الخميس ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم عصام شرتح

قراءة جمالية في ديوان «خلخال غجرية» لحسين نهابة

لاشك في أن لكل قراءة جمالية مؤثراتها الشعرية في إبراز حركة الدلالات ونشاطها الإبداعي،ولا يمكن أن تكون القراءة جمالية إلا إذا خرجت بالكثير من القيم الجمالية المؤثرة في تحريك الشعرية من الداخل، وتحفيزها على المستوى الجمالي .والشعرية – في المحصلة – ما هي إلا كتلة تفاعلات جمالية تنم عن مهارة الشاعر، وعمق ما تشي مهارته من تقنيات ومؤثرات إبداعية على المسار النصي، ومن هنا ، تتنوع الشعرية بتنوع المؤثرات الجمالية التي تفرزها على المستوى النصي، وكم من النصوص الإبداعية لا ترتقي إلا بفاعلية المؤثرات الشعرية التي تولد القيم الجمالية المتغيرة على المسار الإبداعي التشكيلي الجمالي.

ومن هذا المنطلق، فإن غنى الشعرية من عنى المحفزات النصية التي تستثير الرؤيا الجمالية من الصميم.

والواقع أن دراسة القيم الجمالية في النص الشعري يعني دراسة كل ما تحفل به لغة الشعر من مؤثرات جمالية تفعِّل الرؤية الشعرية من الصميم، ووفق هذا التصور، يمكن أن نعد القراءة الجمالية جزءاً لا يتجرأ من عمل الأسلوبية التي تحفل بكل المتغيرات الجمالية واللغوية التي تطال النسق الشعري على مستوى التركيب، من خلال فاعلية الانزياح الشعري التي تميز لغة الشعر عن غيرها من أجناس القول المعتادة في واقعنا اليومي، ومن هنا فرق جان كوهن لغة الشعر عن لغة الحديث العادي من خلال فاعلية الانزياح، إذ يقول كوهن:"إن الشعر انزياح عن معيار هو قانون اللغة، فكل صورة تخرق قاعدة من قواعد اللغة، أو مبدأً من مبادئها"(1).

وهذا المبدأ التحفيزي يدلنا على أن لغة الشعر ما هي إلا لغة منزاحة بإيقاعاتها وتشكيلاتها اللغوية عن لغة الحديث العامة، وهذا القانون الذي اسماه كوهن الانزياح هو الذي يميز الشعر بإيقاعاته التشكيلية عن غيره من أجناس القول الأخرى، مؤكداً أن الانزياح هو من صلب الأدبية، بل من صلب الشعرية، ولا غنى للغة الشعر -إطلاقاً -عن مبدأ الانزياح في تحقيق شعريتها وإبراز أدبية الكلام.

ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار الانزياح- حسب نور الدين السد-" انحراف الكلام عن نسقه المألوف، وحدث لغوي يتبين في تركيب الكلام، وصياغته على أنه نظام خارج المألوف خاضع لمبدأ الاختيار، فاختيار الألفاظ،، وترتيبها في سياق أدبي، تجعل للدال عدة دلالات، ومن هنا يخترق القانون، وتصبح للدلالة الأولى إمكانية تعدد المدلولات، فتصبح اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، وإنما غاية في ذاتها لتحقيق الشعرية والجمالية"(2).ولايمكن أن تتحقق الشعرية بأعلى قيمها التأثيرية دون الاعتماد على الانزياح في تحفيز الدلالات وخلق مثيرها الجمالي.

وهذا يعني أن قيمة الانزياح تتحدد من قيمة الأثر الجمالي الذي يحققه المنزاح في لغة الشعر من جدة وبكارة واستثارة جمالية تعزز الشعرية، وتحقق مؤثراتها الجمالية،وبهذا المعنى يقول الناقد بسام قطوس:" بما أن الانزياح هو الخروج عن الكلام العادي على ألسنة الناس في الاستعمال اليومي الذي تكون غايته التوصيل والإبلاغ، فإنه ينبغي أن يكون للانزياح مقياس يتحدد به، ويعرف من خلاله، ولتحديد فاعلية الانزياح، وتنوعها ينبغي على القارئ أن يعود إلى القاعدة اللغوية"(3).

وبتقديرنا: إن الانزياح في لغة الشعر يحدد مقدار تفنن الشاعر في تشكيلاته اللغوية، ليحقق استثارة تشكيلاته على المستوى الإبداعي، إذ تتنامى الصور الشعرية، لتحقق قيمتها الجمالية المؤثرة ومنحاها التشكيلي الإبداعي.

ومن هنا يتميز الشاعر المبدع عن غيره من الشعراء في إمكانية توظيف الانزياح كقيمة إبداعية تحفيزية في التحريض النصي الجمالي، فالنص الشعري المؤثر هو النص الفاعل في انزياحاته على خلق لغة مؤثرة في نسقها تستثير المعاني والدلالات الجديدة التي تتنامى تدريجياً في الانتقال من نسق جمالي إلى آخر، مما يدل على إيقاعها الإبداعي التشكيلي وحراكها الجمالي

والشاعر يستطيع – بالتأكيد- في صياغته الجمل الشعرية أن يبرز إمكاناته التعبيرية، ودرجة شعريته وبراعته في الانتقال من نسق شعري إلى آخر، عبر لغة رشيقة الدلالات، والمعاني الشعرية، والأنساق المراوغة، ومن هنا، فالمتغيرات الأسلوبية، تأتي نتيجة حتمية لشعرية الانزياحات، لتحقق استثارتها ورؤيتها النصية الجديدة، ولهذا ترتقي بعض الأنساق التشكيلية الانزياحية جمالياً على بعضها البعض، تبعاً لحساسية الرؤية الشعرية، ومهارة الشاعر في الانتقال من تشكيلة تركيبة إلى أخرى، تحقق قيمتها التحفيزية على المستوى النصي، وكم من التجارب الشعرية لا ترتقي حصراً إلا بفضل متغيرها الجمالي البليغ ، وقدرة الشاعر على مفاجأة القارئ بالشكل الأسلوبي المميز والطاقة الإبداعية الخلاقة.

وهذا القول بالتأكيد دليل أن الشعرية ما هي إلا محفزات جمالية متغيرة تستثير القارئ بالشكل الانزياحي الجديد الذي تبديه على مستوى الأنساق الشعرية المكونة للسياق الشعري.

وبتدقيقنا- في لغة الشعر عند الشاعر حسين نهابة- في ديوانه الموسوم ب(خلخال غجرية) -نلحظ حياكة الشاعر الأسلوبية لتشكيلات لغوية جديدة، وقدرته على تفعيل الرؤيا الشعرية، بكثافة السرد الوصفي الشائق الذي يرصد جريان عاطفته المتسارعة، لبث كل ما يمور في داخله من عواطف و أحاسيس، وانفعالات، ورؤى جمالية، فهو ينبني النص الشعري بناءً أسلوبياً مميزاً يعزف على إيقاع الجدليات، والمؤثرات الاغترابية من صور بانورامية محتدمة بألق الحالة الشعورية، ومدها الانفعالي الصاخب.

والملاحظ – في شعرية النهابة –قدرة نصوصه الشعرية على خلق مباغتتها التشكيلية حتى عبر السرد الوصفي التشكيلي السريع، مما يدل على كثافة المتغيرات الجمالية التي تشي بها القصيدة على المستوى الجمالي،من انتقال من الوصف إلى النداء إلى الأساليب الإنشائية والتكرار والمفارقة والدراما لتحريك الشعرية من العمق في قصائده.

وما ينبغي التأكيد عليه أن الشعرية- في قصائده- هي تنقلات استثارية تشكيلية إبداعية من متغير أسلوبي تشكيلي فاعل على مستوى المسندات التشكيلية إلى رؤى مباغتة تستفز الرؤى البسيطة، لتحرك الشعرية بإيقاع السرد الوصفي التشكيلي الشائق، وهو ما يجعل لغة الديوان حافلة بالمتغيرات الجمالية على المستوى الأسلوبي التشكيلي المراوغ، والانتهاكات اللغوية الصادمة بقيمها الانزياحية التي تفاجئ القارئ بهذا الاختراقات الأسلوبية الصادمة.

بالانتقال من نسق أسلوبي مميز إلى نسق أسلوبي أكثر استثارة وتحفيزاً. وهذا يعني أن الشعرية -في قصائده- ليست مهادنة لغوية بأنساق تشكيلية معتادة ولغة مألوفة وواضحة في إسناداتها وبساطتها وتداولها السريع،وإنما هي مقارعة لغوية لأنساق جمالية يستثيرها على مستوى المجاورات الإسنادية الصادمة، ليرتقي بالرؤيا الجمالية للقصيدة، مؤكداً عمق الانزياحات على مستوى المتغيرات الأسلوبية في إنتاج الدلالات الجديدة، وتخليق أبعادها الإيحائية، كما في قول الشاعر:

"لم يعد الحلمُ يُرتِّقُ ليلي الطويل،
ولم أعد أحتملُ ضراوةَ الساعاتِ
كلُّ القراراتِ التي لم أكنْ مهيأً لها،
أجهشتْ عليَّ، كنسورٍ جائعة
وصارت تراودني عن شوقٍ مجهض"
أنا الغريبُ الذي لا يمتلك
صحيفة عائلية استثنائية
ولايملُّ من الدعاءِ كي يعودَ طفلاً
مبهوراً بلحظاتِ اكتشافكِ البكر
في حياته"(4).

لابد من الإشارة بداية إلى :أن شعرية التشكيلات الجمالية في قصائد(خلخال غجرية) تنبني على رشاقة السرد الوصفي، ومحرك الرؤيا الجمالية المبدعة في الارتقاء في الأنساق الشعرية من نسق شعري إلى آخر،لإثارة الرؤى، والدلالات الاغترابية، والرؤيوية الجديدة، فالشاعر -هاهنا- يخلق الأنساق التشكيلة المراوغة التي تثير الانزياحات المؤثرة في إنتاج الدلالات الجديدة، كما في الانزياحات التالية:[ضراوة الساعات – شوق مجهض- لحظات اكتشافك البكر]، فهذه الانزياحات تخلق إيقاعاتها الاغترابية العاطفية المتوترة من خلال استثارة دراما الشعور المتحرك عبر طبقات شعورية محتدمة، ليشتغل الشاعر شعرياً على دراما الشعور، وإثارة الاطظراع الداخلي، وتحويل الإحساس الشعوري إلى حالة شعرية يعبر فيها عن اصطراعاته الداخلية الاغترابية الغرامية المتوترة بإيقاع اغترابي يكسوه الحرمان، والتعطش لأنثى الكينونة، أو أنثى الحياة، أو أنثى الوجود، أو أنثى الوطن، لاسترجاع اللحظات الماضوية، واسترجاع الأزمنة السابقة، والتمسك بلحظاتها العاطفية الشعورية البريئة، وتلمس أطيافها المهدهدة للروح من صخب الحياة، وروتينية اللحظات المتجمدة الحارقة، فالنص الشعري الذي بين أيدينا يحكي دراما الشعور بإحساس عاطفي متوتر، يبث إيقاعه الاغترابي، عبر التشكيلات الأسلوبية المراوغة، لتحقيق لغة شعرية أنيقة بمتحولاتها الجمالية، ورؤاها المكثفة، كما في قوله:[أنا الغريب الذي لا يمتلك صحيفة عائلية استثنائية]، فالغربة، والاغتراب، والشعور بالوحش،ة وتعدد الإيقاعات الروحية المأزومة، يدلل على إحساس درامي بانورامي محتدم يغتلي في أعماق قرارة الذات الشاعرة، لتعيش قلقها الوجودي الداخلي واصطراعها النفسية العميقة. وهكذا، تتأسس اللغة الشعرية في بنية القصيدة عند النهابة على حنكة في بث الدراما عبر الكلمات ونسيجها التشكيلي المتوتر داخل السياق.

ونشير إلى ناحية مهمة وهي أن الدراما في قصائد النهابة شعورية داخلية عميقة، تبث ألقها عبر لغة زوغانية إسنادية على مستوى متغيراتها التشكيلية، كما لاحظنا في التشكيلات المراوغة والصور الجارحة التي تعكس غربة عميقة، وإحساس شعوري موحش غريب كما في الصورة التالية:[كل القرارات التي لم أكن مهيأً لها أجهشت علي كنسور جائعة]، فالشاعر هنا يعبر عن تسرع قرارته وعلى أثرها النفسي في تمزيق راحته وإبراز قلقه الوجودي ويأسه واحتراقه الداخلي.وهذا دليل التأزم الشعوري الداخلي، وإحساس عميق بالاصطراعات النفسية المؤلمة التي مر بها، فيحاول بث حالة الوجد الشعورية التي ترصد قلق الذات، وعدم اتخاذ القرارات الحاسمة في المواقف العاطفية المتوترة بالغربة، والنفي، والاغتراب،وهذا دليل قلق وتوتر وعدم توازن في بث الحالة الشعورية القلقة،وترسيمها بكامل احتدامها وأساها الوجودي.

ومن هذا المنطلق يمكن القول: إن لغة الشعر- عند النهابة – لغة عاطفية درامية محتدمة على مستوى مراكمة المشاعر، وكثافتها لتخلق إيقاعها الرؤيوي العاطفي المتوتر، وإحساسها الاغترابي المأزوم، لتبدو الشعرية في قصائده لعبة أنساق تشكيلية مراوغة، تستقي استثارتها من رؤاها ومعانيها الخلاقة التي تشي بها على المستوى الإبداعي.

وهكذا، تبدو اللغة الشعرية في البنية التشكيلية العلائقية في قصائد النهابة ذات قيمة في خلق أنساق لغوية مراوغة تشي بشعرية انزياحية خلاقة بالمعاني والدلالات الشعرية البراقة بمؤثراتها الخلاقة، وبناها الفاعلة على المستوى الإبداعي.

والملاحظ -على المستوى الإبداعي في قصائد( خلخال غجرية) للنهابة أن القصائد عاطفية تبث اغترابها الجمالي عبر لغة انزياحية براقة في صورها البانورامية الشعورية المتوترة، لترصد إيقاع الذات المتوترة وإحساسها بالغربة، والوجاعة ،والألم، لاسيما في رصد لحظة الوداع والحنين المحموم بالأسى والاغتراب، كما في قوله:

"أودّعُ فيكِ
حنيني المحمومَ الذي لا يهدأ
وأغلقُ كلَّ وسائلِ الاتصال معك
متحمماً بغربةٍ لا أدركُ أجلها
ولا مصيرها
وأعرفُ جيداً
أنك من أول صفحةِ كتابٍ أتناوشه
ستظلين بأبهى ثيابك
تمدين يداً مشبوحةً بالشوق
وأمدُّ لك ألفَ يدٍ ممهورةٍ بالندم"(5).

لابد من الإشارة بداية إلى اللغة الشعرية في قصائد الديوان لغة ممزوجة بإيقاعاتها الاغترابية المحمومة وصداها الذي يبث إيقاعاته عبر لغة انزياحية غنية، بمؤثراتها، ورؤاها على المستوى الإبداعي، فالدلالة ترافق الدلالة، والمشهد يركب المشهد، باستثارة جمالية على مستوى محفزاتها التشكيلية، التي تبدو غاية في البث الشعوري الدقيق لما تعانيه الذات في واقعها من اغتراب عاطفي محموم، كما في الصور البراقة التي تفيض بدلالاتها الاغترابية على شاكلة قوله:[ أودع فيك حنيني المحموم الذي لا يهدأ/ تمدين يداً مشبوحة بالشوق/ وأمد لك ألف يد ممهورة بالندم]، فهذه الصور التشكيلية تخلق إيقاعها العاطفي التشكيلي الاغترابي، ليباغت القارئ جمالياً بأنساق تشكيلية، تدلل على حجم الضغط الشعوري الاغترابي الذي يعيشه الشاعر، والواقع الجارح الذي يحيط بالذات الشعرية، لتنكشف دراما الشعور عبر دراما الصور المتحركة، التي تفيض برؤاها ومؤثراتها الإبداعية. وهذا دليل احتفاء الشاعر بالصور الدرامية التي تقف على حرارة الصورة، ومجسها لإبداعي الرقيق، وهكذا، تبدو اللغة الشعرية في قصائد النهابة لغة بانورامية مفتوحة على طبقات متراكبة من الحالات، والمشاعر المحمومة التي تبثها ذاته الشعرية بلغة منكسرة على مستوى إسناداتها الشعرية، لتحقق شعرية الوصف، التي تبدو من خلال وصف الحالة الشعورية باحتدامها وقلقها الوجودي الصادم واصطراعاتها المكثفة.

ولو استغرق القارئ أكثر في فاعلية الكشف الشعري عن البنى والإيقاعات الجمالية العميقة التي تثيرها المتغيرات الأسلوبية النشطة لتوقف على تشكيلات مدهشة على مستوى إيقاعها العاطفي، والرؤيوي ، لتشتغل الدراما في قصائده على مستوى الكلمة/ والكلمة، والجملة/ والجملة، والمشهد/ و المشهد ، والحدث/ و الحدث، والموقف/ و الموقف، بإيقاع جمالي يشي بعمق الحالة الشعورية، وعمق ما تشي به من مؤثرات جمالية وشعورية مفتوحة في إيقاعاتها الشعرية على المستويات كلها، كما في قوله:

"أحجُّ إليكِ
في الخامسةِ وأربع وخمسين دقيقة
من هذا المساء الغائم
بدعاءٍ قلقٍ وقلبٍ متعب
وعمرٍ يمضي دون رحمة.
بلا رفيق
سوى كسرةِ خبز يابس
وسحر عينيك الذي يقطرُ منهما
بخورُ الشرقِ
وآلاف القوافل"(6).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الدراما الشعورية تشتغل على مستوى الأنساق الشعرية، لتحقق قيمتها الجمالية وإيقاعها الفني الرؤيوي الكاشف،وهذا ما نلحظه في المقتطف الشعري السابق ، إذ إن الشاعر يرصد مرارة الذات عاطفياً في البحث عن محبوبته، وقد أضناه هذا البحث في عمر تنقضي ساعاته وأيامه مسرعة دون أن يجد ما يريد، ويحقق مبتغاه، ولهذا، جاءت التشكيلات الشعرية الانزياحية براقة في وصفها حالة الاغتراب النفسي، والوجاعة، والألم التي يعانيها وهو ما زال يتألم ويبحث عن محبوبته، وقد عاش مرارة البحث سنين طويلة على أمل تحصيلها دون أن يجد مبتغاه، وقد جاءت التشكيلات الشعرية التالية:

[دعاء قلق- قلب متعب- كسرة خبز يابس] دالة على اغتراب شعوري يائس حزين، وأسى عميق دال بقوة عن مرارة الفقد وصعوبتها على روحه، وهو ما زال مغترباً بمعاناته وأساه الوجودي، وهكذا تأتي اللغة الشعرية -في قصائد( خلخال غجرية)- ذات إيقاعات اغترابية شعورية عميقة تبث إيقاعها الدرامي على مستوى الكلمة/ والكلمة ،والمشهد/ والمشهد، والموقف/ والموقف،وكأن الشاعر يرصد الدراما الشعورية الداخلية بإحساس عميق ورؤية ثاقبة بمتغيراتها وأحاسيسها العميقة. فالشاعر يظهر الدراما الداخلية المتوترة عبر الصور المؤلمة، بحنينها ،وعاطفتها المشبوبة، وزحم الحالات الانفعالية، وما يصاحبها من قلق، وغربة، واحتراق، تظهر للقارئ بوضوح على مساحة الصور التي يبثها الشاعر بين الكلمات، والجمل، ليحقق أعلى قيم انزياحية استثارية على مستوى التركيب الشاعري الجميل.

ولو تأمل القارئ في سيرورة البنى الجمالية التي تحكم فاعلية هذه القصائد لتوقف على العديد من البنى اللغوية الفاعلة في تكثيف دلالاتها ورؤاها الشعرية، فالشاعر يمتلك رؤية جمالية في ربط الكلمات بأنساق استثارية تحرك الرؤية الرومانسية من الداخل، ليعلن كثافة الصور وفاعليتها على المستوى الفني.

والملاحظ – على المستوى الإبداعي في قصائد(خلخال غجرية) أن الشاعر يعتمد تقنية التراكم ، وتقنية التراكم هذه المقصود بها :تراكب الحالات، والصور، والمشاهد، واللقطات الشعرية للتعبيرعن زخم المشاعر الانفعالية الصاخبة، التي تبثها القصيدة بإيقاعات متنوعة، من الحياكة، والتشكيلات اللغوية الصادمة في إيقاعها، ومن هذا المنطلق تأتي تقنية التراكم منفساً تحفيزياً للشاعر للتعبير عن حجم الاصطراعات والتوترات الداخلية، وبثها للقارئ بكامل سخونتها العاطفية،وإيقاعها المتوتر الصاخب، كما في قوله:

"لن تنالي عودتي بأسمائي الكثيرة
ولو بوجوهك التي تنثرينها أينما أحلُّ
أنا رجلٌ أحتاجُ إلى الصدق أكثر من حاجتي إلى
وعدٍ مؤجلٍ وكلمات
وأنت أكثر من غيركِ تعرفين
أن أشرطةَ الحنين العمياء
لن تحرك في داخلي ساكناً
فلنرمِ بعيداً كلَّ أقنعةِ الماضي البليد
ونهزُّ الذاكرة بعنفٍ
لاستحضار تمثال حريةٍ جديد"(7).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الدراما الشعورية المتوترة هي التي تدفع الشاعر إلى تكثيف فاعلية تقنية التراكم، لبث المشاعر الصاخبة، وتعدد طبقاتها العاطفية المحمومة، فالشاعر -هنا -يرصد مشهداً عاطفياً متوتراً،إذ يعاتب الشاعر محبوبته، يريدها أن تحيا بجمال، وحرية وأن تعرف ما في داخله من عواطف ومشاعر محمومة بحبها، وأن تتلقف هذه المشاعر بجمال، وحرية دون أن تكون أسيرة شكوكها وظنونها، وهذا ما يلحظه القارئ في الانزياحات الجمالية الصادمة التالية:[أشرطة الحنين العمياء= أقنعة الماضي البليد- تمثال حرية جديد]، وهذا الأسلوب الجمالي في مراكمة الصور، والتشكيلات الجمالية المحمومة بالعاطفة، ودراما المشاعر يزيد المشهد الشعري حرارة عاطفية، وقيمة في خلق المعاني الجديدة والكشف عن شعرية السرد الوصفي العاطفي، والصور المرتبطة به بنواتجها الدلالية المحمومة على المستوى الإبداعي.

والملاحظ أن الدراما الشعورية وما يرتبط بها من مؤثرات كتقنية التراكم والعطف، وتتابع الجمل الوصفية تسهم في تبئير المشهد الشعري حول مشاعر الاغتراب، والحنين، وبث المشاهد المؤلمة، لإبراز اغترابه وقلقه الوجودي، كما في قول الشاعر:

"وإن سألوك لماذا توضأتِ فجراً
على عجل،
وصليت ستاً، صلاةَ شكر؟
فقل لهم: إنها رحلتْ
كانت أرضاً خصبة
فرحَ بها الصغارُ
وصاروا يرسمون عليها
ما يشاؤون
وجوهاً مشوهة
وجذع نخلة خاويةٍ
ويداً مقطوعة"(8).

لابد من التأكيد بداية إلى أن اللعبة الجمالية في قصائد ديوان( خلخال غجرية) تتحقق على مستوى العلاقات، والروابط ،ومؤثرات البنية الشعرية الانزياحية، وما يبث الشاعر من خلالها من صور عاطفية مأزومة يحاول نقلها للقارئ بإحساس جمالي ،وحراك شعوري مفتوح، وكأن الشاعر يرسم المشهد الشعري رسماً تفصيلياً لإدهاش القارئ، وإبراز الملمح الجمالي للأنساق الشعورية الوصفية الماثلة في تبئير الحالة واستثارة المشاعر العاطفية المحمومة المرتبطة بها.

وهنا في المشهد الشعري السابق حاول الشاعر أن يراكم الصور الشعرية، لتحقق إيقاعها الجمالي على مساحة الوعي الشعوري في مراكمة الصور بانزياحاتها الخلاقة التي تدل على اغتراب، وأسى شعوري محموم:[ وجوهاً مشوهة = وجذع نخلة خاوية = ويداً مقطوعة] ،وهذه الصور المشهدية تبين حجم الاغتراب الشعوري اليائس الذي يعيشه الشاعر، لبث مظاهر الأسى، والحرقة، والاغتراب.وكأن كل صورة مشهدية تعكس درجة من الوجاعة والحرقة الداخلية والأسى الدامع.

والملاحظ أيضاً على المستوى الإبداعي مهارة الشاعر في ترسيم الحالة الشعورية، لتبدو الرؤيا مشتعلة بلهيبها الإبداعي، ومساحة ما تبثه الرؤية الشعرية من مؤثرات، ودلالات اغترابية نلحظها على مستوى المشاهد، والصور، ومؤثرات الدلالة، لاسيما أيضاً في وصف الحالة الانفعالية الغزلية، وترسيمها بواقع شعوري صادق ،وإحساس مفعم بالوداعة، والرقة، والعتب الشعوري الشفاف، كما في قوله:

"لماذا ترغبين في انتزاعِ وجهي الحقيقي
واستبداله بجلدٍ غريبٍ عني
لماذا يا ساديةَ العشقِ
يروقُ لك تحويلي
إلى شخصٍ آخر لا أعرفه؟
دعيني أتصرفُ معكِ
مثلَ طفلٍ عفوي أرعن
يمارس معك كلَّ ألعابه البهلوانية
ورجل طاعن في الحب
لا يُبصرُ إلا قبضتكِ
وشيخ يرتكبُ باسمكِ
كل الذنوب التي لا تغتفر"(9).

هنا، يعاتب الشاعر محبوبته على عاطفتها التي تدفعه إلى الخروج عن طوره، ويرتكب لأجلها جل الذنوب العظيمة الني لا تغتفر، بإيقاع تراكمي عاطفي شديد الاستثارة والشاعرية، فالشاعر وإن لم يستطرد في تكثيف الصور الانزياحية البراقة لكنه استعاض عنها برشاقة السرد الانفعالي الصاخب، والتلذذ اللغوي برشاقة الحالات الشعورية،وبثها بعمق وحساسية جمالية، فقد استطاع الشاعر إبداعياً أن يسمو بقصائده لتحقق قيمتها الشعرية الآسرة ،والتعبير بعمق عن وقع الحالة الشعورية ،وإحساسها الدرامي الداخلي المتوتر بكثافة الانفعالات، والرؤى الغزلية التي تشي بها على المستوى الإبداعي.

وأخيراً، نصل من قراءتنا لديوان( خلخال غجرية) لحسين نهابة إلى النتائج المفصلية التالية:
1-إن الرؤية الشعرية التي تبثها قصائد الديوان رؤية جمالية قائمة على شعرية الانزياحات ،وفاعلية الرؤى الدالة على دراميته الشعورية العاطفية العميقة، فالدراما في قصائده ليست غيرية، وإنما ذاتية تنبع من الذات وتصب في الذات، مما يجعل مساحة الرؤيا تتبأر حول الذات، وتصب في خانة الذات ،وهذا ما ينطبق على قصائد الديوان قاطبة،إذ تصب في خانة دراما الذات اليائسة المغتربة، بالحنين والألم والوجاعة، والإحساس بالعدمية وحالة اللاجدوى. وكأن كل شيء أمامه يؤذن بالرحيل والاغتراب.

2- إن المؤثرات الجمالية التي تحكم سيرورة قصائد (خلخال غجرية) تنبع من مؤثرات المشاهد والصور الدرامية على مستوى الكلمات، والمشاهد الجزئية ،وصولاً إلى الدلالة الكلية التي تحكم سيرورة هذه القصائد على المستوى الإبداعي.

3- إن غنى الرؤى الشعرية وصخب الحالة الشعورية الداخلية كان وراء بروز ظاهرة التراكم الماثلة بكثافة الجمل، والصور، والعطف، وتتابع الجمل السردية الوصفية وغيرها من أساليب إنشائية دللت على شدة انفعال الشاعر و توتر الدراما الشعورية، وكثافتها في سياقات قصائده على المستوى الفني.ناهيك عن كثافة حالات العطف التي تدلل على تراكم المشاعر طبقات طبقات فوق بعضها البعض على مستوى الجمل وتتابعها في النسق الشعري الواحد.

4-إن حرص الشاعر على تكثيف اللقطات الشعرية المكثفة بدلالاتها الرومانسية الحالمة، ومثيراتها الفاعلة في التعبير عن الدراما الشعورية المصطرعة دليل حنكة تشكيلية على المستوى الدلالي، وهذا دليل غنة قصائده بالمثيرات الشعرية الخلاقة على المستوى الإبداعي.

4-إن غنى الشعرية أخيراً في قصائد الديوان كان وراءه رؤية متوهجة إبداعياً بانزياحاتها الخلاقة على مستوى الصور والمشاهد الشعرية، وهذا ما يجعل شعرية قصائد هذا الديوان تصب في خانة شعرية الرؤيا وتحويل العاطفة من عاطفة انفعالية صاخبة بحالاتها الدرامية إلى عاطفة هادئة تبث قلقلها بصور رومانسية انسيابية هادئة في بعض السياقات العاطفية الآسرة جمالياً على المستوى الرومانسي.
.
الحواشي:

(1)كوهين، جون،1986- بنية اللغة الشعرية،تر: محمد الولي، ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، ص6.
(2)السد، نور الدين- الأسلوبية وتحليل الخطاب، دراسة في النقد العربي الحديث (تحليل الخطاب الشعري والسردي) المطبوعات الجامعية الجزائر (د.ت) ص24.
(3) قطوس، بسام، 1999- استراتيجيات القراءة، دار الكندي، للنشر والتوزيع إربد الأردن، ص135.
(5)نهاية، حسين،2017- خلخال غجرية، دار نينوى، دمشق،ط1، ص45.
(6) المصدر نفسه، ص44.
(7) المصدر نفسه، ص38.
(8) المصدر نفسه،ص27.
(9) المصدر نفسه، ص26.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى