قراءة في رواية «منّ السماء» للكاتبة غصون رحال
حبّ وحرب
في روايتها "منُّ السماء" تمارسُ غصون رحال سطوتها الأدبية في سردٍ يُمعِن بالتفاصيل الدقيقة، تفاصيل الأمكنة، وتنقُلها من مكان إلى آخر، ومن حدث إلى آخر أيضاً في وصفٍ يكادُ يكون تصويرياً؛ كأنّ قلمها كاميرا توثيقية، تدخلنا في حكايات تلمس واقعاً مغموساً بالفوضى العارمة التي يعيشها العالم، من حروب واقتتال ومجازر وعذابات وهتك الخصوصيات واقتلاع الحقوق من أصحابها وكذلك الأرواح، تشيحُ الستارة عن كذبة السلام العالمي، وأنّ الحرب ما هي إلا نار ستزحفُ صوب العدالة أينما تكون "كم قتيل وذبيح ينبغي أنْ نحصيَ قبل أنْ يتغيّر العالم؟"
ويبدو أن الكاتبة أسقطتْ مهنتها كمحامية في الرواية من حيث موسوعية الأفكار وطريقة طرحها وانتقادها للأحزاب والتنظيمات، ولا تخلو طريقتها في السرد من انتقادات لاذعة تشي باحترافية الفكرة ونمذجتها بحيث تخدم الموضوع...كما دمجتْ (فانتازيا) ظاهرة في كثير من مقاطع العمل، وظهر ذلك في مقطع "بعض الحِيل السحرية التي تـُمكّنني من خلع رأسي ووضعِه جانبًا، قبل الذهاب إلى النوم".
وإذا ما التفتنا إلى العنوان سيتبادر إلى أذهاننا مباشرة الحلوى التي اشتُهرت بها العراق "منّ السلوى"، وإذا ما عدنا الى كلمة "منّ" بتشديد النون فهي تعود إلى "الهبة أو النعمة"، فلماذا اختارتْ هذا العنوان؟ربما أرادتْ الكاتبة أن تسقط أمنيتها بزوال الحروب والآلام وسنعرف ذلك من خلال حواراتها عبر شخصية "عهد" الناشطة السورية في مجال حقوق الإنسان واللاجئين وضحايا الحروب، خاصةً مع مديرها أو حتى في الأحلام التي راودتها في مشاهد فانتازية وغرائبية، وربما أرادتْ أن تبتعد عن التشاؤمية التي تسرّبت من ثنايا أحداث الرواية، لأننا ببساطة أمام رواية واقعية، رواية تُشبه المرآة التي تعكس ما نعيشه منذُ سنوات خاصةً في عالمنا العربي.
وفي إسقاطٍ آخر في هذه الشخصية عندما عاشت حالة من الانفصام على الصعيد الشكلي أو الجسدي عندما كان يضع والدها الهرمونات خفية في طعامها ما أثر ذلك على أنوثتها، فهي لم تعشها كما أرادت، وأنّ أغلبية الرجال الذين تعاملوا معها، كانوا يعتبرونها رجلاً مثلهم، لكنها من داخلها المتألم من تلك الحالة، حلمت بالقبلة، والعلاقة مع الآخر كعلاقة طبيعية، تنشأ بين ذكر وأنثى، وهذا الإسقاط له تداعيات تشبه تداعيات الربيع العربي، اختلاف هوية الثورات واشتعالها على أنها ربيع بينما في الواقع تحوّلت إلى خراب عربي.
تعجّ الرواية بالنقد اللاذع لكثير من التنظيمات السياسية والحكومات وسياساتهم، وحتى الانقسامات العربية والمحلية والإيدلوجيات، وكذلك للأمم المتحدة ومنهجيتها المتبعة. فمثلاً على لسان هاني تقول: "مشكلتنا دائماً مع مسؤولي البعثات السياسية في الأمم المتحدة يا كارمن، فهم مصّرون على جعل حقوق الإنسان كبش الفداء، لتمرير مصالح سياسية". وفي مقطع آخر: "الغريب أن مجلس الأمن لا ينعقد إلا عند استعمال السلاح الكيماوي، وكأن القتل بسلاح آخر مباح!".
تأخذنا الكاتبة في جولة مع عدد من أبطالها وبطلاتها في بلدان متعددة من العالم الذي شهد أحداثاً و حضوراً لتنظيم "داعش"، وألقت الضوء على جرائمهم، وخاصة في كردستان حيث اتّخذت النساء سبايا، حسب قولها وممارسات وحشية لا علاقة لهم بالإنسان والإنسانية، وليست مجرد أخبار وقصص مثيرة نسمع بها عن بعد. "الدواعش الكلاب أحرقوا تسع عشرة امرأة إيزيدية، وهنّ على قيد الحياة في مدينة الموصل، لأنهنّ رفضن أن يكنّ جواري عند مُسلّحي التنظيم".
ولم تنس رحّال أن تلقي الضوء على القضية الفلسطينية؛ بحكم أنها قلب الصراع من جهة، وبحكم أصولها الفلسطينية، ابتداء من مخيم اليرموك في سوريا، وما حلّ به وبأهله من قتل وتدمير وتشتيت ومن غزة والمعابر والنزاع والانقسام الداخلي، وحتى بدايات الثورة الفلسطينية والشرخ الذي ساهم في انهيارها في مرحلة ما.
وأعتقد أن الكاتبة هي الأولى- عربيا- من ألقت الضوء على عمل موظفي مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان من خلال أبطال العمل من حيث العمل الميداني والمكتبي، وبينت الضغوطات والهواجس والخطورة التي يتعرضون لها، فيما إذا كانت تقاريرهم لا ترضي الساسة، وربما أشخاص أقل نفوذا ما يجعلهم عرضة للرشوة أو الابتزاز، وما إلى غير ذلك من طرق غير شرعية تصب في نهاية المطاف إلى طمس الحقائق وتزييفها لصالح السياسة العامة عندما تتحول في كثير من الأوقات إلى موضة تتجدد حسب آخر صيحة.
الرواية مليئة بالأحداث والأماكن والتاريخ، أقول أخيرا: إنّ غصون رحال أثقلت كاهلنا عندما جمعت كلّ عذاباتنا في رواية... هذه الرواية.