الخميس ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥
بقلم فوزيّة الشّطّي

صُنْدُوقُ البَرِيد

وَالآنَ، وَقَدْ وَخَطَ الشَّيْبُ شَعْرِي وَانْدَسَّ فِي تَلاَبِيبِ رُوحِي، مَا زِلْتُ أَتَلَذَّذُ حَلاَوَةَ دَهْشَتِي وَأَتَرَشَّفُ مَرَارَةَ خَيْبَتِي كَمَا لَوْ أَنَّ الزَّمَنَ حَطَّ رِحَالَهُ فِي حِضْنِ طُفُولَتِي فِعْلَ الطُّيُورِ الـمُهَاجِرَةِ فِي الأَصْقَاعِ الدَّافِئَةِ الخَصِيبَةِ.

كُنْتُ كُلَّمَا لَمَحْتُ الصُّنْدُوقَ الأَصْفَرَ الصَّغِيرَ الـمُغْلَقَ ذَا الفَتْحَةِ الأُفُقِيَّةِ الضَّيِّقَةِ سَرَحَتْ مُخَيِّلَتِي الـمُنْفَلِتَةُ فِيمَا يُخْفِيهِ مِنْ عَمِيقِ الأَسْرَارِ وَعَجَائِبِ الأَخْبَارِ. تَسَاءَلْتُ طَوِيلاً عَنْ مَسَارِ الرَّسَائِلِ الـمُلْقَاةِ بَيْنَ شِدْقَيْهِ الشَّرِهَيْن. وَرَغْمَ طُولِ حَيْرَتِي لَـمْ أَسْتَشِرْ أَحَدًا لِأَنَّ عِنَادِي الفِطْرِيَّ قَرَّرَ أَنْ أُدْرِكَ الـحَقِيقَةَ بِمَحْضِ اجْتِهَادِي. بَعْدَ تَفْكِيرٍ مُضْنٍ بَلَغْتُ بَرْدَ اليَقِينِ: لاَ بُدَّ أَنَّ الرَّسَائِلَ تَـمْضِي بِـمُجَرَّدِ إِلْقَائِهَا هُنَاكَ نَحْوَ وِجْهَتِهَا النِّهَائِيَّةِ فِي أَنْفَاقٍ ضَيِّقَةٍ أَشْبَهَ بِالأَنَابِيبِ. لاَ بُدَّ أَنَّ كُلَّ رِسَالَةٍ تَلْتَزِمُ بِالوُصُولِ إِلَى العُنْوَانِ الـمَكْتُوبِ عَلَى غِلاَفِهَا. لاَ بُدَّ أَنَّ شَبَكَةَ الأَنْفَاقِ وَاسِعَةٌ مُعَقَّدَةٌ تَـمْسَحُ البِلاَدَ طُولاً وَعَرْضًا. وَقْتَهَا لَـمْ يَتَرَدَّدْ خَيَالِي الكَادِحُ الفَالِحُ فِي أَنْ يَحْفِرَ هَذِهِ الأَنْفَاقَ بِأَعْمَاقِ البِحَارِ وَسُفُوحِ الجِبَالِ وَبُطُونِ الوِدْيَانِ، لَـمْ يَبْحَثْ فِي أَدَوَاتِ الـحَفْرِ وَالبِنَاءِ وَالـهَنْدَسَةِ، لَـمْ يَقِفْ عَاجِزًا أَمَامَ الحُدُودِ السِّيَاسِيَّةِ بَيْنَ شَتَاتِ الدُّوَلِ. فَالعَالَمُ بِأَسْرِهِ كَانَ عِنْدِي قِطْعَةً وَاحِدَةً اِسْـمُهَا تُونِسُ. عَنْ سَبْقِ الإِضْمَارِ تَجَاهَلَتْ مُخَيِّلَتِي الـمُجَنِّحَةُ كُلَّ العَوَائِقِ. وَاكْتَفَتْ مُنْتَشِيَةً بِتَصَوُّرِ الرَّسَائِلِ وَهْيَ تَنْدَفِعُ كَالفَرَسِ السَّابِحِ إِلَى الـمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ تَهْدِيهَا يَدٌ إِلَـهِيَّةٌ لاَ تَأْخُذُهَا سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ.

ثُمَّ كَانَتِ الصَّدْمَةُ. رَأَيْتُ مَرَّةً أَحَدَهُمْ، عَلِمْتُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ يُسَمَّى سَاعِيَ البَرِيدِ، يَفْتَحُ الصُّنْدُوقَ الغَامِضَ وَيَنْقُلُ مَا فِيهِ مِنْ رَسَائِلَ إِلَى حَقِيبَتِهِ الجِلْدِيَّةِ السَّوْدَاءِ. أَدْرَكْتُ رَغْمَ أَنْفِي أَنَّ الرَّسَائِلَ تَظَلُّ حَبِيسَةَ الصُّنْدُوقِ إِلَى أَنْ يَفُكَّ السَّاعِي الـمُتَطَفِّلُ أَسْرَهَا وَيُوصِلَهَا إِلَى أَهْلِهَا مُتَقَفِّيًا عَنَاوِينَهُمْ الَّتِي كَتَبَهَا الـمُرْسِلُونَ. يَفْعَلُ ذَلِكَ يَوْمِيًّا وَهْوَ يَـمْتَطِي صَهْوَةَ دَرَّاجَةٍ نَارِيَّةٍ أَوْ هَوَائِيَّةٍ. مَا صَدَمَنِي حِينَهَا لَيْسَ جُمُوحَ خَيَالِي وَلاَ سَذَاجَةَ فِكْرِي وَلاَ الثِّقَةَ الصَّمَّاءَ فِي تَـمَامِ قُدْرَتِي عَلَى فَكِّ شَفْرَةِ الأَسْرَارِ. إِنَّـمَا هُوَ خَيْبَةُ أَمَلِي فِي الذَّكَاءِ البَشَرِيِّ: كَيْفَ لَـمْ يُفَكِّرْ أَحَدٌ طِيلَةَ كُلِّ هَذِهِ العُصُورِ فِي تَشْيِيدِ شَبَكَةِ الأَنْفَاقِ الَّتِي بَنَاهَا خَيَالِي فِي لَمْحِ البَصَرِ؟! مَا نَفْعُ التَّطَوُّرِ العِلْمِيِّ الـمَزْعُومِ إِنْ كَانَ حَمَلَةُ مَشَاعِلِهِ قَاصِرِينَ عَنْ تَجْنِيحِ الرَّسَائِلِ؟! عَلاَمَ يَتَعَمْلَقُ أَدْعِيَاءُ العُلَمَاءِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الـحُجَّةُ عَلَى جَهَالَتِهِمْ؟!

عَلَّمَتْنِي خَيْبَةُ الأَمَلِ فِي أَنْفَاقِ صُنْدُوقِ البَرِيدِ أَلاَّ أَمْنَحَ مُخَيِّلَتِي صَكًّا عَلَى بَيَاضٍ وَأَنْ أَشُكَّ فِي صَوْلاَتِهَا غَيْرِ الـمَضْمُونَةِ العَوَاقِبِ وَأَنْ أَغْرِسَ أَظْفَارِي فِي الطِّينِ إِذَا مَا عَنَّ لَهَا الشَّطْحُ وَالـجَمْحُ. بَيْدَ أَنِّي، كُلَّمَا أَضْنَانِي الاعْتِصَامُ بِحِبَالِ الأَرْضِ وَأَصْفَادِهَا، صِحْتُ فِي سِرِّي: كَمْ أَحِنُّ إِلَى مُخَيِّلَةٍ لاَ تَشِيبُ جَذْوَتُهَا وَلاَ يَجِدُ الـهَرَمُ إِلَى رِيشِ أَجْنِحَتِهَا مَسْرَبًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى