من النص القرآني إلى الفلسفة العربية الإسلامية
يستخدم بعض الباحثين مصطلح الجاهلية للدلالة على المرحلة التاريخية السابقة على ظهور الإسلام. وفي إلحاح هؤلاء على استخدام هذا المصطلح، ينطلقون من موقف أيديولوجي يؤكد على قطيعة مطلقة ونهائية بين الإسلام والمراحل التي سبقته. إن هذا الموقف يتعارض، منذ البداية، مع موقف القرآن نفسه الذي يؤكد على صلته بما قبله وما سبقه من شرائع وأديان: (( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)) ( يونس آية 37). فالقرآن هو كتاب تاريخي مشروط بالظروف الاجتماعية والتاريخية التي عاصرت ظهوره، و في الوقت الذي يقطع فيه الإسلام مع ما قبله، فإنه يمثل حصيلة له. على ذلك يمكن الحديث عن قطيعة ابستيمولوجية نسبية وليست مطلقة. فالقرآن يبدو في كثير من المواضع مكملا ومصححا لمعلومات الكتاب المقدس، ولكن، بالرغم من هذا التشابه والقرابة مع الكتب السابقة، فإن القرآن يحتفظ بصورته الخاصة. فأكد بصورة حاسمة على الفكرة التوحيدية المفارقة، وقطع الجسور بين الإنسان والله الذي يحيط بكل شيء بينما يعجز الإنسان عن معرفة كنهه. وإذا كانت العلاقة بين الله والإنسان في المسيحية تقوم على ارتباط أنطولوجي بين الآب والابن والروح القدس، فإن القرآن قد وضع هوة أنطولوجية لا يمكن تجاوزها بين الله والإنسان، فليس كمثله شيء ولم يخلق الإنسان من ذاته، وإنما من عدم سلبي بإطلاق. هكذا يخرج القرآن الذات الإلهية من التعددية، ومن الأقوامية أيضاً فليس الله إلهاً لشعب مختار، بل هو رب العالمين. هكذا تنبثق عن القرآن فلسفة دينية تتغلغل في أعماق الثقافة التوحيدية.
يمكن لنا بناء على نسبية القطيعة بين الإسلام وما سبقه، أن ننظر إلى الإسلام بوصفه يقدم حقلاً دلالياً ومعرفياً وقيمياً جديداً، ويخاطب الناس بلغة دلالية جديدة، بل ويطرح إشكالات جديدة، ليس على الصعيد الميتافيزيقي وحسب، بل وكذلك، على الصعيد الاجتماعي المعاش. فالإسلام يعرض عقيدته الميتافيزيقية(الغيبية) الخاصة بطريقة تبدو أكثر مطابقة للعقل، وقد دعا القرآن إلى التأمل والنظر والتفكير في الكون والنفس، وعبر تكرارها في مواضع عديدة . فتكررت مثلاً كلمة عقل في تسع وأربعين آية، ووردت مادة فكر في نحو ثمانين آية, ومادة علم في نحو ستمائة آية. وبالرغم من ذلك، فإن هذا التأكيد على أهمية العقل والعلم الذي حمله الخطاب القرآني، كان قد ارتبط بوظيفة محددة. فكانت دلالة العقل أقرب إلى التأمل العقلي اللاهوتي في الكون ومظاهره من حيث هي دليل على قدرة الله باعتباره مبدعاً لهذا الكون. فكان على العقل أن يبقى داخل دائرة النص والاعتقاد. وربما كان لهذه الوظيفة التسويغية التي أنيطت بالعقل دوراً ما في التأثير على النمو المعرفي للفكر العربي الإسلامي وتطوره اللاحق. الذي سيصطبغ بصبغة دينية إيمانية, ولم يكن ليخرج عن دائرة الفكر الديني والنص القرآني، بصفة هذا الأخير المصدر الأول للمفاهيم الإسلامية والخطاب الأول المتصل بالعقل والعلم، إلا عبر كثير من التعرجات والانحناءات بل التحولات التاريخية. ولقد ارتبطت العلوم المختلفة منذ نشأتها بالإسلام من حيث هو دين، واقتضى تطور المجتمع العربي الإسلامي في صدر الإسلام نشوء حركة ثقافية واسعة لتنظيم المعارف المرتبطة بمختلف الظاهرات، فكان الإسلام منطلق هذه الحركة.
لم يقتصر ارتباط هذه المعارف في مراحل تطورها بالإسلام من حيث هو دين، بل وكذلك من حيث هو نظام اجتماعي، يتجاوب مع حاجات تنظيم المجتمع وحاجات اتساعه، حيث طرحت قضايا فكرية جديدة، اتخذ بعضها شكلا دينياً و اقترب بعضها لاحقاً من أشكال النظر الفلسفي. وكثيراً ما كان الشكل السياسي للنظام – وهو ما ينبغي التأكيد عليه- سببا في تعمق ارتباط هذه القضايا بأصولها الاجتماعية. وربما تكمن "خصوصية" الإسلام في أنه يقدم نفسه على أنه دين ودنيا في آن معاً. فمثلاً نجد أن الخلاص في الإسلام من الخطيئة الأصلية لا يكون كما في المسيحية من خلال تضحية المسيح، بل بالنهوض بأعباء ومهام وواجبات دنيوية ملموسة فالقرآن يقيم بناءه على أساس القيم الخلقية للفرد وعلى العاقبة الدنيوية للجماعة. وسيكون التنظيم الاجتماعي الذي حمله الإسلام وسعى إليه دوراً بارزاً على صعيد التطور اللاحق للفكر العربي الإسلامي. ولكن إذا كان القرآن يشرع للواقع , فكيف العمل وآيات الأحكام فيه لا تتعدى مائتي آية من أصل ستة آلاف آية ونيف؟ ستجدنا أمام إشكالية ستتعمق مع تطور المجتمع العربي الإسلامي والفتوحات الإسلامية لبلدان جديدة، وامتزاج المسلمين بثقافة وعقائد جديدة. أمام الوقائع المتجددة كان لابد للقرآن أن يستنطق تشريعات جديدة، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار ذلك الاعتقاد الإسلامي بصلاحية القرآن لكل زمان ومكان. ولم يكن ذلك ممكناً إلا بالقدر الذي أخذ يتبلور فيه شكل ما من التنهيج الفكري، أفضى إلى بروز تيار يلح على الرأي وعلى مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان، والذي أخذ يتبدى من خلال ممارسات بعض الصحابة والخلفاء الراشدين، ومن ثم بروز و استقلال نسق معرفي ومنهجي أخذ يفصح عن نفسه تحت مسمى الفقه. وكان لمدرسة الرأي دور كبير في التأسيس لمبدأ الاجتهاد في الرأي، الذي يؤكد على دور العقل في التشريع، وسيكون له دور كبير في تعزيز النزعة العقلية الذي ستدفع بها التطورات اللاحقة للمجتمع العربي الإسلامي إلى حدودها القصوى، أي إلى استقلال العقل عن وظيفته التسويغية التي حددت له وأثرت على توجهاته منذ البداية.
لم يكن للفقه ممثلا بمدرسة الرأي و ما حملته معها من مبدأ الاجتهاد في الرأي أن يدفع بالعقل خارج النص الديني، بل كان ذلك مشروطاً تاريخياً بالظروف الاجتماعية والسياسية حينها، لاسيما إذا أخذنا بالاعتبار ذلك الصراع الفكري الذي خاضته هذه المدرسة مع مدرسة أهل الحديث، الذين كانوا يقدمون العمل بالنصوص الظنية على العمل بالرأي، والذين ربما اشتد نفوذهم الفكري في عصر التدوين بعد عملية جمع الحديث وتدوينه، وبعد تلك العملية التي قام بها الشافعي والتي تمثلت في التأسيس للسنة كمصدر ونص مشرع جنباً إلى جنب مع القرآن. بالإضافة إلى ما تقدم، يبرز عامل أساسي حال والفقه دون إنجاز مهمة استقلال العقل عن النص الديني، لعله كمن في أن موضوع الفقه نفسه من حيث الأساس هو التشريع للواقع من خلال النص، فكان الفقه مشروطا باستراتيجية التنظير للنص الديني وجودياً ومعرفياً ومن داخل النص وفي دائرته. وعلى ذلك فان عملية الانتقال من الفقه إلى الفلسفة اقتضت توسط مرحلة انتقالية نوعية هي علم الكلام، وبالرغم من أن الأخير كان بدوره مخترقاً من قبل توجهات ذات طابع ديني، إلا أنه استطاع أن يحمل معه محفزات عقلية ومنهجية لظهور فكر فلسفي عربي سينفصل لاحقاً عن كل من الفقه وعلم الكلام. ولكن ينبغي الإشارة أن علم الكلام نفسه كان قد استفاد من ذلك المناخ الواسع من التعددية الفقهية التي وفرها مبدأ الاجتهاد في الرأي.
في علم الكلام يدور الصراع حول تحديد المرجعية النهائية للفعل المعرفي: هل هي للعقل أم للنقل؟ لاسيما في حال تعارضهما، أي هل يتم الاحتكام للنقل بالتشكيك في صحة استنتاجات العقل أم يتم تأويل النقل لرفع تعارضه مع العقل؟ هنا يبرز التأويل كأحد الأدوات المنهجية لمناصري العقل. بينما ذهب أنصار النقل إلى التأكيد على شمولية النص عبر توسيع مجالاته. ولم يكن للنظر العقلي أن يؤدي وظيفة الانتقال إلى التفكير الفلسفي ولا التأسيس له إلا مع صيغة معتزلية رأت أنه في حال تعارض العقل مع النقل ينبغي تأويل النص بما يتوافق مع العقل. هنا يخرج العقل من دائرة الاعتقاد ليصبح مولداً للمعرفة. أي يصبح العقل ليس أداة للمعرفة فقط بل وأيضاً موضوعاً لها، وهو ما يشترطه أي تفكير فلسفي.
نجدنا هنا أمام نقطة منهجية على غاية من الأهمية تتعلق بالنقاش الدائر حول مرجعية الفلسفة العربية الإسلامية، وربما حول إمكانية هذه الفلسفة. فإذا كان علم الكلام قد استطاع أن يخرج ومعه العقل من دائرة النص والتسويغ له، ليدخل بالتالي في مرحلة التوليد المعرفي فإنه (علم الكلام) سيعد المقدمات الحقيقية للفلسفة العربية الإسلامية على صعيد المنهج والمقولات، وبالتالي فإن البحث عن مرجعية الفلسفة العربية الإسلامية ينبغي أن يبدأ من الداخل العربي الإسلامي ومن نسيجه الداخلي قبل أن نبحث عن مصادر لهذه الفلسفة في الخارج اليوناني أو غيره.