الخميس ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
كتاب جديد للكاتب الجزائرى حواش مصطفى
بقلم إبراهيم عوض

عاشق متبتل فى محراب زكى مبارك

صديقى العزيز الأستاذ حواش مصطفى مؤلف هذا الكتاب واقع فى غرام المرحوم الدكتور زكى مبارك "إلى شوشته" كما نقول فى مصر. وقد أصدر تباعا عددا من الكتب عنه ناقشنا فى إحدى حلقات "مع النقاد" من البرنامج الثقافى بالإذاعة المصرية منذ بضع سنين كتابا منها. ولست أعرف كاتبا بلغ من تحمسه لأديب من الأدباء أن يصدر كل هذا العدد من الكتب عنه مثلما صنع حواش مع زكى مبارك. واليوم يقتفى الأستاذ حواش خطا حبيبه الأثير الدكاترة زكى مبارك فى كتابه الذائع الصيت المسمى: "مجنون سعاد"، فيخرج كتابه: "مجنون دلال". وكما سمى زكى مبارك نفسه: "بديع الزمان" فقد لقب حواش نفسه: "قمر الزمان"، ويا له من قمر!

ولا يتوقف اقتفاء حواش خطا أستاذه ومثاله الأعلى فى دنيا الأدب والكتابة الدكاترة زكى مبارك عند هذا الحد، بل يقتفى كذلك أسلوبه: فمن ذلك مثلا أنه يسير على سنة زكى مبارك فى استخدام ألفاظ وعبارات وصيغ اشتقاقية بعينها مثل "الظباء" و"بُغَام" و"أفانين" و"جلاميد" و"الفينان"، وصيغة "فواعل" مثل "بوارق" و"هواتف"، وصيغة جمع التكسير فى وصف جماعة غير العاقل بدلا من استخدام المفرد، مثل "الصخور السود" و"ألوان مختلفات" و"أنفاسى الحِرَار"، واستعمال "كان" بين جزئى "صيغة التعجب": "ما كان أهنأ وردك!"، واستخدام "كان" أيضا فى صيغة الماضى البعيد دون إتباعها بــ"قد": "أفنانى فراقها، وكان أحيانى لقاؤها"، بدلا من "وكان قد أحيانى لقاؤها".

كذلك نراه يدلل حبيبته دلال أو يتدلل هو عليها بالتظاهر بتهديدها وشتمها كقوله: "سيمسك طائر الكنارى عن التغريد فى قفصه الذى حبسته فيه وأنت آثمة"، "لعنة الله عليك"، "سوف أتشفى منك، وسأرقص على أنغام شقائك، فما رأيك يا شقية؟"، "يا مثال النزق والطيش، ويا مثال الغدر والخيانة"،"وهل هناك حية أفتك منك؟ أنت الحية الرقطاء التى لا تؤدبها إلا العصا الغليظة. وستعرفين كيف أضع حدا لفحيحك، ولن تخيفينى بعد اليوم، ولن أترك لك الحبل على الغارب، فقد طال عهد تصابيك وتطاولك يا لئيمة". وكان هذا دَيْدَن زكى مبارك مع حبيباته: موهومات كنّ أو حقيقيات.

وبالمثل كثيرا ما يتمنى مثله عودة الماضى الجميل الذى ولى وكانت له فيه ذكريات حبيبة إلى نفسه أصبح يفتقدها فى حاضره القحل الموحش: "متى تعود أيامى بالقرارة؟ متى يعود إليَّ ذلك الجو الحميمي الذى عايشته هناك؟ أم أن الزمان الذى مضى لن يعود؟ ذلك زمان الفتوة. زمان كنا نحسبه لا ينقضى".
ومن هذا الاقتفاء الذى يدل على شدة تعلقه بأستاذه كثرة التكرار الموقّع الحارّ الذى يعكس تهدج مشاعره وتلهب قلبه. بل إنه ليكتب كل جملة من جمله المكررة فى سطر منفصل مثلما كان يصنع زكى مبارك:

"إن لم تغمرينى بعطفك فمن سيغمرنى؟
إن لم تواسينى بلطفك فمن سيواسينى؟
إن لم ترحمى ضعفى فمن سيرحمنى؟
إن لم تغفرى ذنوبى فمن سيغفرها؟".

فأين أنا مما أريد؟ أين... أين؟

إليّ إليّ يا أكرم ذخيرة أعددتها لأيام البؤس والشقاء.

إليّ إليّ، فإنى فقير إلى نظرة طرفك الأحور، وبسمة من ثعرك الوضاح.

إليّ إليّ قبـل أن يجف عــودى وأستريح فى مقبرة الشيخ با عيسى العلوانى أو مقبرة الشيخ بابا السعد"

"متى تكونين لى وحدى؟ متى أختلى بك؟ متى؟ متى؟
متى يتبدل الوهم إلى حقيقة؟ ومتى أستقبلك فى بيتنا؟ ومتى أغنم معك أصفى اللحظات، وأحلى الأوقات، وأجمل الأيام، وأبهى الأسابيع، وأغلى الشهور، وأمتع السنوات؟

متى تكونين لى العمر كله؟ متى؟ متى؟".
ويظهر تأثره بالدكاترة زكى مبارك أيضا فى استنانه بسنته فى طنطناته الافتخارية وتهديده لحبيبته بالفضيحة وباستنفار "عزوته" ضدها على طريقة الريفيين، بطبيعة الحال على سبيل المداعبة لا الحقيقة: "سأستنفر جميع بنات حواء ولى بينهن عمات وخالات وأخوات وصديقات يأسَيْن لمصابى، سأجعلك أضحوكة النوادى، وحديثا يلوكه السامرون، ولن يهنأ لى بال حتى أجعلك تفتضحين بين أهلك وقومك. أما صورتك الجميلة التى أهديتِها لى بعد لقائنا الأول فسأنسخ منها صورا كبيرة ثم أعلقها فى جميع النوادى، وأكتب تحتها بالخط العريض: "هذه مثال الغدر". وستعلمين كيف أشوه سمعتك بين جميع بنات جنسك ، ولن يغمض لى جفن حتى أجعلك أضحوكة العالمين"، "لا يهمنى أن تؤلبى علي أنصارك ومريديك، فأنا طلاع الثنايا، وأنا الشهم الشجاع الذى يخافه كل غرير، وستعلمين كيف أريك فيهم يوما أسود أغبر"، "سيختفى الوفاء والإخلاص من الوجود عندما أقضى نحبى، وستمرح تلك المعانى فوق ثرى قبرى لأنها لن تجد بعدى أحدا يحتوى صدره تلك الشمائل والفضائل. أخاف أن تقفر الدنيا بعدى فلا يتراحم الأحباء بينهم إلا وهم مكرهون، فينشأ بينهم ما ينشأ بين الشركاء عندما تنتفى بينهم الثقة فيغدو كل واحد منهم متربصا بصاحبه، ويصبح الواحد منهم لصاحبه كالغُلّ القَمِل".
وقد يتحول حنقه عليها إلى تنقص من ذاته هو لا لأنه سيئ، بل لأنه أحسن بها الظن فلم تكن عند حسن ظنه: "لكن الذنب ذنبى، فأنا الغر الذى كان يثق بوعدك الخُلّب وبما تطوينه عنى من نوايا خبيثة ما زالت تحمل إلي بوارق من كلامك المعسول".

كذلك قد يمتح الأستاذ المؤلف من محفوظه القرآنى كما فى العبارات التالية: "فنكصتِ على عقبيك"، "وسيغيض ماء الفوارة التى تتوسط حديقتك فلن تستطيعى له طلبا"، "وسيتحول زرعها هشيما تذروه الرياح"، "سيحدث فى حديقتك وبيتك ما لم تكونى تحتسبين". ومن السهل على القارئ أن يرجع كل عبارة من هذه العبارات إلى أصلها القرآنى.

وبالمثل نراه يوشى كلامه ببعض نفحات من أحاديث المصطفى عليه السلام كقوله: "فأنت لقلبى ووجدانى كالماء والثلج والبرد"، "فارحمى ضعفى وقلة حيلتى". ففى العبارة الأولى صدى لدعائه صلى الله عليه وسلم ربه أن يطهر قلبه بالماء والثلج والبرد، وفى الثانية صدى لابتهاله عليه السلام له سبحانه فى بستان ابنَىْ ربيعة يوم الطائف حين ألجأه السفهاء والعبيد والصبيان بحجارتهم ومطاردتهم إلى ذلك البستان حيث قابل هناك عداسا النصرانى، الذى حمل له قِطْف العنب هديةً من سادته أصحاب البستان.

وهناك الاقتباسات الشعرية كقوله يقلد بشار بن بُرْد فى دعواه النحول: "إن لى جسمـا لو توكـأت عليـه لانهدم" أو فى قعقعاته العنترية: "أغضب غضبة مضرية"، أو ابن الرومى فى رثائه لابنه محمد: "ماذا لقيت بعدى؟". وهنا لا أستطيع أن أمنع نفسى من الضحك حين أتخيل بشارا ذلك الذى كان له جسم فى ضخامة جسم الجاموس على ما يقولون، ومع هذا يزعم أن فى برديه جسما ناحلا لو توكأت عليه حبيبته لانهدم. يا ألطاف السماوات!

ومما يميز تلك الرسائل أنه ما من رسالة منها إلا وزينها الكاتب ببضعة أبيات له أو لشعراء آخرين، وهذا من الوضوح بمكان، فلا داعى للتدليل عليه.
وفى نهاية تلك الكلمة أدعو الله سبحانه أن يرحم عَبْدَه زكى مبارك، وأن يكثر من أمثال الأستاذ حواش فى وفائه وإخلاصه ومثابرته على حبه لذلك الرجل الذى عاش عمره يشكو قلة الوفاء والإخلاص.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى