الشيخ عمران
كانت عندنا فرس من كرام الخيل، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل، أم ذهبت على وجهها فى الحقول؟!..
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ "عمران" فى النجع.. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق..
وراح الخدم يخرجون الخيل.. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر. وكان معى خفيران من خفراء المزرعة، مسلحان بأحدث طراز من البنادق، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد..
وأخذ "مسعود" ـ أحد الخفيرين ـ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى.. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له، فمر تحته قارب صيادين، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه، وأحس بهم الشيخ عمران.. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك!..
وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية "الوليدية" فى أسيوط.. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز، وأخذ يحصدهم حصدًا..
ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع.. وأدير الكوبرى.. ومر العرب يقرعون الطبول..
قص على مسعود هذا وغيره. وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها.. وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها.. إنه رجل رهيب، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها، وإذا تنكر لقوم بطش بهم.. مسحهم من الوجود مسحًا.. بدأ حياته كقاطع طريق صغير، ثم تطور وعظم أمره، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا..
ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال، رجلا فى طول المارد وبطشه، له جسم ثور وقوة عنترة.. دائما مسلح، دائما مقاتل..
واقتربنا من النجع، وكانت الجياد تتصبب عرقًا، والتعب قد بلغ منا منتهاه. ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة.. والكلاب تنبح فى كل مكان، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل..
ولم نجد الشيخ عمران فى النجع، بل كان فى جزيرة وسط النيل، فتركنا الخيل فى النجع، وركبنا زورقا إلى الجزيرة..
* *
وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة. ولقد ذهلت عندما رأيته، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة، مدور الوجه جامد الملامح، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام، جاوز الخمسين هادئًا، ساكن الطائر. هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها؟!..
رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة، ولم يكن يلقى باله إلينا، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض!! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد..؟!
وعرف مسعود، ونظر إلىّ قليلا ثم قال:
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم؟..
ـ أجل..
فرحب، وفرش لى "زكيبة" وجلست بجواره فى الظل، وعيناى لا تتحولان عنه. لا، إننى مخطئ. إن نظرتى الأولى كانت عاجلة. إن هذا الرجل ليس كالرجال، إنه من طراز آخر، إن له شخصية جبارة..
وشربنا القهوة، وحدثته عن الفرس، فضحك وقال:
ـ لم يبق إلا هذا..!
ثم أردف:
ـ لقد شرفتنا، ونحن فى موسم الإيجار، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى، وتعود إلى والدك محملا بالمال..
ابتسمت وشكرته، إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة..
وتغدينا وأكلنا البطيخ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما:
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية..."
ومشى معى يطوف بالحقول..
* *
مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران، كانوا فى أخصاص من "البوص" قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول. لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها، فإذا بصروا بنا نهضوا، وزجروا الكلاب، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه، فإذا رفضنا قال فى حماسة:
ـ إن هذا لا يصح.. إن هذا لا يصح..
ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه.. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها.. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا، ولا خنجرًا ولا بندقية.. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة.. إنها فى قبضة مارد جبار.. وحدثته عن هذا، فنظر إلى مليًا، ثم قال مبتسمًا:
ـ إن كل شيء هنا حسن.. والشر يجيء لنا دائمًا من المدينة، عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق، يعرف الشاى الأسود "والتمباك" و"الحسن كيف".. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق.. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين، ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل، والملاهى البراقة فى كل مكان، يرى كل هذا، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا، كان كمن ضرب على أنفه، إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات، وروث البهائم.. هل أنا كائن حى..؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا؟.. هل أنا من طينة هؤلاء؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا. وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة.. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا.. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار.. ويغشون ويخادعون، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل، لأنك صاحب الأرض، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم..
فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى:
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون.. ظلم أجيال وأجيال. إن الفلاح المصرى يسرق، ويخادع، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا..؟
ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا..
وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة، ونودع الشمس الغاربة..
* *
ابتدأ النساء فى الجزيرة يخرجن من الأخصاص، وعلى رؤوسهن الجرار ويتجهن إلى النيل. رأيت سواعدهن البضة وهى تتحرك من بعيد، وبعض وجوههن النضرة.. كن يمشين فى خفر أسرابا، وكن جميلات فاتنات..
ونزل الشيخ عمران إلى النيل وتوضأ، ولما غربت الشمس صلى، وعاد فجلس بجوارى صامتًا، وكان الظلام يتساقط رويدًا رويدًا..
وتعشينا، وفرشوا لى لأنام، كان الشيخ عمران يود أن أنام داخل "الخص" ولكننى رأيت أن أنام فى العراء لأرى هذا الرجل الرهيب فى الليل..
إنه لا يدخن، وهو رجل قليل الكلام، كثير الصمت، وصوته ليس جهوريا، ولكنه قوى آمر. ولعل ذلك راجع إلى أنه تعود صيغة الأمر دائمًا فى حديثه مع الناس. وهو فى الليل لا يغير ثوبه كما يفعل كثير من القتلة، وإنما يظل كما هو لا يتغير فيه شىء.. تتركز حواسه كلها فى باصرتيه ويغدو خفيف الحركة، سريع اللفتة، يقظ السمع، يرنو ببصره إلى بعيد، لقد أدركت قوة بصره فى الليل وهو يرى من وراء الأبعاد، ويخترق به حجب الظلام، ويسمع أدنى حس. كانت تمر تحتنا قوارب الصيادين، وكان يسمع حركة المجاديف وهى مقبلة من بعيد، فإذا اقتربت من رأس الحجر فى طرف الجزيرة صاح بصوته المرعب:
ـ من هناك..؟
ـ نحن يا عم الشيخ عمران..
ـ ابتعد عن الحجر وخليك إلى الشرق..
ـ حاضر..
إنه لا يريد أن يقترب أحد من عرينه.. إنه قاتل، والقاتل فى الصعيد دائما مطارد، ولو عاش ألف عام. وعندما يخور الشيخ عمران ويستضعف سيتمزق إربا، ولقد خلف وراءه فتيانا أشداء، وله أسرة مرهوبة الجانب، وقد يعيش فى هذه الشيخوخة فى ظلها وعلى حسها، وإن كان لا يزال شامخ الأنف، لم يسقط فى حياته سقطة واحدة..
شمل الظلام كل شيء ولفنا فى ردائه، ونام من معنا من الفلاحين، وبقيت ساهرًا مع الشيخ عمران. لقد شعرت بطراوة الهواء ولينه، وعمق السكون، وكنت أود لو أتمرغ على الرمل وأنزل لأسبح فى النيل، كان كل شيء ساكنا، والطبيعة سافرة طليقة من كل قيد، تشعر الإنسان بالحرية الصحيحة، كنت أشعر أننى قد تحررت من قيود المدنية الزائفة وأخذت أنظر إلى النجوم البراقة فى السماء، وإلى الغياهب.. غياهب الليل.. وإلى النيل الجارى تحتنا، وإلى مزارع النيل من حولنا.. وأتأمل وأفكر..
إن الشيخ عمران يجلس على هذه الربوة وحيدا فى الليل، وأولاده فى كل مكان، "معاذ" فى الماكينة، و"سلمان" فى النجع، و"عبد الكريم" فى الجبل، ولكن أنفاسهم جميعا معه..
وفى الهزيع الثانى من الليل، رأيته يدخل العريشة ويعود وفى يده شىء، إنها بندقيته.. وهى من طراز هندى ككل البنادق التى تراها فى الريف.. ولكنها فى يده شىء آخر.. وضعها بجانبه واستلقى وعينه إلى الغرب.. وضعت رأسى على الفراش وحاولت أن أنام، فالشيخ عمران ساهر علينا جميعا، ولكننى لم أنم، وظللت أراقبه.. تحرك، ومد البندقية.. وأطلق.. أطلق فى الهواء.. وسمعت صوت الطلقة وطاف بذهنى شىء.. لقد تذكرت، سمعت صوت هذه الطلقة فى الليل من قبل، كانت طلقة واحدة تنطلق فى ساعة معينة بعد نصف الليل.. وكنا نسمعها ونحن فى أجران العزبة، ونصيح فى صوت واحد:
ـ الشيخ عمران!..
إنه ظل على عادته يرسل هذه الطلقة كل ليلة.. طلقة واحدة ليس إلا، ثم يضع البندقية تحته وينام..
اعتمدت بمرفقى على تل من الرمل، وأقبلت أتحدث معه.. أخذ يحدثنى عن مغامراته فى الليالى السود، والمعارك الدامية التى تحدث فى القرى على لا شىء.. وحوادث السرقة فى وضح النهار، والزمن الذى تطور، وطوى معه كثيرا من القتلة فى الريف.. كان حديثه طليا ساحرا يستغرق الحواس كلها..
طلبت منه أن يحدثنى عن أول حادثة قتل فى حياته، فتجهم وأطرق طويلا.. لقد نبشت دخيلة نفسه.. إنه يتذكر.
رفع رأسه وقال فى صوت متغير:
ـ سأحدثك يا بنى..
وأطرق مرة أخرى، ثم رفع رأسه وقال:
"كان ذلك منذ سنين طوال.. كنت فى صباى.. وكان والدى يحب أن يزوجنا صغارًا، فزوجنى من ابنة عم لى، على عادة العرب فى قصر زواجهم على الأقارب.. وكانت صغيرة.. وكنا قد شببنا معا، ورعينا الغنم معا، فكان حبى لها قويا.. وكان كل شىء فى الحياة يمضى رتيبا ثقيلا.. لم تكن الحال كما تراها الآن آلات للرى، وزراعة، وعمران، بل كان جدبا شديدًا وفقرًا شاملا، كنا نعيش من بيع الملح.. نجىء به من الجبال ونبيعه فى القرى النائية. وكنت أطلب الرزق أينما وجد. فلم يكن من السهل على رجل فى مثل شبابى ورجولتى أن يتبطل..
وكان هذا الفقر يدفع العرب إلى السلب والنهب، وقطع الطريق على الناس.. فكانت الحوادث تترى، والرصاص يدمدم فى كل ساعة..
وحدث أن أغار جماعة من العرب على مزرعة واستاقوا مواشيها، وقتلوا خفيرا من خفرائها.. وجاء الجند، وعلى رأسهم ضابط طوقوا النجع.. وبدأوا يفتشون فى بيوتنا لأنها فى اعتقادهم وكر الجريمة..! وكنت غائبا، ودخلوا بيتى وفتشوه، وسأل الضابط « جميلة » زوجتى:
ـ أين زوجك..؟
ـ مسافر يا سيدى منذ شهور يجرى وراء معاشه..
ـ ومن الذى وضع هذا فى بطنك إذن..؟
ووضع أصبعه على بطنها، وكانت حبلى «بمعاذ»..
فعل هذا وخرج.. وصعقت المسكينة.. وطار الخبر فى كل مكان..
وعدت من سفرى وسمعت بما حدث وأنا فى الطريق.. ودخلت البيت ولكننى لم أحادث جميلة ولم أر وجهها.. وتناولت بندقيتى وخرجت.. وذهبت عند صديق لى فى الجبل، ومكثت عنده أياما.. وحاولت خلال ذلك أن أتناسى ما حدث، ولكننى كلما تمثلت الأصابع وهى موضوعة على بطن زوجتى أستطير خبلا، وأكاد أمزق نفسى..
وتركت البندقية عند صاحبى، وخرجت متنكرا أطوف حول «النقطة».. ورأيت خير ما أفعله أن آخذه، وهو خارج للدورية، بعيدًا عن النجع والقرى المجاورة لنا..
وخرجت فى ليله سوداء لا أنساها ما عشت، ففى هذه الليلة تقرر مصيرى يابنى، ورسم القدر خط الحياة لى.. وكانت ليلة من ليالى الشتاء، ضريرة النجم شديدة البرد، وكانت معى بندقيتى وخمسون طلقة، وكنت على استعداد لأن أقاتل جيشا بأسره، وأفتك بكل من يعترض سبيلى حتى ولو كان أبى..
كانت ثورتى جامحة، وغضبى لا يصور..
وكمنت فى زراعة قصب، وانتظرته وهو مار على ظهر جواده فى الطريق.. وجاء.. وصوبت وسقط..
وأطلق العساكر النار، ولكن طوانى الليل..
وبت هذه الليلة فى بيتى، واستطعت أن أقابل «جميلة»..
وصمت الشيخ عمران قليلا ثم أضاف:
ـ بعد هذه الليلة يا بنى تغير فى كل شىء، وجدت شيئا جديدا يعتمل فى داخل نفسى، واستطعمت رائحة البارود، وأصبحت حياتى كما تعرف وترى.. وأنت لا تستطيع أن تغير الدم.. الدم الجارى فى عروقك، أو تمحو أثر البيئة، وأنت تتعلم وتتهذب وترقى، ولكن دمك سيظل عربيا لأنك ولدت فى النجع ونشأت فى النجع، وفى هذا الجو الطليق عشت، وتنفست أول نسيم للحياة..
وصمت الشيخ عمران وتركنى لأنام..
مضى وحده فى الظلام، فقد سمع نباح كلاب شديد..
* *
بعد قليل عاد إلى مكانه، وكانت الكلاب قد كفت عن النباح، وعاد السكون.. وكانت النجوم تهوى فوقنا متعاقبة، والظلمة شديدة، والماء يجرى تحتنا ويهدر.. ومن ساعة إلى أخرى كنا نسمع صوت رصاصة تنطلق فى الجو.. لابد من هذا فى الريف، كان صوت الرصاص مألوفا عند الفلاحين..
بل لعلهم يأتنسون به أكثر من صوت الكلب، وصوت الإنسان، ويشعرون بالوحشة عندما يشتد السكون..
غلبتى النعاس، وصحوت والشمس تغمر وجهى، ولم أجد الشيخ عمران.. وسألت عنه فقيل لى:
ـ انه ذهب إلى النجع..
ورأيته بعد ساعة مقبلا من بعيد يمشى تحت وهج الشمس.. ووراءه ابنه معاذ.. معاذ الذى يحرس «الماكينة» بذراع واحدة.. فقد ذهبت ذراعه الأخرى فى حادث.. كان وهو غلام فى «الماكينة» ومعه أخوه الأكبر.. وذهب أخوه إلى القرية ليجىء بشىء، وتركه وحده.. فهجم عليه اللصوص فى الغروب.. وظل يقاتل.. واخترق الرصاص ذراعه، ومع هذا لم يستسلم، ولم يستطع أحد أن يقترب منه، أو يمس حديدة فى «الماكينة».. هذا هو معاذ، إنه من دم عمران ومن صلبه، كان يجىء إلى قريتنا كثيرا يحمل الإيجار، ويحاسب على الأرض، وكنا نعرفه جميعا.. وكان إذا تأخر واحد من إخوتى فى الليل، أو بات فى الأجران، سأل والدى عن الذى معه.. فإذا عرف أنه معاذ اطمأن وكف عن السؤال.. كنا نسميه «أبو ذراع» وكان واسع الحلم طيب المعشر.. فإذا غضب انقلب أسدًا..
حيانى معاذ وجلس.. وبعد قليل تحركت ذراعه.. ودفع يده فى جيبه وأخرج صرة ناولها لى وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامة:
ـ هذا إيجار زراعات الماكينة جميعا..
ـ جمعته كله يا معاذ..
ـ أجل..
ـ ولم يبق أحد..؟
ـ ولم يبق أحد..
ونظرت إليه، وكان يبتسم وعيناه تلمعان.. إنه صورة من والده.. نفس النظرة القوية.. ونفس الملامح الصارمة.. ونفس الشخصية الجبارة التى تفرض نفسها على من حولها..
جمع الشيخ عمران باقى المستأجرين، وشغلت طول النهار بتحصيل الإيجار، وفى المساء وضعنا الأوراق المالية والفضة فى كيس كبير أعطيته للشيخ عمران فوضعه فى العريشة أمام الجميع..!
وهبط الليل، وكنت قد تعبت طول النهار، فنمت فى أول الليل وصحوت على صوت طلقة.. لم تكن الطلقة التى تعودت سماعها من الشيخ عمران.. طلقة تذهب فى الهواء تدمدم.. لا.. إنها طلقة مكتومة.. رصاصة أصابت جسما واستقرت فيه.. فتحت عينى وتلفت حوالى.. لا أحد بجوارى غير عمران.. كان على قيد خطوات منى، نائما على بطنه ويده تعمل فى البندقية.. لقد أخرج الظرف وألقى به بعيدًا، ولما أحس بى، وعرف أنى صحوت، قال وهو يبتسم:
ـ لا شىء.. إنه ثعبان!..
ـ أقتلته..؟
وصمت ولم يقل شيئا، وظل وجهه مبتسما، ويداه تعملان فى البندقية.. ثعبان..؟ تلفت مرة أخرى.. أرسلت بصرى إلى رأس الحجر كان هناك شيء أسود وفتحت عينى جيدًا، وتفرست فى الظلام، وتملكنى الرعب.. إنه رجل نصفه فى الماء، ونصفه على الأرض.. وقد منعته الحجارة من أن ينجرف مع التيار..
ولقد جاء بعد أن عبر النيل فى زورق أو سواه ليقتلنى أو ليقتل الشيخ عمران، ولكنه انتهى فى لحظة واحدة وما أحس به إنسان..
ونظرت إلى الشيخ عمران.. نظرت إلى هذا الرجل، وحاولت أن أقرأ على وجهه شيئا ينم عن فعلته، شيئًا يدل على أنه قتل نفسا بشرية..
ولكنه على حاله.. لم يتغير فيه شىء.. إنه هادىء ساكن، وما نبض فى جبهته عرق، ولا اختلجت شفة، ولا اهتزت يد.. أى قلب..! وأى أعصاب..! ومن أى طينة هذا الرجل.. إننى إذا ضربت خادما بعصا فى ثورة غضب، أظل طول الليل أتململ فى فراشى، والندم يأكل قلبى، ولا أعود لنفسى إلا إذا طلبت من الخادم أن يصفح عنى.. أما هذا الرجل فهو يقتل إنسانًا.. ولا تتحرك فيه جارحة، ولا يظهر على وجهه شىء.. أى قلب..! وأى أعصاب..!
بعد قليل تحرك، ومشى إلى رأس الحجر.. مشى متمهلا، ورأيته يدفع الرجل العالق بالحجر برجله.. وذهب الرجل مع التيار..
وعاد عمران إلى مكانه كما كان أول الليل.. كأن لم يحدث شىء..
* *
فى أصيل اليوم التالى، غادرنا الجزيرة إلى النجع، وبعد أن استرحنا، وشربنا القهوة فى مضيفة الشيخ عمران، أمر بإعداد الركائب، وكان هو وابنه «معاذ» سيرافقاننى إلى قريتى..
ولما خرجت إلى الساحة، وجدت فيها ما أدهشنى.. وجدت فرسنا التى سرقت مسرجة ومعدة لركوبى..! ونظرت إلى ذلك الرجل الجبار نظرة امتنان وشكر.. سأعود الآن إلى قريتى مرفوع الرأس وكل ذلك بفضله.. ولقد علمت أن معاذًا جاء بالفرس منذ يومين وكتموا عنى الخبر لأفاجأ هكذا..
وركبنا نحن الثلاثة وخرجنا من النجع. وكان الشيخ عمران يركب حمارًا وكذلك ابنه، ولهذا سرنا متمهلين نقطع الطريق بالحديث والتندر مع معاذ.. وكان دائم المرح حلو الدعابة، لا يكف عن الضحك ولا يعير باله لشىء فى الوجود وهو الرجل المقطوع الذراع.. وكانت وجوهنا إلى الشمس.. فلما غربت تنفسنا الصعداء، وأسرعنا فى السير، وكان الطريق على عادته مقفرا وكل شىء فى سكون.. وأخذ الظلام يشتد ويلف كل شىء فى ردائه الأسود..
وكنا كلما أوغلنا فى السير زاد السكون، واشتدت الوحشة فى الطريق.. وقطع هذا السكون دوى رصاص شديد انهمر فى غير انقطاع مرة واحدة، واستمر عدة دقائق.. فتمهلنا فى السير، وأمسكنا بالبنادق..
وقلت للشيخ عمران وأنا أتسمع:
ـ عرس فى القرية..
فقال وهو ينظر إلى ومض البارود:
ـ إنه ليس بالرصاص الذى يطلق فى الأفراح، إنه شىء آخر..
انقطع صوت الرصاص، وخيم السكون من جديد.. وظللنا نرقب.. ورأينا من بعيد خطا أسود يزحف إلى الغرب.. ومددنا أبصارنا وتبين الخط الأسود.. وضح ما فيه.. إنها ماشية تساق سراعًا فى طريق غير مألوف.. وخلفها وأمامها رجال مسلحون.. لقد سرقوا هذه المواشى من القرية، واشتبكوا مع الحراس فى المعركة التى سمعنا دويها. ثم تغلبوا عليهم وهاهم قد أفلتوا بالماشية يسوقونها سراعا..
وترجل الشيخ عمران، وأشار علينا بالنزول.. ترجلنا وبحثنا عن مكان نربط فيه الركائب، ووجدنا ساقية خربة.. فربطناها فى ترسها وأخذنا نرقب.. تحول الرجال بالماشية إلى طريق آخر، ومضوا فى الظلام وابتدأ عمران يعمل بسرعة.. تناول بندقيته ومضى فى أثرهم.. ولما هممنا بالذهاب معه، رفض.. وحلف على معاذ بالطلاق أن يبقى معى فى الساقية ولا يتركنى حتى لو قتل.. وبعد أن تنتهى المعركة بخير أو بشر نستأنف السير إلى القرية..
وخرج الرجل وحده، رأيناه يمضى سريعا كما يمضى الليث فى الظلام..
وبعد قليل سمعنا الرصاص يدمدم.. ابتدأ عمران يقاتل وحده.. أخذت بندقيته تزأر.. إن له طريقة فريدة فى القتال، كما أنه رجل فذ فى كل شيء..
واستمرت المعركة حامية مدة. ثم انقطع صوت النار.. وخيم السكون ولاحت لنا أشباح تتحرك. تتحرك فى اتجاهنا. إنها المواشى. وها هو عمران وراءها يسوقها.. لقد خلصها من اللصوص وحده..
ودخلنا بالمواشى المسروقة القرية، واستقبلنا أهلها استقبال الفاتحين.. وكان عمران يسير فى المؤخرة وحده.. مطرق الرأس، متواضعا كأنه ما فعل شيئًا..
= = =
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 7/12/1946 وأعبد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان: "العربة الأخيرة" و "قصص من الصعيد" من إعداد وتقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر.