

كأنك لم تَمُر
في تلك المدينة التي تُزيّنها صورُ الأبنية القديمة أكثر مما تُزينها الزينة، حيث البيوتُ تتراصّ كأدراج قلبٍ خائف، تبدأ الحكاية في اللازمن، لا في لحظة بعينها، بل في تراكم الطفولة نفسها. أربعة بيوت تفصل بين بيت كمال وبيتها، بينه وبين أحلام التي لم تكن فتاةً تسكن الجوار فحسب، بل كانت دهشةَ اليوم الذي يتكرر دون أن يتوقف عن المفاجأة. كانت تمرّ بثوبٍ مدرسي مهتوك عند أطرافه، لكن نظرتها كانت تنكسر في عينه كما لو أنها تعتذر عن جمالها.
كمال لم يكن شاباً عادياً. لم يكن فقط يكتب الشعر، بل كان يعيشه، يتهجّاه كما يُتهجّى النشيدَ الأول في صباحات المدارس، ذلك النشيد الذي يعلق بالأذن ولا يفارقها أبداً. كان كمال يرى العالم على هيئة استعارة طويلة، وكان هو وأحلام بيتَ القصيد. منذ أن تلاصقت خطاهما في زقاقٍ مشترك، بدأت ملامح العشق في التكوّن ببطء، لا كحبٍّ ناضج، بل كظلٍّ يرافق صاحبه دون إذن. كل شيء بينهما كان خافتاً، لكنه حادّ الحضور، كضوء شمعة في غرفة مغلقة.
مرّت السنوات، وكبر الجسدان كما تكبر شجرةٌ ترفض أن تُثمر إلا لبعض العيون، لكنهما لم ينطقا. لم تكن بينهما جملةُ اعتراف واحدة، لا لأنهما لا يشعران، بل لأن الشعور حين يبلغ أقصاه يصبح ثقيلاً على اللسان. فكانا يكتفيان بتبادل النظرات التي لم تكن نظرات، بل رسائلَ حبٍّ مؤجلة. وكان كمال، كلما مرّت من أمامه، يكتب بيتاً، يمزجه بالشوق، ويُخفيه في دفاتر لا يقرأها أحد.
وكانت الحرب، دائماً، خلف الستار. لا تطرق الأبواب فجأة، بل تزحف كخوفٍ لا يُعلن عن نفسه إلا حين يقرع تابوتٌ ما باب الجار. في كل مرة يعود أحد أبناء الحي في كفنٍ غُطِّي بالعلم، كان كمال ينهار من الداخل. ليس لأنه يخاف الحرب كفكرة، بل لأنه يخاف أن تُسلب منه، ذات صباح، تلك التي لم يقل لها بعد: أنا أحبك.
سمير، صديقه الوحيد، كان المرآة الساخرة لكل أحلام كمال. كان يقول له كلما اشتد به الهيام: "لن تفعلها، ستبقى تكتب لها كمن يُلقي القصائد في بئرٍ لا قاع له". وكان كمال يضحك، لا تصديقاً بل اعترافاً بالعجز. الخال توفيق، الذي كان شاعراً قبل أن يختار الصمت، مرّةً اقترب منه بعد جنازة أحد شهداء الحي، ووضع يده على كتف كمال وقال له بصوتٍ شبيه بزمنٍ مضى: "الذين لا يقولون حبّهم، تأكله الحرب عنهم، وتبقيهم شهوداً فقط."
في ظهيرةٍ باهتة، عاد سليم، شقيق أحلام، في تابوتٍ خشبي، مزيَّن براية وطنٍ لم تُنْجِه من رصاصة قنّاص. الحي كله خرج. كمال أيضاً، لكنه لم يمشِ كما يمشي الباقون، بل كأن كل خطوة منه تنزف شيئاً لم يُولد. رآها، ترتدي السواد ولا تبكي. كان وجهها صامتاً، لكن عينيها تصرخان بما لا يقوله اللسان. تلك الليلة، كتب كمال قصيدةً لم يكتب مثلها من قبل، لا لأنه أتقن الشعر، بل لأنه كتبها بقلبٍ يرتجف.
في الورقة الأخيرة التي دسّها تحت بابها، كُتب:
"أحلام، كنتِ الحيّ الوحيد في هذا الركام، وها أنا أكتب لكِ بعد أن صار الحب جنازةً لم تُعلن.
لو عاد الزمان، لما كتبت، بل نطقت. ولما نظرت، بل صرخت: أحبكِ."
لكن الباب لم يُفتح. والورقة، في اليوم التالي، لم تكن تحت العتبة. ربما قرأتها، ربما لم تفعل. لكن كمال، منذ ذلك اليوم، لم يكتب بيتاً آخر. اكتشف أن الشعر الذي لا يُقال بصوتٍ مسموع، يتحوّل إلى صمتٍ يقرض صاحبه.
مرّت أيام، ووجوه، وأغنيات جديدة تبثها الإذاعة الوطنية، لكنه ظلّ كما هو: الشاعر الذي عرف الحب قبل أن يعرفه، ولم يبلغه. وأحلام؟ عادت إلى شرفتها، لكنها لم تعد تنظر جهة بيت كمال. كأن الحرب، وهي تأخذ شقيقها، سرقت شيئاً آخر دون أن ينتبه أحد.
ولم يبقَ من كل ما كان، سوى أربعة بيوتٍ يتوسطها شاعرٌ فقد اللغة، ونافذةٌ لا تُفتح، وقلبان لم يلتقيا إلا في الظن.
وكان المصير... يكتب سطره الأخير، دون أن يمنح أحداً نهاية.