«صابون تازة» لإبراهيم الحجري
في روايته الصادرة حديثًا عن دار «رواية» (القاهرة، 2011 م)، سيلفت انتباه القارئ العربي أن عبارة «صابون تازة» وردت مرة واحدة في المتن الحكائي، مما قد يربكه أكثر، فالعنوان ذو دلالة تطهيرية، «مستلهم من الخطاب التراثي الشفهي المغربي، الذي يتداول بقوة هذه العبارة تدليلا ساخرًا على ما يعتمر الواقع من أدران ودنس وتشوهات ومسوخ غير قابلة أبدا للمحو أو الغسل حتى بصابون تازة الشهير - قديمًا- بجودته».
في هذه الرواية، يكتب إبراهيم الحجري التاريخ المنسيّ (والمسكوت عنه) لبلدة «قطرينة»، فتتعدد المحكيات والرواة، تتشابك المصائر المأساوية، يلوث المدنس المقدس، يمتزج التاريخي بالعجائبي، ويغدو تفتيت السرد استعارة جمالية وسيكولوجية لتشظي الذات في واقع قاسٍ طاعن في سوداوتيه، ولن يجد السارد سوى السخرية - أحيانًا- للتخفيف من قتامة المروي، لا سيما عند كتابة سير مجانين دكالة، الذين اختاروا العيش خارج الزمن الرديء...
جرح الحنين:
يستهل إبراهيم الحجري روايته بحنين ذابح يجتاح والد السارد، في أيامه الأخيرة، إلى بلدته "قطرينة" فأروثه إياه أبوه قبل رحيله. يتذكر الأب معاناة أهالي القرية في عهد الحماية الفرنسية، ثم اجتياح الوباء للقرية، فاضطر الأب برفقة صديقه عباس إلى مغادرتها في اتجاه البيضاء على متن شاحنة، مختبئين وسط الخنازير، وعلى الرغم من الحنين الجارح والاغتراب والوحشة لم يستطع الأب العودة إلى القرية مثل صديقه عباس،" التي عشقها ومات وهو يحن إليها بجنون" (ص. 8)، لأنها تذكره بالأيام العصيبة.. الأرض السليبة.. والكرامة المهدورة؛ فقد أقسم ألا يعود إليها، ويمعن إبراهيم الحجري في رسم لوحة نوستالجية عذبة... حتى لو لم يملك شبرًا من الأرض في البيضاء، فقد بقي فلاحًا.. إذ يذهب إلى ضواحي المدينة في أيام فراغه راكبًا دراجته الهوائية، وحين يصل إلى الحقول يجلس القرفصاء، يسجد، ثم يقبل الأرض، وربما يبكي ويظل ممددًا على الأرض، وفي المساء، يعود مبتهجًا، كأنما زار قريته "قطرينة".
هكذا صارت البلدة أسطورة الأب، التي يصر على أن يحكيها للابن، الذي لا يعي أي شيء، بينما يحرمه من حكاياته المسلية، التي يسردها لأصدقاء المقهى، وكان آخر ما تلفظ به، وهو يحتضر أن يزور قطرينة.. فأورثه ذلك الحنين و"جرح الذكرى".
سيرة الألم:
مثلما عانى الأب من قهر المستعمِر، سيناضل ربيع /السارد من أجل حياة حرة كريمة.. مع أقرانه المعطلين، الذين تمّ الاعتداء عليهم واعتبروا خارقين للقانون، محرّضين على الشغب.. هكذا صار الوطن من منظور ربيع وأقرانه : " لا حاجة له بنا ولو اقتدنا جميعًا إلى الجحيم، يكفيه هؤلاء الذين ينهشون عظامه ويسوسون أحصنته الجميلة صوب الخراب" (ص. 19)، وبعد الإفراج عنهم، يصير مدجنًا، ويتقلب بين المهن.. يعمل نادلًا في مقهى، حارسًا ليليًّا، ثم بائعًا متجولًا، وأخيرًا أستاذًا جامعيًّا لمادة علم الاجتماع.
وتولد هذه المعاناة لدى ربيع تعاطفًا مع الجنون، حيث يعاشر المجانين ويستمتع بعوالمهم، ويعيش جنونه الخاص : " تجربة متوهمة جعلتني أتحاشى جنونًا حقيقيًّا وشيكًا، بعد هذه التجربة عدت قويًا، بعد أن تخلصت من هشاشتي، لأواجه العالم المقيت" (ص.25).
وفي رحلة البحث عن "ماضي" القرية، يلتقي ربيع صديق والده (عباس)، الذي يتهرب من الماضي، ويتعرف على المختار.. فقيه القرية، تلك الشخصية الإشكالية، غريبة الأطوار، الذي يعيش حياتين متناقضتين مع تعاقب الليل والنهار.. وتتعدد حكايا الشيوخ، فمنهم من يربطها بالسدرة، حيث كانت تختبئ الأفعى ذات الرؤوس السبعة، أو البستان العاقر، وثمة من يتحدث عن قرية أحرقت من طرف الفرنسيين، بعدما رجم أهاليها القائد العميل وطرده منها... وشيخ آخر يرى أن اسم "كطرينة" تحريف عاميّ لاسم "كترينا"، الزوجة الفرنسية للقائد العميل، التي سيتم اغتصابها من طرف شباب القرية انتقامًا لقهرهم من طرف زوجها.
للموت وجوه أخرى:
بموت عباس يموت الأب موتًا ثانيًا، والذي كان - من قبل- يحتضر ببطء، بعد أن عطبت ذاكرته، والكاتب هنا ينعي القيم... ولا يسعى إلى قتل الأب، إذ تفضح الرواية العهر بكافة أشكاله (الأخ عماد/ ربيعة الذي صار وزيرًا، الفقيه العربيد، الرجل الصالح الذي يحوّل زاويته إلى وكر للدعارة). هكذا يجتاز إبراهيم الحجري حذرًا حقل الألغام (الثالوث المحرّم ) انتصارًا للقيم المغتالة.. دون أن يسقط في الفضائحية والابتذال أو محاولة دغدغة مشاعر رخيصة لدى القارئ بحثًا عن انتشار وهميّ وزائف، حيث تجد ثلثي أحداث- إن لم تكن جلّها- روايات بعض الكتبة تقع خلف أبواب موصدة !
ولأن السارد سبح ضد التيّار، وحاول حماية نفسه من المصير التراجيدي لضيوف خلوات الأضرحة وكهوفها الرهيبة، فقد انتهى به المطاف مجنونًا مثلهم، و "ذنبه الوحيد أنه جاء من بعيد ينقب عن سيرة أهله الغائبين وعن تاريخ بلدة التهمها النسيان !" (ص.109).
"صابون تازة" نص سرديّ تجريبيّ ماتع، كتب بوعي سردي وجماليّ حاد، دون التضحية بالقرّاء/ المجازفة بــ "الحكاية"، كما يحدث لبعض الروائيين المغاربة، الذين يتناسون أن القارئ يهتم بمتعة السرد ولذة النص ولا تهمه ثقافة الكاتب الواسعة وإلمامه بكافة التيارات النقدية... فتتحول نصوصهم إلى مشانق للقرّاء ومقاصل...
رواية إبراهيم الحجري ترضي قرّاء الروايات الكلاسيكية ومحبّي النصوص التجريبية أيضًا، وقد استفاد الكاتب من خبرته النقدية بخلاف نقاد حاولوا امتطاء صهوة الرواية، فجاءت محاولاتهم مخيبة للآمال، مثيرة للشفقة... وأجمل ما في "صابون تازة" نكهتها الدّكاليّة وبداوتها الآسرة، التي نفتقدها في كتابات الكثير من الأصدقاء، وكأنما قدر "دكالة" (الجديدة ونواحيها) النكران حتى من أبنائها المبدعين، وهي المنطقة المميزة جغرافيًا، فلاحيًا وسياحيًا !