قبعة حمراء..
على عجلٍ, تناولتُ فطوري..و أغلقتُ تلفاز الأنباء الحزينة,و أسرعتُ إلى موقف الباصات القربية من منزلي.. كي أصلَ باكراً معهدَ الشعر و القصة, و أكون أول شخص يلقي تحية الصباح على إنغريد.
الثلجُ ينهمرُ فوق رأسي..ستأتي الحافلة بعد قليل, أشعرُ بالبرد, فما كان عليَّ أن أتركَ رأسي مكشوفة عرضة للريح و الأفكار العاصفة و النظرات المستطلعة..
تأخرَ الباصُ على غير عادته, كما أنني نسيتُ إرتداء قبعتي الزرقاء على غير عادتي.. و أخذتُ أتذكرُ تاريخي مع القبعات منذ أن كانت خاكية و مموهة و بسيطة إلى أن حولها الثلج و الرحيل و الأسى إلى ملونة و إفرنجية..
و أمام لسعات البرد.. قررتُ أن أؤجلَ حديثَ النهرِ و المخيم و البساتين.. و أفكر في مشكلة الباص الذي سيؤخرني عن دخول الفصل و إستعراض مواهبي الخيالية في ساحة المبالغات شبه خالية من الفرسان..
إمرأة , أراها في نفس الموعد كل يوم, تنتظر الحافلة مثلي تتوقف فجأة عن إرسال إبتساماتها الصباحية..يبدو أنها إكتشفت حيلتي و أنني أكبر مما هي تتوقع..برأس أصلع..
و لعلي خيبت أملها..تنظرُ إلي كأنها تعاتبني, كأنها تقول في لهجة معاتبة:" لماذا خدعتني كل هذه المدة و جعلتني أفكر بك كصديق محتمل لرغباتي"
هاي هي تكتشف أن صداقتنا المفترضة ينقصها بعض الشَعْر..
أتجاهلُ المرأة.. و أنظر ُ إلى عجوز تبوسُ كلبها في منتصف الشارع..
الساعة الثامنة و النصف.. لم يحضر الباص..أسئلةٌ تخرج من جيوبي حائرة..تصطدم بالشجر القريب من موقف الحافلات, الريح عاتية.. قد تنقل أسئلتي إلى أمكنة أكثر أماناً.
تداهمني فكرة قصيدة.. أسعلُ ثم أتناول القلمَ بسرعة و أدونها.. أكملها فيما بعد و أقرأها لإنغريد في الصف..فهي الوحيدة من بين خمس زميلات التي تتعاطف مع جرحي..
..أتذكرُ أستاذَ مادة الأدب" يسبار" و إبتسمُ حين أتذكرُ زوجته الطويلة جداً..يسبار أصلع أيضا , لكنه لا يرتدي قبعة مثلي. بل أنه ينتقدني و يعتبر إرتداء القبعة من علامات الإنسحاب الذاتي من ثقة في النفس مفترضة..يا لحظي كيف نسيتها.. سأعود إلى البيت و أحضرها..سأقول ليسبار:-" تأخرت بسبب نسيان قبعتي, أنت تعرف ذلك" و سيرد هامساً :-" و أنا حضرت قبلك بقليل لأني تأخرت بسبب الطقس السيء و طول السرير.."
يؤثر الثلج المنهمر بكثافة على إتجاه قراري.. فيدفعه إلى التراحع.. أشعرُ بالدوران..
المرأة التي إكشفت صلعتي , تنظر إليّ.. ثم تنظرُ في ساعتها و تطلقُ زفرةَ إحتجاج على تأخر الباص..
لم يأت الباص بعد..لكني لا أشاهد المرأة.. ما زلتُ أنتظرً قدوم الباص..لعله مرَّ و لم أنتبه.. و كنتُ منشغلاً بينابيعي..شردتُ بعيداً..
يأتي الباص أخيراً..الساعة التاسعة تماماً.. تأخرتُ عن الفصل, و عن عيون إنغريد و حديقتها الخضراء.. أصعدُ الباص بقفزة.. ينظرُ لي أحد الرجال بإستهجان..أجدُ مقعدا ًخالياً بجوار فتاة جميلة و صغيرة ,أجلسُ.. أمواجٌ من الذهبِ البضِ تجلسُ على بعد لمسةٍ من كفي..أشعرُ بالتحسن..
الرجلُ الأبيض الذي زجرني بنظرة لا تخلو من عنصرية..يتظاهر بقراءة جريدة..
أُخرجُ ورقة من محفظتي..أنظرُ إلى عينيها و أكتبُ بحروفٍ عربيةٍ بارزةٍ..ترمقني بهلالين زرقاوين " ماذا تكتب..شعر .قصة؟ "
– " عن عينيك أكتبُ في كلِّ الأنواع و الأجناس الأدبية وغير الأدبية" تضحك.. و تنعتني بالجرأة..أنعتها بالجمال و الجاذبية.. تعلو ضحكتها..بينما تغزوها نظرات غاضبة لخمسة رجال و أربع نساء, ثم يتركز الغزو على كامل كياني..فلا أتنازل..
أتوقفُ عن الحديث..أنظرُ من الزجاج..أسافرُ في حلم.. يغمرني رذاذ التهيؤات.. أركضُ معها على رمل البحر..آخذها إلى جذوري و مدن أحلامي.. تهزُّ رأسها و تبتسم..
تنزلُ الفتاةُ الجميلةُ من الباص قبلي..تقول لي قبل مغادرتها:" على فكرة صلعتك جميلة مثل صلعة والدي الذي أحب"
أصمتُ و أتوارى في مجاهل الشرود النرجسي .." لو أنها معي في الفصل..أستبدلها بإنغريد.. أو أحتفظ بالإثنتين معاً..و هذا أفضل"
يأتي مفتش الباص.. يسألني عن التذكرة.
– آسف نسيت قبعتي في البيت
– ماذا تقول؟ أريد التذكرة..
– نسيت.
سأسجلُ ضدكَ مخالفة..
– سجِّلْ..
توقفَ الباص.. نزلتُ, ذهبتُ راكضاً إلى المعهد..وصلتُ لاهثاً..دخلتُ الصف.. ألقيتُ تحيةَ الصباح على إنغريد و المعلم و بقية الزميلات و الزملاء.. و بدأتُ في كتابة التمرين الصباحي..
نظرتْ إليَّ إنغريد..ثم قالت:
– هل تراكَ تأخرتَ هذا اليوم , لأنكَ إشتريتَ هذه القبعة الحمراء التي ترتديها؟ هذا تناسبكَ أكثر من الزرقاء التي كنت ترتديها بالأمس.
و ضعتُ يدي على رأسي..إكتشفتُ أنني أرتدي قبعة..حمراء كما قالت إنغريد .
و بدأ الدرس.