شوق على أنقاض الذاكرة
تطفئ الفانوس كعادتها لتحلّق في أفق مظلم يعجّ بالوجوه والحكايات. يغادرها النوم. تضع وسادتها فوق وجهها لتكون حاجزا بينها وبينهم. لكنّهم لا يكفّون عن الحديث. إنّهم يدخلون تحت الوسادة.
لا حاجز الآن بينها وبينهم. أصابعهم تشير إليها وأفواههم الضاحكة تزيد من توتّرها. ترمي وسادتها تشعل فانوسها من جديد وتواصل الحديث. يعودون بها إلى زمن بعيد لم تعد تذكر منه سوى بعض تفاصيله ولكنّها مضطرة في هذه اللحظة إلى التبرير لأنّها في أمسّ الحاجة إلى نوم عميق.
ها هم يتحدثون عن الطفولة عن زمن العبث عن أيام كانت مفرغة من العذابات والجنون.
ترى نفسها الآن طفلة، بشعر أشعث طويل بعينين دامعتين وشفتين قرمزيتين وفستان بلون الورد مرقّع بالسواد فستان بلون الحياة مرقّع بالعدم. ويدين صغيرتين تمسكان بدمية. وساقين تورّمتا من ضيق حذاء.
زمن مضى عليه من الوقت الكثير ورغم طول المدّة إلاّ أنّها مازلت تحس بضيق الحذاء مازالت تشعر بألم ما يثقل الكاهل ويخنق حنجرة الحنين
مازال في القلب ما يدعو للمعاناة.
هكذا كانت ملامحها أو هذه هي الصورة التي رسخت في ذاكرتها بعد مرور أربعين عاما على طفولتها. تتأرجح أفكارها اليوم بين الحاضر والماضي، بين التذكّر والنسيان، كانت حياتها إكليلا من التعاسة ، تميمة للأسى لا تفارق جسدها أو هكذا يخيّل إليها.
وهل يمكن أن يحمل الشوق ملامح شيء آخر أو بالأحرى ؟؟ هل من الممكن أن توصف الأشياء بما يتصف به الشوق؟؟ قطعا لا.
يفعل الحنين بشوق فعلته وإنّ الحنين غالبا ما يشتهي أن يحضر سؤالا لا نملك له إجابة. هل يحضر الحنين لدى الناس جميعا في صيغة الاستفهام أم أنّ حنين شوق وحده الحائر.
أين هي الآن تلك المشاعر؟ أين ذلك الخوف الجميل؟ أين تلك النظرة التي تعاتب لتسامح، تلوم لتعذر، تنهر وتغفر؟
أسئلة تُذهب النوم من عينيها فتتوقف عن الكتابة. ترفع رأسها يجول بصرها في السقف. تنـزله بسرعة لتنظر إلى الأرض وكأنّها تودّ أن تهرب من أفكارها وخواطرها. ترفع شعرها عن وجهها. تضع القلم على شفتيها المرتعشتين وتقلّب بصرها في الغرفة التي يعجز أثاثها عن معرفة ما تكنّه فليس في هذا المكان شيء يشاركها الذكرى.
هي الآن غريبة بين أشيائها ، لا يفهم أيّ منهما الآخر وعلى أشيائنا أن تفهم ما نريد وإلا فهي أشياء لا تحسن المعاشرة. ولعلّ هذا ما يجعلنا نحتفظ غالبا بما يمثل لنا بعض ذكريات وما يجعلنا نقف على الاطلال على قدر أو وتد وما يجعلنا كذلك نكسر المرآة إذا ما تغابت في فهم ملامحنا ولكن شوق اليوم أمام أشياء لا تمثل لها شيئا. تضع القلم على الورق تتساءل من جديد:
أمازال لشوق طاقة؟ أمازال لديها شيء من التمرّد؟ أمازالت ترفض الموجود أم أنّ شوقا لم تعد شوقا؟
وتعجز ككلّ مرة عن الإجابة فتشرّع باب الذاكرة وترحل إلى ماضيها من جديد...
تذكر الآن صورة "جميلة" أختها الصغرى صاحبة الجدائل الطويلة والعيون الجميلة. هادئة الطباع. صورة الفتاة التي تشعّ براءة وطفولة. وتفوح من جسدها أنوثة تعبق بالحياة والفرح. لقد كانت اسما على مسمّى كان وجهها قطعة من بدر ، اكتمل جمالا وزاده الحياء واحمرار الوجنتين ربيعا. تذكر الآن تلك الصرخة العميقة عمق الجرح تذكر العيون الباكية تذكر الدموع التي أذهبت الربيع، تذكر الظلم الذي حوّل حياة أختها إلى ظلام.
العادات والتقاليد هذا القاموس الغريب الذي يمتاز في هذا البلد بالقداسة أكثر من أيّ شيء آخر بل أكثر من المقدّس ذاته. هذا المجتمع الذي يُعميه التخلّف ولا يرى في المرأة غير جسد. مجتمع لا يعترف بتفكيرها ورغباتها ونوازعها وشياطينها الشهيّة التى تجعل للكون طعما مميّزا.
في ظلمة الليل ترى "شوق" البدر في ضوء فانوس، في تغريدة بوم رمته الأقدار على غصن شجرة تطلّ من النافذة، تسمع الصوت الدفين في داخلها ينذر بأحزان ذكرى بعيدة.
بعد أربعين سنة قررت الدولة أن تستغل الطريق الطويل وبعض البيوت لتضع مكانها مركبا للسياح غرف رائعة يمارسون فيها الحب ، قاعات إفطار يتبادلون فيها الابتسام والنظرات والكلام قاعة للرقص تنتفض فيها أجسادهم من تعب الحياة لقد قرّروا كذلك إنشاء مسابح تتلوها قاعتي حلاقة، فهنيئا للسياح بالترف في قرية القانون!
عند زيارة شوق للقرية لم تصدق ما حصل فيها من تغيرات أرادت أن تدخل المركّب لكنّ العملة هناك منعوها من ذلك رغم أنهم أبناء الجهة ، فما كان عليها إلاّ أن تغادر المكان وتكتم غيضها ، لقد تمكنوا من أخذ كل شيء أخذوا الشارع أيضا!! منعوا ساكناته الأصليّات من ممارسة الأنوثة ، من ممارسة الجمال ، ومن ممارسة الذكرى أيضا ، وهاهم يحرصون كل الحرص على تحقيق راحة السائحات على أنقاض الذاكرة.
أيجب أن تكون الفتاة منهنّ أجنبية لتمارس الجمال؟ وهل يمكن لتمرّد في سن الأربعين أن يغير شيئا؟
ستظل شوق على أمل وستكرر ما فعلته في المحكمة مرارا عندما أصرت على الطلاق من رجل لا يربطها به شيء أكثر من الفراش ، ستحاول أن تدخل المركّب ، أن تمارس فيه الحياة ، لكن يجب عليها أولا أن تطرد هذه الوجوه الذكورية التي تطاردها أثناء النوم و اليقظة.
طرق خفيف على الباب ، تشير الساعة إلى الواحدة ، تسارع شوق لتخبّئ دفترها ... لتخبّئ مواقفها ، تعدّل فستانها وتتجه نحو الباب ، تصطنع الابتسام لرجل نال منه السكر والسهر والدناءة ...
مازال أمامها شوط كبير لتقدر على التمرد ..
ولعلّ العمر لن يكفيها......