعبیره عن واقع الطبقة الرسمیة الحاکمة. وذلک رغم توجه الشاعر المعاصر فی البحرین الی مخاطبة الناس بشکل عام ومحاولة إستخلاص الحکمة من حیاتهم ، ولم یکن التصاق الشاعر البحرانی بتجربة المجتمع الواسعة التصاقا ً وثیقا ً إلا فی المرحلة المبکرۀ للشعر الرومانسی، وفی مرحلة الشعر الواقعی بعد ذلک ، علی ما بین المرحلتین من فروق وإختلافات جذریة. [45]
کان همّ الشاعر دفع الإنسان من رقعة الأسود الی نقله الی مساحة الأبیض ، من الظلام الی النور:
والماجد الحرإن عزّت مطالبهجری إلیها بعزم الباسل البطلالقلب یدفعه والعقل یمنعهمن أن یبیت علی جسر من الوجل [46]
إن الإحساس بالإنسان الآخر واضح فی رؤیَة شعراء البحرین المعاصرین ، مما یجعل المعالجة تعبیرا ً عن معاناة طبقة بأکملها ، ولیس معاناة فردیة خاصة : « آه لکن الرغیف زادنا من جوع یصیح.» [47]
کما یصور الشاعر هموم « الغواص » النفسیة مرکزا ً علی أبرزها وأشدها تأثیرا ً فی حیاته وحیاة أهله من بعده ، وهوهم الدیون المتراکمة علیه کل یوم دون أن یستطیع سدادها ، حتی بعد أن لفظه البحر ، فلم یعد قادرا ً علی العمل وجلب قوت عیاله الیومي :
یا لعملاق طعین الکبریاءبعض إنسان علی الشاطیملقی کالرفاتعافه البحر وأردته قوانین الطغاةبعد أن عاش سنی العمر ، مصلوب الحیاةبین أفواه تنادی،ومناد هات من دینک هات. [48]
الخاتمة
کان حرصنا شدیداً طول الدراسة علی أن نتناول الموضوعات الشعریة المعاصرة فی البحرین ، هذه الواقعیة التی ظلت توجه دراستنا منذ نری البدایة کانت سلاحا ً ذا حدین کما یقال. فمن الناحیة الا یجابیة استطاعت الدراسة ، فیما نری أن تربط بین الشعر والحیاة وبین الشکل والمضمون. کما استطاعت أن ترصد تطور الخط البیانی الصحیح لتجربة الشعر المعاصر فی البحرین بما یتجادل ویتفاعل مع تطور المجتمع وتطلعات الإنسان الحقیقة فی الحیاة ، وهذا ما أدی بنا الی الکشف عن القیمة الفنیة للوجود ، فی القصیدة البحرانیة الناضجة، واعتبار الإنسان أعلی قیمة فی ذلک الوجود تسعی الرؤی الشعریة الی الکشف عنها والتأکید علیها. وبهذا وحده تنمي التجربة الشعریة فی البحرین الی تجارب الشعر الإنسانیة الحیة وتتواصل معهما ، أوعلی الاقل تتوق الی ذلک. فحین تتحول الرکائز الموضوعیة (الطبیعة والوطن والمرأة والإنسان ) فی نسق متطور خصب ، الی قیم فنیة ، فإن ذلک یعین أن سماء الحلم واسعة وأفق الرؤیا مفتوح أمام تجربة الإنسان فی الشعر والحیاة علی السواء، ویبقی کل ذلک متجها ً صوب غایة واحدة مثلی الانسان وسیادته الحقة، وذلک لا یتم إلا بواسطة جدل القصیدة أوخیال الشاعر مع لحمة الواقع وظروف الحیاة ، ولکن بشکل خاص ووفق قانون الفن وحده الذی یزاوج بطریقة غامضة بین الشعر والحیاة وبین الشکل والمضمون.
علمنا أن التجربة الشعریة ومفهومها المرتبط ارتباطا ً جدلیا ً بالواقع البحرینی وتاریخ الإنسان وحضارته الطویلین الذین یربطانه بآفاق التجربة الإنسانیة العامة وأصول تطورها الحیة و« إن تجرید الشعر من ظروفه الزمانیة والمکانیة ، إنما یبعد الناقد عن الجذور الحیة التی انبثقت عنها الطاقة الا بداعیة ذلتها ، ویبعده – أیضا ً – من فهم طبیعة الدوافع التی حرکت هذه الطاقة ، والتی حملت الشاعر علی اختیار الشکل الفنی الملائم للتجربة ». [49]
وفی النهایة فإن هذه الدراسة بما لها وما علیها هی جهد الدراس لإیفا ء موضوع مهم فی الشعر الحدیث بعص حقه من الدارس والتعمق والتأمل ، ویبقی مجال الدرس مفتوحاً أمام الباحثین ، راجین أن نکون قد وفقنا فی أداء هذه المهمة الصعبة ، أوجزء منها علی الأقل.
مصادر البحث:
1) البحارنة ، دکتور حسین ، البحرین التاریخی والحضاری منذ أقدم العصور حتی الیوم ، کتلة مؤسسة الحیاة بیروت ، 1973 م.
2) ابراهیم ، العریض ، دیوان العرائس ، الطبعة الأولی ، دار العلم للملایین ، بیروت ، 1946م.
3) الخلیفة ، إشراف الشیخ عیسی بن راشد ، دیوان الوائلی ، مراجعة العوضی الوکیل ، طبع فی القاهرة ، 1975 م.
4) الخلیفة ، شیخ عبداللّه بن خالد ویوسف الحمر ، عبد الملک ، البحرین عبر التاریخ ، الطبعة الثانیة ، البحرین ، 1972.
5) الرمیحی ، البترول والتغییر الإجتماعی ، معهد البحوث والدراسات العربیة القاهرة ، 1975م
6) الرمیحی ، قضایا التغییر ،مؤسسه الوحدة للنشر والتوزیع الکویت ، 1976 م.
7) الریحانی ، أمین ملوک العرب ، ج 2 ، دار للطباعة والنشر ، بیروت 1967 ، الطبعة الخامسة ، دار الریحانی.
8 ) العبیدی ، ابراهیم خلف ، الحرکة الوطنیة فی البحرین ، مطبعة الأندلس ، بغداد ، 1976 م.
9 ) العریقی ، راشد ، فنون شعبیة ، البحرین ، 1973 م.
10 ) المبارک ، عبد اللّه ، الأدب العربی المعاصر فی الجزیرة العربیة ، القسم الأول ، معهد البحوث والدراسات العربیة ، القاهرة ، دور الأحیاء ، 1973.م.
11) المناعی ، إشراف احمد ، التعریف بالحرکة الأدبیة الجدیدة فی البحرین ، إصدارأسرة الأباء فی البحرین ، مطبعة النجاج ، البحرین ، مارس 1973.
12) النهج الفکری ، أسرة الأدباء والکتاب فی البحرین ، مطبعة النجاح ، البحرین ، سبتمبر ، 1970 م.
13) الهاشمی ، علی دراسة الشعر الحدیث فی البحرین ، الطبعة الثانیة ، دار الفارس للنشر والتوزیع، 1975.م.
14) بارتون ، بری رالف ، إنسانیة الإنسان ، ترجمه سلمی الخضراء الجیوسی ، منشورات مکتبة المعارف فی بیزوت ، 1961.م.
15) بن مهزع ، الشیخ قاسم ، مبارک خاطر ، الطبعة الأولی ، البحرین، 1975 م.
16) جریدة النهار اللبنانیة ، الملحق الخاص عن البحرین ، 1971 م.
17 ) حسین ، مروة ، دراسات نقدیة فی ضوء المنهج الواقعی ، مکتبة المعارف ، بیروت ، 1972.
18) خلیفة ، أحمد محمد ، أغانی البحرین ، الطبعة الأولی ، مطابع دار الکشاف ، بیروت ، 1955 م.
19) خلیفة ، علی عبداللّه ، دیوان ( أنین الصواری ) ، الطبعة الأولی ، دار العلم للملایین بیروت 1969 م.
20 ) دراسة الدکتور الهاشمی ، مدخل لدراسة الخلیج العربی فی عصوره القدیمیة ، مجلة البیان الکویتیة ، رابطة الأدباء ، عدد 120 ، مارس 1976 م.
21) دیوان هجیر وسراب أحمد الخلیفة ، المطبعة الشرقیة ، البحرین ، 1962.م.
22) ریازانوف ، دافید ، الشیوعیة والزواج ، ترجمة جورج طرابیشی ، ط 2 ، / منشورات دار الآداب ،بیروت ، 1973.م.
23 ) رید ، هربرت ، تعریف الفن ، ترجمة ابراهیم إمام ومصطفی الأرناؤوطی ، دار النهضة العربیة.
24) قلعجی ، قدری ، الخلیج العربی ، دار الکتاب العربی ، بیروت ، 1965. م.
25 ) عبد العزیز ، کامل ، المرأة فی المجتمع الإسلامی ، مقالة منشورة فی مجلة الهلال المصریة ، عدد فبرایر ، 1973. م.
26 ) عدد من الإساتیذ ، المرأة الإشتراکیة ، ترجمة جورج طرابیشی ، الطبعة الثانیة ، دار الآداب ، بیروت ، 1973. م.
27 ) کولنجوود ، فکرة الطبیعة ، ترجمة الدکتور احمد حمدی محمود ، إلهیئۀ العامة للکتب والأجهزة العلمیة ، مطبعة الجامعة القاهرة ، 1968.م.
28 ) مجلة الآداب البیروتیة ، عدد مایو، 1966.م.
29 ) مجلة الأقلام العراقیة ، العدد 6 مارس ، 1975.م.
30) مجلة الدوحة القطریة ، عدد مایو، 1976.م.
31 ) مجلة المعرفة السوریة ، العدد 165 ، 1975 م.
مشاركة منتدى
27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015, 17:47, بقلم زهرا قنبری -طالبة الماجستیر -فرع اللغة العربیة وآدابها
إن الحواشی والمصادر أکثر من المطالب و کان یلیق بأن تأتی بأشعار أکثر من هذه و أیضاً أشعار تحکی عن آلأغراض المختلفة کی تثیر علاقة بین القاریءوالأشعار البحرانیة علی أی حال جزاک الله خیراً .