صفحة من حياتي
(1)
وصلت إلى مرحلة من حياتى أجد فيها نفسى مسوقة بدافع من الواجب المريح للنفس إلى الحديث فى ايجاز عن الأساتذة والصحاب الذين ساعدونى فى مستهل حياتى الأدبية على النشر وفتحوا أمامى الآفاق ..
وهذا بعض الاعتراف بالجميل .. قبل أن أعجز حتى عن الشكر والوفاء ..
***
نشأت فى قرية صغيرة بقلب الصعيد تقع على النيل مباشرة وقريبة من الخزان .. فى جو تتجلى فيه الطبيعة بأجمل مظاهرها .. الماء والخضرة ويسوده الهدوء .. فعشت عيشة هادئة لم يعكر صفوها أى شىء ..
وأحسست بالحزن لأول مرة فى حياتى عند موت والدتى ، وكنت فى السابعة من عمرى ، ولأن جنازتها كانت مفجعة .. كرهت من بعدها كل الجنائز وحتى الأفراح ، كرهت كل التجمعات ..
ولم أشعر بزوجة الأب فى حياتى ، لأنى لم أحس بوجودها قط ، ولذلك لا أثر لها فى قصصى ..
ولكن فقدان الأمومة وحنانها ، يظهران من حيث لا أشعر ، فى بطلات القصص وغالبيتهن فى سن الثلاثين ..!
وليس فى أسرة والدى من تعلق بالأدب من قريب أو بعيد ، ولكن أسرة والدتى فيها أكثر من أديب عشق الأدب إلى حد الوله ..
وألفيت نفسى أتجه إلى الأدب ، وأنا فى مرحلة الدراسة الابتدائية .. وكان أستاذ اللغة العربية هو الذى نتلقى عليه حصة الدين .. فبدأ بسيرة ابن هشام فى توسع وفهم .. فحبب إلينا الاستماع والتلهف على ما يأتى من الدروس ..
ولما انتقلت إلى القاهرة فى الدراسة الثانوية شغفت بالمنفلوطى .. وكانت العبرات تثير فى مآقينا الدموع ..
ولقد سيطر المنفلوطى بروائعه على جيلنا بأجمعه ، وكانت كتبه تتداول بين الطلبة ، وتخفى فى بطون الأدراج ، لتقرأ خفية فى حصص الجبر والهندسة ..
وفى نهاية الدراسة الثانوية وبداية الدراسة الجامعية التى لم تتـم .. قرأت الأدب القديم والحديث .. ونوعت وسائل الاطلاع .. وساعدنى على ذلك ذهابى إلى دار الكتب يوميا ..
قرأت فى دار الكتب مجلة " البيان " لعبد الرحمن البرقوقى ، وكان يكتب فيها محمد السباعى وعبـاس حافظ والعقـاد والمازنى .. مقالات وترجمات عن أدب الغرب ، فى كل ألوان الأدب وفنونه ..
ثم قرأت مؤلفات الزيات والمازنى والعقاد وتوفيق الحكيم وزكى مبارك وصادق الرافعى وطه حسين وعلى أدهم وسلامة موسى وحسين فوزى وشوقى وحافظ وطاهر لاشين وابراهيم الحصرى ويحى حقى ومحمد تيمور ومحمود تيمور ..
كما قرأت فى دار الكتب عيون الأخبار وصبح الأعشى والأغانى .. والبيان والتبيين .. ودواوين المتنبى والبارودى وابن الرومى ومهيار ..
واستأثر بلبى كتاب الأغانى ، فكنت أطلبه من مخزن الدار فى كل صباح .. وهو الذى أبقانى أثناء عطلة الدراسة الصيفية مقيما فى صالة الدار طول النهار ، لأن الاضاءة كانت معطلة فى الليل ..
وكانت الجلسة فى دار الكتب مريحة وتساعد على طول المكوث .. ونسيان المرء أوقات الطعام ..
وفى دار الكتب تعلمت من الحكمة المسطرة على الجـدران " كل كتاب تقرأ تستفد .." .
فكنت أقرأ كل كتاب يقع تحت يدى حتى ولو لم يكن هو الذى طلبته ..
كما تعلمت " وخير جليس فى الزمان كتاب " ..
ولقد عشت وحيدا ، ولست اجتماعيا بطبعى .. وقد جعلنى الخجل الفطرى ، أستطيب الوحـدة ، وأحن إليها ، وأنفر من المجتمعات والناس ..
ولقد كرهت السياسة ، وكل مشتقات الكلمة ، ولعنتها كما لعنها وكرهها الامام محمد عبده ..
ولكن الوحدة وسكنى فى الغرف المفروشة فى القاهرة والسويس ، جعلانى أعيش عن قرب مع خليط غير متجانس من البشر ..
وأفادتنى هذه التجارب كثيرا عندما سافرت بعد ذلك إلى الخارج ، وتجولت فى كثير من البلاد ..
وكان محمد السباعى وعباس حافظ يترجمان كثيرا من روائع الأدب الروسى .. فشغفت بهذا الأدب الواقعى ، لأنه يصور الحياة بصدق ويصف حياة الانسان المطحون الذى لاحول له ولا قوة ..
ثم بدأت أقرأ هذا الأدب مترجما من الروسية إلى إنجليزية من ترجمـة الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنت .. وكانت تحـب الأدب الروسى وعاشت لتنشره بلغتها ..
وبهرنى تشيكوف .. ودستوفسكى .. ومكسيم غوركى ، وبهرنى الأخير أكثر لعصاميته وصلابته ، ولأنه شق طريقه فى الحياة بأظافره ..
ولكن تشـيكوف كان استاذ كل من كتب القصة القصيرة وتفرغ لها .. ومنـه تعلمـت أن أكتب القصـة القصيرة فى صفحة " هاجر " ( العربة الأخيرة ) ..
وعندما صدرت مجلة الرسالة عام 1933 دفعنى عشقى لتشيكوف وحبى لأستاذى الزيات ، أن أترجم لتشيكوف قصة .. فترجمـت قصـة " الجورب الوردى " فنشرها الزيات ونشر غيرها ..
وبعد رحلة طويلة إلى أوربا الشرقية .. على متن باخرة رومانية .. وعلى الظهر " الدك " بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وايابا ـ ولكنى لم أنم على ظهر السفينة ، فقد استأجرت " قمرة " بحار فى السفينة طول هذه الرحلة بجنيهين ـ وكنت أنزل إلى القاع وأختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم ويغذون النار " كانت كل المراكب فى وقتها تدار بالفحم " ويقصون علىّ حياتهم فى البحار ..
ورجعت من الرحلة فكتبت قصة " الرحيل " 1935 ثم " رجل " 1936 وفى مجموعة رجـل قصة اسمها " الأعمى " فتوجهـت ومعى الكتاب إلى الرسالة لأنشر عنه اعلانا صغيرا فى المجلة .. وتناول أستاذى الزيات الكتاب الصغير فى يده .. وقلبه .. فلما وقع نظره على هذه القصة .. سألنى عنها .. ووجد فيها جديدا . وطلب منى نشرها فى الرسالة .. ونشرها فعلا على عددين ..
ولقد لمست صفات هذا الرجل الكريم وقلبه .. لما حدثنى بعد ذلك عن كل المكالمات التليفونية التى تلقاها اعجابا بهذه القصة ..
وشجعنى بهذا وفتح قلبى على مواصلة الطريق .. فأخذت أتابع النشر فى الرسالة .. وانقطعت عن الترجمة لأنى وجدتها ستقتل موهبتى ..
وطبعت كتب الرحيل .. ورجل .. وفندق الدانوب .. والذئاب الجائعة .. والعربة الأخيرة .. وحدث ذات ليلة .. على حسابى ومن قوتى اليومى .. وأنا موظف صغير .. ولم أستفد من هذه الكتب أية فائدة مادية .. بل سببت لى جميعها خسارة محققة ..
ولما توقفت مجلة الرسالة بسبب الحرب .. أخذت أنشر فى بعض الصحف اليومية .. وعرفت عاشور عليش وبعده سليمان مظهر وعبد العزبز الدسوقى .. وكان الثلاثة فى جريدة الزمان يشرفون على الصحيفة الأدبية ..
وقد قضيت معهم صحبة طيبة عامرة بالنشاط .. فالثلاثة أدباء قبل أن يكونوا صحفيين ، وخلت نفوسهم من العقد ..
ومع أنى كنت أنشر فى الزمان من غير أجر اطلاقا .. ولكن وجود هؤلاء فى الصحيفة جعلنى فى أتم حالات الرضى النفسى ..
ثم كتبت فى مجلة الجيل .. وكان موسى صبرى رئيس تحرير المجلة ، وفى الوقت عينه رئيس تحرير الأخبار .. وهو أنشط من عرفت فى حياتى من البشر .. ويستطيع أن يعمل عشرين ساعة متصلة .. وعنده خاصية مفردة فى استقبال الناس بوجه بشوش ، ونفس ضاحكة .. مهما كانت متاعبه ..
وبمثـل هذه البشاشة الطبيعية والتى تجرى فى دمه استقبلنى وأنا أنشر ..
وكنت أقدم له القصة ، وهو فى الصالة الرحبة فى الدار .. فيقرأها وأنا جالس بجواره مهما كانت مشاغله ثم يسقطها على التو فى الشريط النازل إلى المطبعة ..
وفى مجلته نشرت مقالاتى عن الصين وهونج كونج واليابان .. ونشروا صورتى مع كل مقالة ..
وكنت أكتب هذه المقالات فى مقهى بضاحية مصر الجديدة .. اعتدت أن أقضى فيه النهار بطوله من الثامنة صباحا إلى الخامسة أو السادسة مساء لأسجل كل ما فى خاطرى فى جلسة واحدة .. ثم أنقحه بعد ذلك على مهل فى يومين أو ثلاثة ..
وبعد نشر صورتى فى المجلة .. غيرت المقهى لأنى ضقت بنظرات الناس وأسئلتهم ..
وفى الفترة التى بعد فيها موسى صبرى عن الدار عرفت حسين فريد وهو انسان طيب دؤوب على العمل فى صمت وأحمل له مودة صامتـة مثل صمته ..
وعندما تولى عبد الرحمن الشرقاوى الصفحة الأدبية فى الشعب .. وهو شاعر نابغة وأديب عظيم .. نشرت فى صفحته أكثر من قصة بقلب متفتح .. وقد أهدانى عبد الرحمن الشرقاوى كتابه " أحلام صغيرة " وكنت أود أن أرد له هذا الجميل فى كتابى التالى له مباشرة .. ولكن الاهداء سقط من المطبعة .. ولم أستطع أن أوفيه حقه إلا فى كتاب " السفينة الذهبية " سنة 1971 وهو الذى حمل المخطوط إلى الدار وأنقذنى من ضيق مالى شديد ..
ولقد سافرت إلى الخارج فى رحلة طويلة ، سافرت إلى الهند والصين واليابان .. والفضل فى هذه الرحلة إلى يوسف السباعى ومازلت أذكر له هذا الجميل فى أعماق نفسى وسأظل أذكره ..
وكذلك الأخ زكى غنيم الذى مازال يحاورنى حتى قبلت السفر ..
وأعتقد كما يقول المثل الصينى " ان مشاهدة واحـدة خير من الف كتاب " وهذا حق .. فقد أثرت فىَّ هذه الرحلة تأثيرا بليغا ووسعت من أفق حياتى وزادت من تجاربى .. بل وخلقت منى انسانا جديدا ..
وكان غرضى من تصوير المدن وما فيها من نظام وأمانة ونظافة وبهجة .. أن نحتذى ونستفيد ، ولكن مع الأسف هيهات ثم هيهات ..
وذات ليلة زارنا د . عبد الحميد يونس فى نادى القصـة بميـدان التحرير ومعه صديقه ورفيقه محمد حمودة .. وطلب من الحاضرين جميعا قصة قصيرة .. لأنه تولى الصفحة الأدبية فى الجمهورية ، وكان ذلك فى سنتها الأولى ..
وقد لبيت طلبه بحماسة .. ونشرت " لجنة الشباك " وهى قصة أعتز بها .. ولازالت هذه اللجنة تنخر فى جسم هذه الأمة وستظل تنخر .. واستجاب لطلبه أيضا .. أمين يوسف غراب وعبد الحليم عبد الله .. وسعد حامد .. وغيرهم ..
ولقد قضيت مدة طويلة موظفا فى وزارة واحدة ، ومع ذلك فكلما دخلت من الباب كانوا يحسبوننى زائرا ..!
ولقد لقيت السماحة والتعاون من كل الذين عملت معهم من الموظفين .. الرؤساء والزملاء .. وكثيرا ما تجاوزوا عن أخطائى .. ولهذا فأنا أحمل لهم دوما ذخيرة من الأخوة الصادقة .. وأبعدتهم عن قصصى عامدا ، لأنه يكفيهم ما يلاقونه من متاعب الحياة ، وأعباء الوظيفة .. وتعقيدات من يصفون أنفسهم بالعبقرية ويفرضون عليهم ..
ولقد بدأت الكتابة مع صديق العمر .. هلال شتا .. الذى عصرته الوظيفة فتوقف بعد " الشفق الأحمر " وهى قصص واقعية متفتحة وتدل على مواهب أدبية أصيلة .. وآن لهذه المواهب الكامنة فى أعماق النفس أن تنفجر بعد أن تحرر صاحبها من اسار الوظيفة .. كما آن لهذا النبوغ أن يلقى من يتجاوب معه ..
ولابد أن أذكر هنا كل الأساتذة الذين كتبوا دراسات مستفيضة وموجـزة عن قصصى فى الكتب والصحف ، ولم أوفهم حقهم من الشكر ، وبعضهم لم أقابله اطلاقا إلى الآن .. وهذا ما يحز فى النفس ..
والذين كتبوا دون سابق معرفة ( وسأذكر الأحياء فقط مد الله فى عمرهم ) ..
د . محمد عبد المنعم خفاجى .. ثروت أباظه .. رجاء النقاش .. فؤاد دوارة .. محفوظ عبد الرحمن .. ماهر شفيق .. ماهر خزام ..
والذين كتبوا بعد المعرفة حسب الترتيب الزمنى للكتابة ..
د . عبد الحميد يونس .. وديع فلسطين .. محمد حمودة .. محمود الشرقاوى .. محمود يوسف .. عبد الرحمن فهمى " كاتب القصة " .. محسن الخياط .. محمد تبارك .. محمد جبريل .. مأمون غريب .. فاروق خورشيد .. فاروق شوشة .. أبو المعاطى أبو النجا .. أدوارد خراط .. سعد حامد .. د . سيد النساج .. نبيل فرج ..
وأنه ليثلج صدر كل كاتب قصة قصيرة أن يتفرغ لها أديب ناضج متمكن مثل د . سيد النساج ، فيظل يبحث وينقب فى دار الكتب على مدى ثمانى سنوات متصلة .. ثم يخرج بعمل شامل دقيق يستوفى على الغاية ، ويسجل فيه اسم حتى من كتب قصة واحدة طول حياته ..!
وغالى شكرى كتب دراسة متأنية وقيمة دون أن يوجه إلىّ سؤالا واحدا .. ولذلك أدركت مقدار ما بذله من جهد وأكبرته ..
وادوارد خراط .. القى ضوءا باهرا ، وهو يحمل فى يده مصباحا سحريا فى قوة قلمه .. وفنه .. فغمرنى فى فيض من الرضى النفسى الذى تشعر به بعد عذاب طال أمده ..
وعلاء الدين وحيد .. الذى لم أذكره حتى الآن .. لأنه يخجلنى بكل ما فعله من أجلى .. تفرغ لى بكل طاقته الفنية ، وكل مواهبه .. ليكتب ويبحث فى صمـت .. ولما بينى وبينه من صداقة متمكنة على مدى الزمن ، فهو يبالغ فى ذكر الحسنات ويتجاوز عن السيئات ..
وسعد حامد الزميل فى مهنة الشقاء .. والذى يتحرك معى فى نفس الأمكنة بصبر وجلد الفنان .. أرجو ألا يكون حظه فى حياته الأدبية مثل حظى ..
نشرت فى مجــلة الثــقافة ـ العــدد 18 ـ مـارس 1975 وأعيد نشرها فى كتاب " ذكريات مطوية " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2006