في بيتنا نخلتي رقم ٢١
في بيتنا نخلة طويلة،تقف على أطراف البستان الذي يوليه أبي عنايته الخاصة، رأسها عالٍ كأنه يحاول لمْس السماء أو التحاور معها،حين أخرج صباحا من البيت إلى المدرسة تقابلني نخلتي الخضراء،هكذا كنت أحب أن أناديها،فأودعها و تودّعني بأن تهـزّ جريدها لي.
كانت أمي تقول لي إنّ جذور النخل تضرب مئات الأمتار في الأرض،و كنت أبالغ في تحديد مئات الأمتار هذه حين أقابل أصدقائي، و أحكي لهم عن نخلتي،مرارا كنت أدعوهم إلى رؤيتها، و نمكث نتحدث تحت ظلالها هاربين من لسعة شمس الصيف. وكل ليلة كنت أتفـرّد وحدي لأحلم بتسلُّقها ،والوقوفِ على قمّـتها، فألاَمِس السماء و أنظر إلى الغيم و أكلّـم الطير.
و ذات يوم ودّعت نخلتي،و توجهت إلى مدرستي، كان اليوم هادئا لكن سرعان ما هبَّت الريح، وراحت تهـزّ كلّ شيء في قوة حتى خاف بعض التلاميذ، وحين انتهى الدرس خرجنا مسرعين إلى منازلنا والريح تلعب بنا يمينا و شمالا. توجه صديقي نحوي قائلا:
ـ "هل تستطيع نخلتك مقاومة هذه الريح ؟
رددت عليه باعتزاز: ـ"نخلتي تقاوم أكثر من هذه الريح، ماذا تظنها.. أهي ضعيفة إلى هذه الدرجة؟
و بعد أن اقتربنا من منزل أحمد صديقي، ودعته و أسرعت الخطو باتجاه البيت.
دفعت باب الحديد و رفعت رأسي لأسلِّم على نخلتي و بقيت واقفا، مشدوها...هي لم تُسلم عليّ.. الريح لوَتْ رأسها، فأسقطتها أرضا، محطمة جزءا من جدار البستان، و برز جذعها المخلوع.
كان أبي وإخوتي، يحاولون إزاحة رأسها،ولم يفلحوا في ذلك لثقله. اغتنمت فرصة انشغالهم، واقتربت منها. نظرت مليا إلى ذلك الجذع البارز،ثم قلت لنفسي:" لم لا أغطيه بالتراب.."و هكذا فعلت.
صعدت الدرج على غير عادتي السريعة، نزلت دموعي حارة، أنا كنت أبكي على ما حدث لنخلتي وأبي كان يتحدث مع إخوتي في قضية ترميم الجدارفي أسرع وقت ..
ليلتها لم أنم جيدا..فكرت كثيرا في كلام صديقي أحمد، ما عساي أقول له غدا ..؟
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة و أنا جدّ حزين، والذي زاد من حزني أنّ بعضهم سخر مني ومن صفة القوة التي ادَّعَيتها ـ حسب ظنّهم ـ لنخلتي. لكنّي كنت مؤمنا بقوة نخلتي.. كنت حين أنام ،أنظر إلى السماء،و أطلب من الله أن يبقيها حيّة وأن ينبت لها سعفا أكثر اخضرارا من الأول. و كنت كلّ صباح أهرولُ إلى الخارج فلا أجد شيئا.
و جاء الربيع..و بدا كل شيء جميلا بقدومه، كنت فرحا و لكن فرحتي لم تكن مكتملة لأن نخلتي لم ينبت لها شيء،وهي مهجورة حزينة بائسة
..كنت أنزل إلى البستان أحاول احتضانها بيَدَيّ، ولا أحتضن سوى الجهة المقابلة لي، آهٍ.. كم هي عظيمة نخلتي، على الرغم مما حلّ بها إلاّ أنها ما زالت قوية. كنت أحاول أن أفهمها أنني لا زلت أحبُّها، كنت أريدُها أن لا تحس بأنها وحيدة مثلما كنت أحس أنا في بعض الأحيان حين يهجرني أصدقائي، أو نتخاصم مع بعضنا بعضا...
و في يوم، وقفتُ أنظر إليها نائمةً على الأرض، و إذْ بي أرى من قاعدة الجذع مجموعةً من الجذور قد خرجت مُتفرعةً إلى جذور ثانوية أخرى.هرولتُ إلى أبي صارخا:
ـ "تعال يا أبي لترى، نخلتي التي ظننتم أنها ستعيش لأيام فقط،، تُولدُ من جديد.
ـ ماذا تقول! لو لم تتدخل والدتك لكنت اقتلعتها ورميت بها بعيدا.
ـ أرجوك يا أبي، تعال..
رافقني أبي و نزل إلى البستان يحدق في النخلة و جذعها.. ثم قال:
ـ سبحان الله ..لقد أنبتت جذورا جديدة فعلا.
في تلك الليلة نمت و أنا مرتاح البال، دعوت ربّي أن أبقى مع نخلتي دائما.
و بعد شهور كانت المفاجأة..نخلتي استمرت في النمو و أثمرت أيضا و هي على وضعها ذاك. سقوطها و إعاقتها لمْ يمنعاها من إنتاج أفضل الرّطب.
= انتهت =