إشكالية التأويل... والعلاقة بين المعرفي والأيديولوجي
يكاد بعض الباحثين في قضايا التراث لا يجدون في الفكر العربي الإسلامي، بتياراته المختلفة، إلا بعداً وحيداً هو البعد الأيديولوجي. أو على الأقل, يذهبون إلى تضخيم هذا البعد على حساب الأبعاد الأخرى، الأمر الذي يفضي إلى مصادرة مفادها أن هذا الفكر قد خلا من أي تراكم معرفي ومنهجي. وعلى هذا يرتبط مفهوم التأويل عند هؤلاء بمفهوم الفتنة، ولا يرون فيه إلا لعبة أيديولوجية كانت عاملاً خطيراً في تفكك الأمة الإسلامية. أو يرون فيه عقلاً قيمياً افتقد القدرة على الإنتاج حين قيد بتلك النظرة المعيارية.
يجب أن ننظر إلى التأويل في مستويين اثنين، الأول معرفي، حيث يبرز التأويل هنا على أنه آلية إنتاج معرفي راحت تضبط منهجياً، والثاني أيديولوجي من حيث أن نتائج التأويل كفعل معرفي أفضت إلى تصور للعالم. وهذان المستويان، المعرفي والأيديولوجي يؤسسان لأن يصبح التأويل أيضاً موقفاً انطولوجيا وجودياً. وإذا كان التأويل قد أفضى إلى تعددية مرجعية إلا أنها بقيت ضمن المرجعية الإسلامية الأساسية, أي القران الكريم بصفتة المصدر الأول للمفاهيم الإسلامية والخطاب الأول المتصل بالعقل والعلم. وقد تعامل الفكر العربي الإسلامي مع التأويل بشكل واع ومنهجي, وبلغ التنظير المعرفي والمنهجي لهذه الإشكالية ذروته في حقل الفلسفة، وما كان ذلك إلا نتيجة للتراكمات المعرفية التي بدأت تتشكل في كل من الفقه وعلم الكلام، جنباً إلى جنب مع تطور المجتمع العربي الإسلامي وصولاً إلى القرن العاشر الذي ترافق مع تفكك دولة الخلافة وتفككت معها الأيديولوجيا الأوتوقراطية للسلطة. فقد قدمت السلطة العباسية نفسها على أنها ممثلة للوحي الإلهي عبر تأويلات خدمت توجهاتها الأيديولوجية، فينقل عن أبي جعفر المنصور قوله: ((أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه)). هكذا حاول بنو العباس الحفاظ على المقومات الأساسية لأيديولوجيا الخلافة، ولم يكن بالإمكان مواجهة هذه الأيديولوجيا إلا بأيديولوجيا مضادة. هنا تبرز أهمية الدور الذي اضطلع به أولئك المفكرون الذين مثلوا موقف المعارضة لتلك المقومات التي بنيت عليها أيديولوجيا السلطة. هكذا يكتسب التأويل مشروعيته التاريخية بوصفه أيديولوجيا للتحرر، أو لنقل أن أولئك المفكرين قد أسسوا لـ "أيديولوجيا تأويلية" أنتجت فهماً تحررياً مقابل الأيديولوجيا التبريرية التي أرادت السلطة فرضها وعدت كل انحراف عنها بأنه مصدر للفتنة ينبغي قمعه. وبعد أن كان التأويل يعبر عن موقف سياسي أوديني، يدخل منعطفاً حاسماً كأحد الأدوات الفاعلة في إعادة بناء أيديولوجيا المجتمع على أساس معارضة أيديولوجيا الدولة الأوتوقراطية.
إنه لمن المبالغ فيه القول بأن التأويل كان دائماً مقترناً بالفتنة, فقد فتح الباب واسعاً أمام العملية التثاقفية في فضاء ثقافي، وإن كان قد شهد فترات من التضييق على الحريات وإلغاء الآخر، إلا أنه وفي لحظات أخرى قد وفر قدراً من الحرية والتعددية ومعها القدرة على تقبل تلك التعددية الثقافية وذاك التنوع والاختلاف، لاسيما في القرن العاشر الميلادي أو ما عرف بالعصر المدرسي. وقد عبر ابن خلدون عن تلك التعددية وعن مدى تقبلها في المجتمع العربي الإسلامي حين ميز في (المقدمة) علماً أسماه بالخلافيات، ولهذا العلم شروط وأسس وقواعد(( الجدال هو معرفة آداب المناظرة[...] كيف يكون حال المستدل والمجيب[...] وأين يجب السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، لذلك قيل فيه أنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه)). لذلك فإن القول بأن التأويل ارتبط دائماً بمفهوم الفتنة قول فيه كثير من اللاموضوعية وعدم الدقة. فإذا كان التأويل يطرح ثنائية الوحدة والاختلاف في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، إلا أنه لم يبق أسيراً لهذه الثنائية، فقد تطور السياق الفكري ليتيح لهذه الثنائية أن تظهر على أساس جدلي، الأمر الذي كانت له نتائج حاسمة معرفياً.
وإذا كان التأويل يكتسب مشروعيته التاريخية من خلال الواقع الذي نما وتطور فيه الفكر العربي الإسلامي عموماً، فإنه أيضاً يكتسب مشروعيته من حيث موضوعه نفسه. فموضوع التأويل هو الخطاب القرآني. هذا الفضاء اللغوي الدلالي الذي يمارس التأويل سلطته المعرفية والأيديولوجية من خلاله. لقد قدم القران حقلاً دلالياً ومعرفياً وقيمياً جديداً، و هو يخاطب الناس بلغة دلالية جديدة، بل ويطرح إشكالات جديدة، ليس على الصعيد الميتافيزيقي وحسب، بل وكذلك، على الصعيد الاجتماعي المعاش. وإذا كان عصر النبي(ص) قد خلا من مفهوم التأويل، فإن ذلك كان محكوماً بطبيعة العصر النبوي واستمرارية الوحي فيه. لكن مع ذلك لم يخل ذلك العصر من صيغ فكرية تأويلية بحدود ما، لاسيما في القضايا التي تندرج تحت مسمى (ما لا وحي فيه)، وهو ما أفصح عنه النبي (ص) قولاً :((أنا أقضي بينكم فيما لم ينزل فيه وحي))، وعملاً حين كان يطلب من أصحابه في أكثر من مناسبة أن يدلوا برأيهم. كما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون النبي حين يقرر أمرا حول ما إذا كان ذلك من أمر الدين أم من أمر الدنيا. وكان النبي (ص) ينسخ بأمر ربه ما كان الله قد أوحاه إليه فكان ذلك إحدى الأساليب للتعامل مع مستجدات الواقع حينها.
هكذا كان في عصر النبي(ص)، فكيف الحال وقد امتد الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية؟ فإذا كان القرآن يشرع للواقع , فكيف العمل وآيات الأحكام فيه لا تتعدى مائتي آية من أصل ستة آلاف آية ونيف؟ ستجدنا أمام إشكالية ستتعمق مع تطور المجتمع العربي الإسلامي والفتوحات الإسلامية لبلدان جديدة، وامتزاج المسلمين بثقافة وعقائد جديدة. أمام الوقائع المتجددة كان لابد للقرآن أن يستنطق تشريعات جديدة، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار ذلك الاعتقاد الإسلامي بصلاحية القرآن لكل زمان ومكان. ولم يكن ذلك ممكناً إلا بالقدر الذي أخذ يتبلور فيه شكل ما من التنهيج الفكري، أفضى إلى بروز تيار يلح على الرأي وعلى مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان، والذي أخذ يتبدى من خلال ممارسات بعض الصحابة والخلفاء الراشدين، ومن ثم بروز و استقلال نسق معرفي ومنهجي أخذ يفصح عن نفسه تحت مسمى الفقه. وكان لمدرسة أهل الرأي دور كبير في التأسيس لمبدأ الاجتهاد في الرأي، الذي يؤكد على دور العقل في التشريع، وسيكون له دور كبير في تعزيز النزعة العقلية الذي ستدفع بها التطورات اللاحقة للمجتمع العربي الإسلامي إلى حدودها القصوى، وصولاً إلى الفلسفة العربية الإسلامية وبتوسط من علم الكلام.
ولكن في مقابل هؤلاء أصحاب الرأي أو أصحاب التفسير بالرأي وقف خصومهم أصحاب الحديث أو أصحاب التفسير بالمأثور. وإذا كان تأويل النص التاريخي البشري من حيث أن هذا التأويل يطمح إلى تفسير كل معاني هذا النص هو مهمة صعبة، لعل شيلرماخ عبر عنها حين رأى أن الهرمنوطيقا ما تزال بعيدة عن أن تكون فناً مكتملا, فكيف هي الحال ونحن نتعامل مع نص إلهي هو القران الكريم؟ لقد واجه الفكر العربي الإسلامي وحوامله النظرية والاجتماعية السؤال التالي: هل بإمكان بشر ما أن يصل إلى القصد الإلهي الكامل والمطلق؟ لم يدع أحد إمكانية ذلك. لكن أصحاب التفسير بالمأثور ألحوا على الفهم الموضوعي تغليباً، بينما رأى أصحاب التفسير بالرأي أن الفهم الذاتي المشروط والمضبوط بقواعد معينة أمر مشروع، وأن الاجتهاد في الفهم أمر جائز. وبينما يذهب أنصار النقل إلى التأكيد على شمولية النص عبر توسيع مجالاته, يبرز التأويل كأحد الأدوات المنهجية لمناصري العقل.
إن الفقه الإسلامي نفسه ما كان له أن يكون فهماً حيوياً تاريخياً للنص لولا مدرسة أهل الرأي التي أسست لصيغ عقلية ضمنت تحرر"العقل الفقهي" من الفهم الحرفي الجامد والتي أرادت أن تضبط العلاقة بين النص والواقع من خلال الفهم الذي يتيح للعقل أن يتخذ من ذاته موضوعاً لذاته. وقد تجلت حيوية فكر هذه المدرسة حين راحت تفترض حوادث لم تقع فعلياً وأرادت أن تبحث لها عن أحكام وتشريعات، ومن هنا سماها خصومها من مدرسة أهل الحديث "الأرأيتيون" (من: أرأيت لو أن)، أولئك (أهل الحديث) الذين اشتد نفوذهم في عصر التدوين الذي ترافق مع مشروع الإمام الشافعي الهادف إلى تأصيل الأصول العامة وتقعيد القواعد الكلية. وإذا كانت الغلبة النهائية هي لصالح تيار النقل فإن هذا التيار لم يكن له أن ينتصر لولا استخدامه للمنهج العقلي ولو شكلياً لإدراكه أنه لا يمكن محاربة تيار العقل بمنهج نقلي خالص تجاوزته العملية التاريخية. لقد تم التعبير عن تيار العقل من خلال مدرسة أهل الرأي (الفقه) ومن ثم المعتزلة (علم الكلام) وصولاً إلى الفلسفة، و مثلت الحوامل الاجتماعية لهذا التيار قوى التقدم الناهضة في المجتمع العربي الإسلامي الموحد على أساس الدين، لذلك أرادت هذه القوى تأويل الدين بما يخدم سيطرة العقل ووضعه في المكانة الأولى من قضية المعرفة باتجاه عقلنة المجتمع وتحقيق التقدم. وكان انتصار تيار النقل هو بمثابة الإعلان عن إخفاق قوى التقدم الجديدة الناهضة.
وبالتأويل, استطاع العقل أن يتحرر بحدود معينة من استراتيجية التنظير للنص الديني التي حكمت الفقه موضوعاً، وأن يتحرر من ذلك الانضباط الصارم لمراعاة القواعد المرسومة له سلفاً من خارج عملية التفكير ليصوغ لنفسه قواعد اشتقها من داخل الحركة الموضوعية للعالم، وليصبح بالتالي مولدا للمعرفة، وقد تم ذلك من خلال صيغة كلامية معتزلية رأت أنه في حال تعارض العقل مع النقل ينبغي تأويل النقل بما يتوافق مع العقل. هنا يصبح العقل ليس أداة للمعرفة فقط بل وأيضاً موضوعاً لها، وهو ما يشترطه أي إنتاج معرفي حقيقي يطمح للاقتراب من أشكال التفكير الفلسفي.
في الفلسفة كان على الفلاسفة إعادة طرح قضية التأويل بصورة نقدية تقبض على الشروط الاجتماعية والمعرفية للتأويل. فإذا كان التأويل في المستوى الأيديولوجي قد أفضى لتلك التعددية بسبب تعدد التصورات الناتجة عن فعل التأويل نفسه، فإنه في المستوى المعرفي قد وحّد الخاصة في مواجهة العامة، وإلى ذلك يشير ابن رشد بقوله: ((إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم الإيمان به مالا يوجد عند غير أهل العلم وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به)) . وابن رشد يتأول هنا الآية :((... وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به...))، و يتابع قائلاً:(( فإن كان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصاً بهم، فيجب أن يكون بالبرهان, وإذا كان البرهان، فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل)) ( فصل المقال: 37- 38). ويذهب ابن عربي إلى سلامة عقائد العوام وصحة إسلامهم (( مع أنهم لم يطالعوا شيئاً من الكلام ولا عرفوا مذاهب الخصوم، بل أبقاهم الله على صحة الفطرة وهو العلم بوجود الحق سبحانه وتنزيهه على حكم المعرفة والتنزيه الوارد في ظاهر القران المبين، وهم فيه بحمد الله على صحة وصواب ما لم يتطرق أحد منهم إلى التأويل. فإن تطرق أحد منهم إلى التأويل خرج عن حكم العامة والتحق بصنف ما من أصناف أهل النظر والتأويل)) (الفتوحات ج1/34).
إن عملية التمييز بين البراهين ابتداء بالخطابية وانتهاء بالبرهانية عند الفلاسفة العرب المسلمين قد وظفت أيديولوجياً وكانت الغاية منها تحييد العوام ومنعهم من أن يكونوا سلاحاً في يد من كان قادراً في أية لحظة على تأليبهم ضد الفلسفة والفلاسفة.
لكن بالإضافة إلى هذا البعد الأيديولوجي استطاع فلاسفتنا أن يقبضوا على بعد معرفي لا يمكن لنا تجاهله، وهو واقع التمايز بين ثقافتين في المجتمع ثقافة شعبية تقوم على مجرد إعلان الانتماء المباشر وأخرى نخبية تقوم على مناهج وأسس محددة وتبحث عن الاتساق واليقين. هكذا يكون التأويل هو العتبة الأبستيمولوجية التي تفصل العامة الذين يفهمون عمق القران عن الخاصة الذين لا يدركون من المعاني القرآنية إلا ظواهرها. ويظهر هذا التمايز بين العامة والخاصة عند ابن رشد على أنه تمايز اجتماعي معرفي بين المعرفة اليقينية الخاضعة لقواعد منطقية تعصم الذهن عن الخطأ وبين المعرفة الظنية أو الاحتمالية القائمة على أقيسة غير برهانية.
هذه "الوثوقية" الرشدية التي قد تبدو للبعض ليست من ذلك النوع الدوغمائي الأيديولوجي الذي يدعي الحقيقة المطلقة، بل اقتضتها منهجية ابن رشد في البحث والتي أرادت أن تؤسس المعرفة على قواعد محددة تبعدها عن دائرة الظن والاحتمال. إنه البحث المشروع للعقل البشري عن اليقين المعرفي. بمعنى اخر فحركة العقل هنا لا تنطلق من النتائج لتبحث عما يؤيدها بل من المقدمات التي يؤيدها الدليل والبرهان إلى النتائج. فالتأويل الفلسفي عند ابن رشد صادق فقط لأنه مدعم بالبرهان. و هو مسألة ضرورية لبلوغ الحقيقة، هو إذاً ضرورة منهجية وفكرية لكن عبر إعادة النظر في شروط التأويل الاجتماعية والمعرفية. فتأويل الشريعة لم يبق دائماً خاضعا لمعايير الصراع السياسي بين الفرق المتناحرة لخدمة أغراض سياسية نفعية وانيةً، بل كان على التأويل أن يصبح جزءاً من الموقف المعبر عن رؤية الفيلسوف للعالم.